ساعات بين الكتب (٥)
من الأوهام التي شاعت بين قراء الشعر عندنا، وبعض قرائه في الأمم الأخرى، أن الرقة هي الصفة الأولى للشعر كله، أو هي مزيته على النثر والكتابة والمباحث العقلية البحتة، وأن شعر الغزل على الخصوص ينبغي أن يكون مفرطًا في رقته، بعيدًا عن الخشونة، وعن كل ما يُذكِّر السامع بالعنف والقوة، فلا يحسب من شعراء الغزل المجيدين إلا من كان ظريف النسيب، خافت الصوت والوجيب، مكثرًا من الشكاية والنحيب، فإن بدرت منه كلمة جامحة؛ وأفلتت من وقدة صدره نفثة لافحة، فليس ذلك بغزل، وليس الشاعر بمطبوع على العشق ولا بمدرب على «العواطف»، ولكنه دخيل في هذه الصناعة متكلف لها.
إن هذا الوهم لا يقف ضرره عند حد الخطأ في فهم الشعر، أو في الحكم على مقاييس الآداب والفنون عامة، ولا يدل على فساد ذوق ونقص في ملكة التمييز بين صنوف الجمال فحسب، ولكنه يدل قبل ذلك على مرض في المزاج، وضعف في الأخلاق، وسخف في مدارك الفكر، وإذ دلَّ على هذه الخلال فقد دل على ما يلازمها من سقوط الهمم، وخبث الطباع، وأعراض التأخر والفتور في الأمم، لأن النفس التي تحس الحياة حق الإحساس وتجاري الطبيعة في قوانينها ومقاصدها لا يمكن أن تجهل العشق هذا الجهل، ولا تخطئ في وصف التعبير عنه إلى هذا الحد. ولا حظَّ في الحياة لمن انقطعت بينه وبينها صلة الشعور الصحيح المستقيم.
ونعتقد أنه ليس أعون لنا على فهم طبيعة العشق الصادق من الالتفات إلى نقطة واحدة؛ وهي علة استئثار الرجل بالغزل دون المرأة. فلماذا انفرد الرجال بالغزل ولم تنفرد به النساء إن كان مصدره الرقة واللين والنعومة، وكان براء من العنف والقسوة والخشونة؟ ولماذا يُباح للرجل أن يطلب المرأة ويُحمد منه الإلحاح في طلبها ولا يباح لها أن تطلبه ولا يُحمد منها أن تستجيب لأول دعوة منه؟
ولست أرى أن المرأة كانت تطرب حينئذ للأصوات من حيث هي جميلة وأجمل، ولكنها كانت تسمع أكثر الأصوات تنوع نبرات، وتفاوت مقامات، فتجدها أكثرها انفعالًا وحرارة وأدلها على القوة والرجولة؛ فتهيج فيها العاطفة العاطفة، وتبعث الرغبة الرغبة، وتنقاد للرجل الذي استطاع أن يزعج فيها رغبة العشق انقياد المجبر، لا انقياد المنصت المميز بين توقيع حسن وتوقيع أحسن منه، ولهذا كان الرجل هو البادئ بالصياح، إذ كان هو الأقوى صدرًا، والأشد من ثمَّ تأثيرًا. فإذا امتلأ صدره بالهواء الحار أزجى به صوتًا يردده الانفعال بين الارتفاع والهبوط والاستقامة والاهتزاز على الرغم من صاحبه، فيكون الغناء في أبسط حالاته، ويغلظ لأجل ذلك صوت الرجل بعد البلوغ، ولا يكاد صوت المرأة يتغير.
وقد تلمس دارون علة الطرب من ناحية الرقة والرخامة فعسر عليه الوصول إلى مصدرها، وقال في كتابه أصل الإنسان: «لو سأل سائل: ما بال بعض الألحان والأوزان يرتاح إليه الإنسان وأنواع من الحيوان؟ لما كان في وسعنا أن نجيب عن ذلك إلا بجواب السؤال عن سبب ارتياحها إلى بعض المذوقات والمشمومات.»
وليس الأمر كذلك؛ لأننا إذا تلمسنا علة الطرب أولًا من جهة التأثر بقوة الصوت، وجدنا الجواب على ذلك السؤال سهلًا قريبًا، وأمكننا أن نجيب من يسألنا: لماذا يؤثر أعمق الأصوات ارتجافًا وتمويدًا، وأكثرها تنوعًا وتجويدًا؟ فنقول له: لأنها ترجمان العاطفة الشديدة، والعاطفة من شأنها أن تبعث العاطفة.
ولا يزال الغناء كذلك حتى يتعلم الناس الكلام، وينعقد الصوت ألفاظًا وحروفًا، فيتدفق الغزل من النفس المحتدمة تدفقًا قويًّا عارمًا. ويكون أجهر الرجال رغبة أهيجهم لرغبة المرأة، وأبلغهم إلى نفسها كلامًا، وأغلبهم على طبعها سلطانًا. ويكون الشاعر الأول في عصور الفطرة هو أعنف الرجال عشقًا، وأضراهم هيامًا.
