ساعات بين الكتب (٦)
إذن فهل تُستهجن الرقة في الشعر كله؟ كلا، فليس هذا ما نقوله، وإنما نقول: إن الرقة تُعاب في غير موضعها، وإنها تملح بعض الأحيان في الشعر بقدر ما تملح في الرجل. ولكنها إذا كانت شرطًا من شروطه، وغرضًا يبحث عنه إن لم يوجد فيه، فقد ينم هذا الكلف على داء دخيل، ويشف عن ذبول في الطباع غير جميل.
فمَن ذا الذي يسمع الأغاني الشائعة في أيامنا هذه ممن استقامت فطرتهم، وسلمت من المسخ أذواقهم، فلا يخجله أن يكون هذا الطنين الخافت صدى نفوس آدمية ينتسب إليها وتنتسب إليه، وأنه كل ما تستطيع تلك النفوس أن تعبر به عن إحساساتها، وأن تترجم به عن أسرار حياتها في اللغة التي خلقها الله للأحياء جميعًا، والتي استطاعت الطير وغيرها من خلائق الله العجماء أن تعبر بها عن إحساسات مختلفة، ومطالب منوعة، واستطاع أن يتعاطف بها من لا يتعاطفون بالكلام لقوة دلالتها وشيوع معانيها وعمق مصدرها من غرائز النفس وخوالجها؟
أم مَن ذا الذي لا يؤسفه أن يسمع نقادنا وقراءنا يتسكعون في لطائفهم ورقائقهم الغثة، فيعجبهم الهذر إذا وافق ما يتحرونه من أصول الرقة، ويثقل عليهم الكلام الفحل إذا خلا من تلك الأصول التي يتمحلونها، ويقولون: هذا مما لا يسيغه الذوق، ولا ينبغي أن يُخاطب به المحبوب أو يُشبه به، وهذا يزري من لطافة الشعر وحلاوته، وهذا قبيح بالغزل والتشبيب، وهذه كلمة غليظة أو لهجة خشنة؟ إلى غير ذلك مما يخيل إليك أن القوم خلقوا من الشمع الذائب لا من الطين اللازب.
مَن ذا الذي يسمع هذا وذاك ثم يخطر له أن هذه النفوس خليقة أن يحوك فيها شعور نبيل أو أمل كبير أو عاطفة قوية شريفة، وأنها جديرة أن تصبر على خطب داهم أو تذلل عقبة كئودًا أو تقمع نزعة طائشة؟
لقد حارت الموسيقى والغناء عندنا إلى مثل أنين السقيم الحرض في طلب الممرضة، وبات ينشدنا المغني، وكأنه يشفق أن يذود النعاس عن عيوننا. وجاءنا الغناء الإفرنجي فسخر منه أكياسنا وتنادروا به وتقرر عندهم أن الإفرنج محرومون من لذة السماع، عاطلون عن حاسة الذوق، كيف لا وهم يطربون لهذا الضجيج والصريخ؟ ولأكياسنا العذر، إذ من أين لهم أن يعلموا أن هذا هو الغناء وهم يخافون على آذانهم هذا الخوف؟ ولو كانوا أقل خوفًا عليها من ذلك لعلموا أن الرجل يخالجه الغضب كما يخالجه الطرب، وأن النفس تدوي جوانبها بهزيم الرعد ويتجاوب في نواحيها زفيف الإعصار كما يرن في سمعها قطر الندى وزقاء الأطيار، وأن الغناء هو صدى الطبيعة في النفس، ولم يقل أحد: إن الطبيعة لا تنطق إلا همسًا ولا تطرب إلا بما يخدر وينيم.
وقد نجحف بالريفيين وسكان السواد إذا نحن عممنا القول ولم نخصصه بالحضريين أو بالفئة التي تدعي لنفسها الظرف والفهم منهم، فإن الريفيين برآء من هذه الرقة، وقلَّ فيهم مَن يهتز لأغاني الحضر، ولا سيما الفني منها، وربما تظاهروا بالطرب مجاراة وتقليدًا وخوفًا من أن يرميهم الحضريون بالجفاء وقلة الدراية، وهم في الباطن يمجون هذا الضرب من السماع ولا يتحركون له كما يتحركون لأناشيدهم الشجية الساذجة. وقد سمعت أحدهم في محفل غناء يقول: ما بال الرجل، ألعله يحتضر؟ فضحك الذين حوله وعدوها جلافة قروية! ولولا أن أغاني القرويين لا تجري مجرى الفنون لسذاجة واضعيها ونشوز ألحانها لكانت مثلًا في الغناء بما فيها من روح صريحة صحيحة مفعمة بالرجولة، مع بلاغة في الأداء واستقامة وقصد في العبارة.
