ساعات بين الكتب (٧)
قلنا في الفصل الذي تقدم على الكتب: إن القارئ الحريص على الفائدة البصير بالاستفادة لا يزهد في قراءة الكتب الغثة، ولا يقصر قراءته على الكتب السمينة، وإنه يجب أن تتم الفائدة من الكتاب والقارئ لا من الكتاب فقط. وهذه خطة قد يكون لقراء بعض اللغات بد من اتباعها، ولكنها مما لا بد منه للقارئ العربي لاختلاط المؤلفات وقلة العناية بتقسيمها، وقد يوجد الغث والسمين في كل لغة، ولكنا لا نراهما ممزوجين مزجًا تامًّا كما نراهما في المؤلفات العربية، فالكتاب العربي خليط يجمعه صاحبه من هنا وثم، ويحشر فيه من جميع ما يحفظ من قصة تاريخية أو نادرة فكاهية أو قصيدة مأثورة أو حادثة مشهورة — فلا يسعك أن تميز بين ما يقرأ وما لا يقرأ لأول نظرة، ولا تجد في نسق التأليف وطريقته تفاوتًا بين كتاب وكتاب، فإن كان هناك تفاوت فهو في الحجم والعبارة لا في التأليف والتقسيم.
وكلمة التأليف وحدها كافية لمن يجهل اللغة العربية ويريد أن يحكم على طريقة التأليف فيها من كلمة واحدة، إذ التأليف هو الجمع، والتأليف العربي إنما هو الصيغة التي ظهرت بها أخبار الرواة وأسانيد النسابين بعد أن تعلم العرب الكتابة واشتغلوا بتدوين الكتب، فكان المؤلف العربي خليفة الراوية أو النسَّابة في هذه الصناعة، وكان الرواة والنسَّابون يجمعون الأخبار والقصائد ويذكرون المحامد والمثالب والأنساب والمفاخر، فلما ذهب الراوية وجاء المؤلف جرى على هذه الطريقة، فكان يضع الكتاب المطول لا يكون له فيه غير توطئة يستهل بها بابًا أو جملة يعطف بها خبرًا على خبر، ولم يشذ عن ذلك غير القليل، وأكثر هؤلاء الشاذين من كُتَّاب الأخلاق والفقه.
وعذر العرب في هذه الطريقة هو عذرهم في كل نقص آخر في السياسة أو الاجتماع، وأعني به انتقالهم فجاءة من البداوة إلى المدنية، وأنهم لبسوا رداء المدنية على طباع البداوة وبقوا بدوًا في دولتهم، وبدوًا في معيشتهم، وبدوًا في تأليفهم وأدبهم، مع ما شيدوا من الآطام وأثلوا من الآثار الجسام.
أقول هذا وبين يدي كتاب وضعه صاحبه «القزويني» على هذه الطريقة، وسماه عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، وهو لو سماه عجائب المختلقات وغرائب المعدومات لأنصف، ولكان الكتاب قطعة جميلة من إبداع الخيال ووحي الفكاهة تشهد لصاحبها بالافتنان في القصص والقدرة على التصور.
وما كنا ننتظر من كاتب ينشأ في عصر كعصر القزويني أن يُصنِّف كتابًا في التاريخ الطبيعي أو في علم الأحياء صحيح البحث جيد الاستقراء، ولكنه كان يسعه على الأقل أن يفرغ تلك الترهات والأساطير في قالب الموضوعات العلمية المبوبة، فلا يفوته الترتيب إن فاته التحري والتدقيق.
ولسنا نريد أن نبحث في موضوع الكتاب، ولكنا ننظر فيه هنا من جانب آخر، فيلوح لنا أنه لم يتجرد من الحقيقة البعيدة وإن تجرد من الحقائق الملموسة القريبة، ونستعرض فيه ما يستحق من أجله القراءة، ولعله يصلح أن يعد جرثومة لمذهب النشوء والارتقاء، نشأ منها في القدم ثم ارتقى عنها ذلك المذهب، فمن ذلك قوله في ترتيب الكائنات بعد أن قسم الأجسام إلى نامٍ وغير نامٍ، وهو ما نسميه اليوم العضوي وغير العضوي: «أول مراتب هذه الكائنات تراب وآخرها نفس ملكية طاهرة. فإن المعادن متصلة أولها بالتراب أو الماء وآخرها بالنبات، والنبات متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية.»