•••
فالعشق في طبيعته الأولى بعيد عن الرفق والسلاسة، وإنما هو شواظ لاذع يلتف دخانه بناره، ويتلهب شوقًا إلى وقوده، فإن أصابه خمد وعاد الشاعر يترنم بهناءة نفسه، ويغتبط بالراحة من سورة طبعه. وإن لم يصب وقودًا كان نقمة لا تُطاق. وأي رقة في قول المجنون:
إن قلب السامع لينقبض، وإن صدره ليحرج لهذا الوصف. ومع هذا أي شعر أبرع من هذا الشعر، وأي شاعر أطبع وأعشق من المجنون؟ وليس العشق الصادق، حين يشب أواره وتتأزم حلقاته، بالعاطفة التي يود صاحبها دوامها ويستريح إلى مناجاتها. كلا. وإنما هو غمة مطبقة يود المبتلى بها لو تنقضي لساعتها، ويقوم في نفسه عراك لا تهدأ ثائرته، ولا يهنأ بالغلبة فيه، لأنه هو الغالب وهو المغلوب، وكأنما ينزع نفسه من نفسه فيضيق ذرعًا ويغوث من كرب هذا النزاع، نزاع الحيرة التي يقول فيها المجنون:
وهي رعدة عروة بن حزام التي يقول فيها:
ووهلة المجنون التي يصفها بقوله:
فإن طاوعته نفسه في نزاعه ذاك وإلا حنق عليها، وذهب به الحب إلى كره ذلك المخلوق المسلط عليه، الذي حرمه نعمة الطمأنينة، وجلب عليه هذا الشر، وفرَّق بينه وبين نفسه، فيحب ويكره في آن، وربما تمنى لحبيبه الموت لعل اليأس منه أن يشفيه كما قال جنادة العذري:
وكان كاتيولس يقول: «إني لأكره وأحب. تسألني كيف ذلك؟ من يدري، ولكني أحس بحقيقة هذا الأمر وشدة برحائه.»
وكذلك كان يقول المجنون:
وليس في نعت الحب بالداهية شيء من الرقة والدماثة، ولكنها حقيقة اتفق عليها شاعران ليس بينهما جامعة من ذوق لغة، أو مشرب قوم أو وحدة زمن، ولكنهما اجتمعا على عاطفة إنسانية صادقة؛ بل اتفق عليها كل شاعر عالج من العشق ما عالجه هذان الشاعران.
وأحيانًا يثوب العاشق إلى نفسه، فيبدو له كأنه مختار في شغفه وسلوته، وكأن الأمر لا يعني غيره، فإن شاء سدر في الحب وإن شاء صدف، وإن شاء مضى مع قلبه وإن شاء وقف. فلا ينشب أن يستيقن عجزه وقلة حيلته، وأن الأمر فوق يده ووراء مشيئته، وهذا الذي يصفه جميل إذ يقول:
وهنا يُخيَّل إليه أو إلى الناس أن قوة فوق قوة الإنسان تقهره على مشيئته، وأن رقية من رقى السحر أو طائفًا من طوائف الجن يحول بينه وبين حريته. كما خُيِّل لذلك الشاعر الروماني حين قال: «أيتها الساحرة، لئن جملتك طلاسمك في عيني لتعلمن أن الوجد أطول أجلًا من الإجلال. وإني لأهواك ولست بعد إلا محتقرًا لك. وإن عد هذا ضربًا من الخيال.»
وكما يقول المجنون:
أو كما يقول جميل:
وما الجنون والسحر إلا ما به. وإلا فهل للعشق وصف أصدق من أنه مزيج من جنون وسحر؟ هل هو إلا جنون يعتقل العقل ويهزأ بالحذر ويطير مع الأهواء، فإن ثقلت عليه النُّهى أزاحها عن عاتقه ومضى لطيته؟ ألا يعرف العاشق ما يوبقه ولكنه لا يحيد عنه، ويبصر ما يشفيه وهو يأبى أن يذوقه؟ وهل العشق المبرح إلا أن يغطي على السمع والبصر، وأن ينفث النفثة التي لا ينجع فيها طب طبيب ولا نشرة عراف، فإذا بالفريسة المغلولة مأخوذة بين يديه كما يؤخذ المسحور إلى حيث أراد الساحر، وكما يثب الوسنان من وساده على غير هدى، وهو المفيق الخادر والنائم الساهر؟
ولا داعي للعجب من وجود عاطفة في نفس الإنسان تأسره هذا الأسر المؤلم الشديد، ولا من وقوع الإنسان في أسر هذه العاطفة باختياره وأسفه عليها بعد زوال صرعتها وانفثاء لوعتها، ولا من حنينه إلى ما يعانيه من عسفها كما يقول البحتري:
نقول: لا داعي للعجب من ذلك؛ لأن الغرض من العشق غير مقصور على لذة الفرد ومصلحته، ولكنه غريزة يُراد بها بقاء النوع كله واتصال حبل الحياة جيلًا بعد جيل، فلا عجب إذا صغرت حيلة الإنسان، وعيت مداركه عن مناصبة هواه فيه، لأن المدارك مدارك فرد واحد، والهوى هوى نوع بأسره.