أما الأدب — فمع أن الشعر لا يتغنى به منذ زمن بعيد — فقد أصابه ما أصاب الغناء وزاد عليه فساد الفكر فوق فساد الذوق وبقايا التقاليد الموروثة، فكانت قيوده أثقل وقرًا، وجموده أصعب مراسًا.
ورثنا آداب الأمة العربية على حين قد خارت عزائمها، ومارت دعائمها، واستحال شعرها إلى كلام من فوقه كلام من تحته كلام. سوى أن لكل كلام — ولو كان دارجًا مبتذلًا — أغراضًا يقصد إليها المتكلم ويتعمد الإفضاء بها إلى سامعه منزهة عن الخلط والعبث. وأما الشعر فكان لا يُقصد به غير الوزن والاستكثار من محسنات الصنعة، فملئوه بالتورية والكناية والجناس والترصيع، وجعلوا قصائدهم كلها كأنها شواهد نظموها ليذيلوا بها كتب البيان والبديع، وظهر في الشعر التطريز والتصحيف والتشطير والتخميس، وراح الشعراء يتبارون في اللعب بالألفاظ وجمعها كما يتبارى الأطفال في جمع الحصى الملون وتنضيده، وكان الشاعر منهم يلاحك البيت بالبيت، أو يشبك المصراع بالمصراع، ويخلط كلامه بكلام غيره وهو لا يحسب أنه يخل بروح الشعر؛ لأنه يلتزم حرف الروي في كل بيت وعروض البحر في كل قصيدة …
ورثنا هذه الآداب على حين فترة من اللغة، فزادها سقوط الأسلوب ورذالته سقوطًا على سقوط، ورذالة على رذالة، حتى صار أهون على الإنسان أن يرفع بيده خرقة ملوثة منتنة من أن يجيل نظره في ديوان شاعر من شعراء هذا الطراز.
ولا تعد فطنة الشعراء في العشرين سنة الأخيرة إلى حقارة النكات والمحسنات الصناعية تقدمًا يُذكر في الأدب بعد ما نشرته المطابع من مخبآت اللغة وودائع الأدب العربي القديم، وبعد تداول الناس أشعار الفحول الأوائل وكتب الأساتذة الفطاحل، لأنها نتيجة قريبة لا بد منها على أثر ذيوع الأدب القديم ومضاهاته بهذا الأدب المعتل السقيم. وهي أقل ما ينتظر من أدبائنا عامة والذين لم يشربوا في صغرهم الشغف بتلك المحسنات خاصة، ومن ثم نرى أكثر المطرحين للمحسنات ممن لم يعكفوا على دراستها في صغرهم، فليس يعد إقلاعهم عنها تغلبًا على جمود ولا تغييرًا لمذهب قديم بمذهب حديث، إذ كانوا قد حطموا قيودًا لم يتقيدوا بها، ونبذوا مذهبًا لم يعتنقوه، وزد على ذلك أن معظم الأدباء إذا استقبحوا هذه المحسنات فلا يستقبحونها ترقيًا منهم في عرفان لباب الشعر وأنفة من كد الأذهان سدى في هذا السفساف، ولكن تعصبًا للقديم واستخفافًا بكل ما هو حديث، وأحسبهم لو تقدم الأوان بالشعراء المصنعين فلحقوا بالجاهليين أو المخضرمين لما وجدوا في شعرهم ما يعاب.
وإنما الحري بأن يدعى تقدمًا مثمرًا التقدم في الإحساس بالأشياء على ما هي عليه، والاستعداد لتمييز أصدق الفنون المترجمة عنها؛ إذ إن هذا في الحقيقة هو التقدم الذي يشمل الأدب وغير الأدب. والأمة التي تباشر حقائق الدنيا بحواسها الظاهرة والباطنة لا يكون قصاراها أن تُخرج للعالم أدبًا صادقًا، وإنما يكون هذا الأدب فيها كالزهرة اليانعة علامة على حياة سائر أجزاء الشجرة، وقد تعددت تعريفات الفوارق بين الآداب الرفيعة والوضيعة، ولكني لا أرى أصوب من ردها جميعًا إلى الفارق بين القائلين والكاتبين، لأنني لم أتبين قط فضيلة تميز رجلًا على رجل أو أمة على أمة إلا تبينت لهذه الفضيلة أثرًا في التمييز بين شعريهما، ولست أرى بين أجود الشعر وأردئه سوى فرق واحد جوهري؛ وهو أن الشعر الجيد ما لم يحل بين قائله والطبيعة حجاب من التقليد أو عوج الطبع، وأن الشعر الرديء ما ليس كذلك.