وهذا قول لا يعزز بتجربة ولا يدعم ببرهان، ولكن ما ظنك بمكان الفروض والأظانين من معارف الإنسانية بأسرها؟ وهل كانت قضايا دارون نفسها قاطعة في تأييد مذهبه وإثبات نتائجه؟
وعلى أن ترهات الكتب القديمة وفروضها تنفعنا الآن أكثر مما تنفعنا حقائقها؛ لأنها هي البقية الباقية لنا من تلك الأوهام التي تسلطت على العقل البشري في أزمانه الخالية، وهي المفتاح الذي ليس لدينا مفتاح سواه لخزانة المخيلة، وما أكنته من تصورات الإنسان ووجداناته وما انطبع فيها من البدائه العميقة المتغلغلة التي عودتنا أن تنطق بالأحاجي والألغاز وتبهم حتى على صاحبها وهو الذي أوجدها وصورها.
فقد حفلت كتب السلف بروايات المسخاء والمبدولين، وتناقلوا في الحكايات أن الحيوانات المختلفة يتناسل بعضها من بعض، ويتسلسل بريها من بحريها، أجمعت على هذا كتب العرب وغير العرب، واتفقت عليه كتب الدين وكتب الأدب، وهذا الكتاب الذي نحن بصدده مكتظ بتفصيل أنواع هذه الحيوانات وما يتشاكل منها في البر والبحر. فمنها كلب الماء، وقنفذ الماء، وبقرة الماء، وفرس الماء، وزعموا أنها تلد من خيل الأرض، ومنها إنسان الماء، قال القزويني: «يشبه الإنسان إلا أن له ذنبًا، وقد جاء شخص بواحد منه في زماننا في بغداد فعرضه على الناس وشكله على ما ذكرناه، وقد ذكر أنه في بحر الشام ببعض الأوقات يطلع من الماء إلى الحاضرة إنسان وله لحية بيضاء يسمونه شيخ البحر ويبقى أيامًا ثم ينزل، فإذا رآه الناس يستبشرون بالخصب، وحُكِي أن بعض الملوك حُمِل إليه إنسان مائي فأراد الملك أن يعرف حاله فزوجه امرأة، فجاء منها ولد يفهم كلام الأبوين، فقيل للولد: ماذا يقول أبوك؟ قال: أذناب الحيوان كلها على أسافلها ما بال هؤلاء أذنابهم على وجوههم …» ونقل عن يعقوب بن إسحاق السراج: «أن رجلًا ركب البحر فألقته الريح إلى جزيرة، قال: فلم نستطع أن نبرح عنها، فأتى قوم وجوههم كوجوه الكلاب وسائر أبدانهم كأبدان الناس» إلى آخر ما هو مشهور من هذه الأساطير.
فما مغزى هذا الإجماع والتواتر؟ وماذا في طي هذا الاعتقاد بأن الإنسان يتحول أحيانًا من هيئته إلى هيئة حيوان أدنأ منه، أو أن في عالم الحياة مخلوقًا بعضه إنسان وبعضه حيوان؟ هذا شعور لم يرد إلينا من ناحية الحواس، ولكنا لا نجهله. وصحيح أن الخيال مفطور على مزج أشكال الحس وإلباس الموجودات لباس الإنسانية، ولكن لماذا فُطِر الخيال على ذلك؟ أكان يستحيل أن يُفطر على غير هذه الفطرة؟ وهل لو خُلق الإنسان من غير عنصره المعروف كان يتخيل هذا الخيال بعينه؟ ألا يجوز أن يكون مغزى هذا الإجماع والتواتر أن في جبلة الإنسان شعورًا راسخًا بوحدة الخلق وتلاحم سلسلة المخلوقات في النسب على تباين أشكالها وتباعد مراتبها وبناها، وأنه لا حاجز في التكوين بين حيوان البحر وحيوان البر، ولا بين الإنسان وعامة الحيوان؟ شعورًا أعمق من الفكر، لا بل أعمق من الخيال نفسه، يتكلم باللسان فيكني ويلفق ويتكلم بالبديهة فيصرح ويصدق؟ ولماذا ننفي وجود شعور كهذا يصل الإنسان على وجه ما بشيء من أسرار الحياة مع علمنا أن الإنسان قد اتصل بالحياة قبل أن يصله بها عقله وحواسه؟ أليس ترجيح وجود هذا الشعور أولى وأحرى بقدم العلاقة بين الأحياء والطبيعة؟