•••
ومن محاسن جميل وإخوانه من الشعراء الغزليين أمانتهم في الإعراب عن النفس والبث بالعاطفة، انظر إلى قوله:
فهكذا ظن جميل، وهكذا يظن كل عاشق يسمع بلذة العشق، ولا يرى أين هي، فيحسب أنه هو الشقي وحده وأن العشاق كلهم سعداء. والحقيقة أن العشق لا يخلو من الشقاء أبدًا، ولو خلا منه لكان أشبه باللهو الذي يتشاغل به البطالون والمجان، كعشق عمر بن أبي ربيعة، والعباس بن الأحنف وأضرابهما من المخنثين. عشق أملس وقشعريرة ناعمة حلوة. فأما ما يبلغ منه الصميم، ويخترق الشغاف، وتتقاتل فيه الأهواء، وينتهب من النفس أخفى خفاياها، وأعمق دفائنها، فبعيد أن يكون لذيذًا بالمعنى المعروف من اللذة.
وما هو إلا أن تخبو في النفس تلك الشعلة وتترك فيها رمادها، حتى يشعر العاشق ببرد الفراغ، ويذوق لذة الاحتراق بعد شفاء الكي واندمال القرحة، ويعلم حينئذ أن السعادة التي سمع بها هي تلك القوة التي كانت تصطرع للظهور، وتتأجج للسطوع. وأن الإنسان يسعد بقدر ما تأخذ نزعاته وعواطفه من مجراها، وتنطلق في مداها، ولو كان في ذلك هلاكه. وأنه خير له أن تكون هي قبره من أن يكون هو قبرها، فيطرح نفسه مرة أخرى بين جناحي العشق الذي كان يجاذب ما يجاذب للإفلات من أوهاقه، ويود لو أتيح له أن يستعيد تلك الغرارة التي استقبل بها العشق للمرة الأولى. وهذا لون من الجنون، ولكنه جنون ليس لإنسان أن يفخر بسلامته منه أو تغلبه عليه؛ لأن التغلب عليه قد يدل على ضعف الطبع لا على قوة العقل. ولا يصعب على أضعف الناس عقلًا أن يكبح هذه العاطفة إذا كان طبعه أضعف من عقله.
وليس مرادنا بأن العشق غريزة نوعية أنه محصور في معنى معين ومحبوس في شعور واحد، إذ لا يخفى أن الغرائز النوعية متداخلة متوشجة، والعشق منها على وجه التخصيص يدخل في كل ما ليس بأناني صرف من الطباع والأخلاق. ولذا سادت الأنانية على الطفولة والشيخوخة؛ لأنهما خاليتان منه، وكانت الشبيبة وهي سن العشق سن الغيرية والإيثار والمفاداة.
فليس تأثير العشق مما يقف عند الغرض الأول منه، ولا هو بمقصور على العلاقة النسلية بين الرجل والمرأة، ولكنه يمتد إلى كل غريزة، سواء أكان لها ارتباط بالشوق الجنسي أم لم يكن. وربما ملك النفس وتمكن منها ولم يبلغ من تأثيره النوعي عليها إلا أن يذكي فيها الغرائز الغيرية التي تقوم عليها علاقات المجتمع، وأن ينمي الأذواق النوعية الأخرى التي تترجم عنها الفنون الجميلة من شعر وتصوير وغناء، ولذا كان أهل هذه الفنون ممن لا يستغنون عن العشق؛ لأن موت عاطفته في نفوسهم يميت أذواقهم الفنية. وقد كان الفرسان في القرون الوسطى لا ينون بين حب وحرب، يوري فيهم الحب نار الشجاعة، وتشعل الشجاعة فيهم قبس الحب، ويستحون أن يكون أحدهم محبًّا، ثم لا يكون بطلًا مغوارًا ينضح عن ملته ومليكه، لما بين الحب وحماية القبيلة أو الأمة من العلاقة الخفية، وكان العرب لا يشهدون قتالًا أو ييممون بلدًا إلا ذكروا ذلك لصواحبهم في شعرهم، واستهلوا به قصائدهم، وافتخروا به في غزلهم ونسيبهم، كأنما هم لم يقاتلوا ولم يرحلوا إلا لأجلهن وابتغاء مرضاتهن. وما جُعل للحب هذا السبق على العواطف النوعية ولا صيره حافزًا لها يثيرها كلما ثار إلا كونه أصلها طرًّا، فهو بلا شك أول غريزة دعت إنسانًا إلى إنسان غيره.
هذه هي العاطفة التي ردها أرقاء الرقة إلى ذلك الغزل المرذول الذي تقرؤه للمتأخرين من شعراء الأندلس والعباسيين.