وإذا عرفنا ذلك فانظر إلى أشعار هذه الطائفة التي يسمونها الشعراء في مصر — أيمكنك أن تصدق أن ما نقرؤه من كلامهم هو كل ما تدخره الطبيعة لابن القرن العشرين من بدائع الآيات وروائع المضامين والأسرار، وهل تدرك من مدحهم وهجائهم وتشبيبهم غاية ما تدركه النفوس من محاسن الحياة ومساويها ومن معاليها وخسائسها؟ ألا ما أضيق الطبيعة إذن وما أحقر الحياة!
وربما سمعت اليوم بعض المتأدبين يُقسِّمون الشعر إلى اجتماعي وغير اجتماعي، ويعنون بالشعر الاجتماعي شعر الحوادث العامة، وبغير الاجتماعي ما يعني قائليه وحدهم، هؤلاء يزعمون أن الشعر زاد عليه في عصرنا باب مبتكر واتسعت منادحه بالنظم فيما يهم الأمة، فلم يعد مقصورًا على الأبواب الخمسة المألوفة في الدواوين القديمة وهي على الجملة: المدح والفخر والهجاء والوصف والرثاء. وهذا جهل وخلط بين أغراض الشعر الحقيقية التي تُفهم من معناه وبين عناوين أبوابه في الكتب، وإلا فأي شعر أقدم من الشعر الاجتماعي عند العرب؟
فهذه دواوين شعرائهم الأقدمين والمحدثين هل خلا أحدها من عدة قصائد في كل واقعة من الوقائع التي كانت تهمهم يومئذ؟ وهل مجرد حدوث الوقائع في القرن العشرين لا في القرن العاشر أو الخامس جاعل للشعر المنظوم فيها روحًا جديدًا أو نمطًا مبتكرًا؟
ثم إننا لا نعرف شعرًا يرويه الناس ويقال: إنه يعني قائله وحده؛ لأن شعر النفس يعني كل نفس، والشعر الذي لا يعني قراءه لا يستحق أن ينظم، وما من شعر نظم إلا وهو بهذا المعنى شعر اجتماعي؛ لأنه يبين عن حالة المجتمع ويؤثر فيها. وإن لم يكن اجتماعيًّا بمعنى أنه يخاطب الأمة أو يدوِّن حادثًا قوميًّا أو عملًا من أعمال الجماعات، وربما خدعك الشعر الاجتماعي عن حالة الأمة لخطأ في رأي صاحبه وانحراف في نظره إلى الحوادث وتقديره لها، ولم يخدعك شعر الغزل مثلًا، وهو أخص القول بقائليه؛ لأن الغزل هو في آن واحد مسبار نفس الرجل ومعيار قيمة المرأة. ومن رأي ماكولي نقادة الإنجليز ومؤرخهم أن أغاني بترارك الشاعر الإيطالي الغزل قد جلت عن المرأة الإيطالية هوانها، ورفعت من شأنها نهضة إيطاليا، وليس هذا الرأي بغريب عند من يعلمون العلاقة بين الغزل وحالة المرأة ونهوض الأمة.
ومما تقدم يبدو لي أنه ربما نشط فن الموسيقى المصري من عقاله، وربما ولد التصوير المصري على أحدث طراز وأحكمه وأتمه، والأدب رهين قيديه بين مزدحم الآراء ومشتجر الأهواء، يختلف عليه الأرقاء الذين لا يريدون أن يسمعوا كلمة لا تمسكها الأصابع بأطراف أناملها، أو تلتقطها الجفون بأهدابها، والجامدون الذين يؤثرون أن يدبروا بالدنيا إلى الوراء، ولا يتزحزحون قيد شعرة عن القديم، وليس لهذا الاختلاف فائدة؛ لأنه لا يدني أحد الفريقين من الأدب الصراح، ولا يهديه إلى خطئه. فالذين ينكرون الذوق السخيف لا يحجمون عن استحسانه متى صيغ لهم في الأسلوب الجاهلي أو المخضرم، والذين ينكرون مذاهب الجاهلية ومعارض النظم عندهم لا ينكرونها متى صيغت لهم في الأسلوب المهلهل الرقيق الذي يستحسنونه. وإذا انتهى الخلاف بينهما بإقناع أحدهما وتحوله إلى رأي مخالفه، فإنه لا يتحول حينئذ إلى ما هو خير من رأيه الأول؛ لأنهما سواء في الخطأ وسواء في البعد عما نسميه بالأدب الصراح.
