ساعات بين الكتب (٤)
يروج الأدب في أيام السقوط، كما يروج في أيام الرفعة. والمعول في الحالين على نوع الأدب ومادته لا على كثرته أو ندرته. ولقد راج الأدب رواجه المعروف في أيام اضمحلال الأندلس وإدبار دولتها، وما راج فيها ذلك الأدب الخاص بأيام ملوك الطوائف إلا لاضمحلال وإدبار الدولة، فإنه قد شاعت على عهدهم مجالس المنادمة واللهو بين الرؤساء والكبراء، بل نزلت إلى مصاف السوقة والعامة، وقعد الناس لها ولاقتناء آلاتها والتباري فيها، ثم دعت الحاجة إلى النظم والمطارحة في هذه الملاهي، فدار أدبهم كله على هذا المحور. فكان الغلام أو الجارية لا يساوم فيهما إلا على قدر حظهما من الأدب، وكان الفتى لا يظرف محضره ويعذب سمره حتى يروي من ملح النظم والنثر ونوادر الشراب والمجون ما يناسب تلك المجالس، ويصلح أن يدور مع الكأس على الندماء، فانعدم الشعر الفحل، وكسد الأدب الجزل، وراجت سوق الأدباء والمؤدبين في الأندلس لهذا السبب، لا لشوكة الدولة، ومنعة الملك والأمة.
ومن الشعراء المبرزين في أيام ملوك الطوائف أبو الوليد بن زيدون، أديب كانت قصائده مروية في أنحاء الجزيرة، وكان إمامًا يتحداه أدباؤها ويأخذون عنه، وهو شاعر سلس المذهب متخير اللفظ، تقرأ شعره فيطرفك ويروقك، ولكنه لا يستحوذ على لبك، ولا ينطبع في نفسك. قال أبو محمد عبد الواحد المراكشي في تلخيص أخبار المغرب: «نسيبه يختلط بالروح رقة، ويمتزج بأجزاء الهواء لطافة.» وقال ابن بسام في الذخيرة: «إن له حظًّا من النثر غريب المباني شعري الألفاظ والمعاني.»
والأصح عندنا أن يُقال: إن النثر في نظمه أكثر من الشعر، وإن ذوقه كان أقل من ظرفه، وكان ذكاؤه أظهر من عاطفته، وإن الصنعة أبين في شعره من الطبع. ألا ترى أنه في أحر قصائده التي نُسب فيها بولادة لم ينسَ الطباق والمقابلة بين ابتلال الجوانح وجفاف المآقي في قوله:
أو بين سواد الأيام وبياض الليالي في قوله:
أو بين السدرة والكوثر، وبين الزقوم والغسلين في قوله:
وقد لهج ابن زيدون بولادة أيما لهج، وأربت قصائده فيها على قصائد المجنون في ليلاه، ولكنك يندر أن تعثر بينها ببيت غلب فيه عشق الرجل للمرأة على صحبة الوزير لبنت الأمير وإخاء الأديب للأديبة. وهكذا كانت محبة ابن زيدون لولادة. فإنه يلوح لنا من قصته معها ومن شعره فيها أنه تحبَّب إليها منافسة لابن عبدوس الذي كان يزاحمه على الرئاسة، ويقارعه في الشرف، ويسابقه على الصدر في نادي ولادة. ولا يندر بين الرجال من يهوى المرأة لئلا يهواها عدوه، فلا يتوقف هواه لها على جمالها أو على تبادل الهوى بينهما، ولكن على المنافسة بينه وبين أقرانه ونظرائه.
وهبة الذلاقة والفصاحة قلما تتيسر لأحد مع عمق العاطفة وغزارة الشعور، ويقول جون ستوارت ميل في فصل له على تعريف الشعر: إنهما لا تتفقان في الأمة الواحدة، ففرق بين الفرنسيين والإنكليز بأن الأولين أمة الفصاحة والآخرين أمة العاطفة. وقريب من هذا قول سهل بن هارون: «اللسان البليغ والشعر الجيد وبلاغة القلم» والفصاحة أليق ما تكون حلية من حلي النثر، وشقاشق الخطابة، وإنما كان ابن زيدون شاعرًا فصيحًا كما كان كاتبًا فصيحًا، وكما كان متكلمًا فصيحًا، ولم يكن كذلك لمزية له في الشعر على غير الشعر، ولا لأن فصاحته التي لم تكن تفارقه كانت تنم على قوة عاطفة فيه، إذ المعهود أن قوة العاطفة لا تملك الإنسان في كل حين ولا تلازمه في حيث يتكلم جادًّا ولاهيًا، وفي حيث يُلقي الخطب ويقرض فنون الشعر، ولكن لأنه كان حسن موهبة الكلام، وكان كلامه طوع إرادته لا طوع خوالجه وأطواره.
وهذه الفصاحة فيه هي التي خُيِّل لابن بسام أنها رونق الشعر في كلامه المنثور، فوحد الشعر والفصاحة، وهما جد مختلفين، وشتان معدن الشيء وطلاؤه.