•••
وما علمت في تاريخ الآداب حالًا أعجب ولا مسلكًا أوعر من حال الأديب العصري في مصر ومسلكه، وإنما عجب حاله وتوعر مسلكه لأن في مصر الأدباء العصريين، وليس فيها القراء العصريون، أو ربما كان فيها القراء العصريون، ولكن الصلة بينهم وبين الأديب العصري مقطوعة.
والقراء في مصر واحد من ثلاثة: قارئ الأقاصيص والنوادر، وقارئ الأدب العربي، وقارئ الأدب الإفرنجي.
فأما قراء الأقاصيص والنوادر فهم أغبى من أن يقرءوا أدبًا قديمًا كان أو حديثًا، وهم أجهل إن قرءوه من أن يميزوا بين زهيده وثمينه، وزيفه وصحيحه. وبغية هؤلاء من الكتب إنما هي تمرين ألسنتهم على الهجاء أو تبديد الوقت في البطالة والفراغ.
وأما قارئ الأدب العربي فإن كان ممن يقرأ فلا يُرَوِّئ في المطالعة بصره، ولا يصير من تلاوة الشيء إلى الحكم عليه، فما أشبهه بقراء الأقاصيص! وإن كان يقرأ ويحكم فهو إنما يحكم بطراز ألفه وشبَّ عليه فلا معدل له عنه، ولا مقياس للأدب العصري غير آداب الأمم التي سبقتنا في أدوار الحياة والفنون، وهو — أي قارئ الأدب العربي — معزول أتم العزل عن آداب تلك الأمم، لا يستطيع نقدها وتقديرها أو يستطيع أن يميط الحجاب عن عالم الغيب، لأن حكم الرجل على ما ليس يعرف، وتوهمه في نفسه القدرة على نقد أدب لا يلحن لغاته، ولا يقرأ كتبه، ولا يلم بسير أدبائه وأخلاقهم وبمحاضراتهم ومساجلاتهم، أو يحيط بآراء النقاد فيهم وأقوال بعضهم في بعض، ويعارض بين عصورهم ومذاهبهم ثم لا يعلم الميزان الذي يزنون به إجاداتهم وملاومهم، هو بمثابة حزر الغيب والخوض في عالم المجهول.
وقد يُحسن هؤلاء الأدباء المقارنة بين الأدبين من جهة واحدة هي جهة المشاركة بينهما، وهي أخس ما في الأدب العصري وأبعده عن جوهره وزبدته، وكأن ترى منهم من يقارن بين أديب محدث وأديب مقلد فيرجح هذا على ذاك لأنه أرجح من قبل المشاركة، ويصفح عما سوى ذلك من الحسنات التي استدق سرها عليه، بل يتعجل فيقضي للأدب القديم جملة على الأدب العصري جملة، وهو إن كان له عذر في جهله بفضائل الآداب الأجنبية، فلا عذر له في الحكم على ما يجهل.
وربما أعجبك من بعضهم أن يأنق للفصل الأنيق أو يستجيد قصيدًا جيدًا، فإذا سألته عما راقه أضحكك أن تراه ينتخب ما لم يخطر للكاتب أو الشاعر على بال، ويسهو عما عمل له وتحراه كأنه ليس في الفصل أو القصيد.
هذا محك أولئك الأدباء على ما علمت من الزلل والانحراف، وهم كما رأيتهم ليسوا بأخبر من قراء الأقاصيص بغرر هذا الأدب وعرره.
وأما قراء الأدب الإفرنجي فأيسر لهم أن يقتبسوه من أمهاته ويرتادوه في لغاته، وأكثرهم لا ذوق لهم ولا بصر باللغة العربية، فما هم بأفهم للمعاني المودعة فيها من سواهم.
كانت حياة الأدب بالقبيلة ثم صارت حياته بالرؤساء في القرون الوسطى. وليست مصر في حال من هذين. ثم صارت حياته اليوم بالقراء، وهم في مصر كما عهدت فهل بقي للأديب العصري إلا أن يجاهد لنفسه، وهل لصنف من هؤلاء القراء حق عليه؟