لكنك لا تخطئ أن تصادف في ديوان ابن زيدون البيت أو الأبيات فيها الوصف الصادق والشعر المطبوع؛ كقوله:
ومثل قوله:
ومثل قوله في الذكرى:
وهي أبيات نقية بارعة ليس عليها شيء من تمويه الصنعة، ولا يتخللها شيء من الشعور المكذوب والإحساس المدعى، فهي تسبق القارئ إلى نفسه وتذكره لأول نظرة بأمثال موقفها من مواقفه. وقد بلغ من سوء فهم الشعر قديمًا أن بعض الرواة نسب هذه الأبيات إلى ولادة، وزعموا أنها أنشدتها ابن زيدون بعد أول لقاء لهما! ولا نعلم ماذا يصنع هؤلاء الرواة بقوله: «كم بت أشكو؟» وهل هذا مما ينشد بعد اللقاء الأول؟ وقال أحد باشوات مصر المحسوبين على الأدب في محاضرة ألقاها على تاريخ ابن زيدون: إنه ارتجل هذه الأبيات وهو يودع ولادة ذات يوم، ولو أنه كان يفهم الشعر ولو كما يفهم الحفاظ آي القرآن لأدرك أنها أبيات لا تقال في موقف الوداع. إذ كيف يقرع السن على أنه لم يكن زاد خطوة في تشييعها وهو لم يزل بعد في موقف التشييع؟
أما سائر شعر ابن زيدون مما لا يتعلق به الاختيار فهو كشعر عصره، وكشعر كل عصر من عصور الاسترخاء والترف، لا يخرجه عن الطريقة وكونه من أحسن أهلها متاعًا، وأطولهم في النظم باعًا.
وما يدريك عصر الاسترخاء والترف؟ إنه عصر تزيغ فيه الأبصار والبصائر، فتكل عما وراء القشور والظواهر، عصر تكون البهائم فيه أصدق حبًّا من الناس؛ لأن البهائم لا تلعب بحبها ولا تبتذل غرائزها. تهجع المشاعر في أمثال ذلك العصر فتعربد الحواس، ويموت الحب الفطري فتمرح في رفاته ديدان الشهوات، ويأخذ الناس من كل شيء بأيسره، ويقنعون من كل مطلب بأقربه إلى الحس وأصغره، فلا يكون الجمال إلا صبغة في البشرة تلحسها الألسنة حتى تزول، ثم تمجها كما يمج البصاق الملوث من فرط التقزز والاحتقار، ولا تكون البساتين والأمواه إلا مجالس شراب ومراوح هواء، ولا الطبيعة بكلئها ورياحينها وثمارها إلا طنفسة مطرزة بمختلف الألوان والأشكال، ولا الشعر إلا بهرجًا براقًا لو صور بشرًا سويًّا لنالت منه العيون ما لا تنال النفوس، ولا الأخلاق والمروءة والشرف إلا آدابًا يصطلح عليها المعاقرون ليدوم لهم صفو المجلس، ثم ما شاء المعاقر بعد ذلك من غي وشنار، وما طاب له من عبث واستهتار لا يشينه ذلك ولا يقدح في آدابه.
فكانت ولادة يومئذ تلقب ابن زيدون بالمسدس، وتفسر هذا اللقب بهذا البيت:
وتكتب على طرازها الأيمن:
وعلى الأيسر:
ويجيء المؤرخ الأندلسي فلا يرى في شيء من هذا ما يدنس عرض المرأة، ويغض من حيائها، ولا يبالي أن يصفها بالصيانة والعفة والكمال.
ومما يدل أبلغ دلالة على حالة الأخلاق والأذواق في ذلك العصر ما حدَّث به أبو عمر المالقي حيث قال: «كنت جالسًا بمنزل بمالقة فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة، وكان يومًا شديد الحر، فراودتها على القعود فلم تمكني من القعود، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار وعنده الخطيب أبو محمد بن عبد الوهاب بن علي المالقي، فقال لي: إني كنت أدعو الله تعالى أن يأتيني بك وقد فعل فالحمد لله، فأخبرته بما كان مني، ثم جلست عنده فقال: أنشدني، فأنشدته لبعض الأندلسيين:
فصاح الشيخ وأغمي عليه وتصبب عرقًا، ثم أفاق بعد ساعة وقال: «اعذرني فشيئان يقهرانني، ولا أملك نفسي عندهما: النظر إلى الوجه الحسن، وسماع الشعر المطبوع».»
وقد ألف الضرب على هذا اللحن شعراء الأندلس، فقال بعضهم فيه أيضًا:
فهل عرفت في هذا النحو قط أغرب من صبوة ذلك الشيخ الخطيب، وتواجده واضطرابه حتى أغمي عليه طربًا لسماع تلك الأبيات وتصبب جسمه عرقًا؟ وهل رأيت عمرك أملح من هؤلاء الشبان ذوي النهود أو الشواب ذوات العوارض في الخدود؟
كذلك كانت صبوة القوم ومشربهم، وكذلك كان الشعر الذي كان يطربهم، إذا أرادوا أن ينبهوا بصائرهم الكليلة أو يحركوها وضعوا أمامها الصباح والشهب واليواقيت وكل ساطعة ولامعة صبرة واحدة؛ لأنها لا تنتبه لما دون ذلك من المناظر الطبيعية. وتنظر إلى أشعارهم وأوصافهم ودواعي السرور والحزن عندهم فيذكرك كل ما تراه منها بحال المختبل السقيم أو المخدر المذهوب العقل، تراه مثاقل الأعضاء، بطيء النفس، راكدًا يفسده السكون ولا تصلحه الحركة، وتلمح في طبعه روحًا تتوهمه سماحة وما هو بسماحة، وفي خلقه مجونًا تحسبه فطنة وهو نقيض الفطنة، ينعكس النور على عينيه فيملأ الدنيا أمامه رهجًا ووميضًا، وهو إذا سار في طريقه صدمته المحسوسات كأن الدنيا ظلام دامس وليل أليل، وما تشاهد عدا هذا من عرض من أعراض التخدر في الرجل، فهو أيضًا عرض من أعراض السقوط في الأمة. هما في ذلكم سواء.