جمال الطبيعة١
نحن الآن في إبان الربيع — جمال الطبيعة على أتمه، والدنيا في زخرف العرس، والأرض قد أخرجت زخارفها، وكشفت السماء عن جبينها، وفتح الليل صدره للساهرين بعد إذ كان كأنما يذودهم عنه إلى الجحور والمخابئ زبانية الزمهرير — فمن باب التحية الفكرية لهذا الجمال الفائض على كل شيء، وهذه الحياة المالكة لكل نفس أن نرجع إلى أنفسنا، فنسبر فيها غور تلك الروعة وذلك الأنس اللذين نشعر بهما بين يدي الطبيعة، وأن نسألها عن سر ما تستهول من جلالها وعظمتها، ومعنى ما تستجمل من روائها وزينتها. وذلك أقل ما يجب علينا للربيع من صلاة الفكر وتسبيحه.
وللطبيعة سر مقترن بسر الحياة لست أتعرض له، وفيها جانب يتصل بإحساسنا ووعينا هو الذي سأبحث فيه هنا. ولست مستهديًا في البحث بالعلم الطبيعي وحده ولا بخيال الشاعر وحده، ولكني أمزج بينهما؛ إذ لا غنى عن تدقيق العلم، وعن سليقة الشعر معًا لمن يود البحث في أمر ينظم طرفاه بين عناصر الطبيعة، وسرائر النفس الإنسانية.
نحن نعلم أن حب الطبيعة من الغرائز، وأن الغرائز مما لا يدخل في حيزة الفكر والقصد، ولكننا نعلم كذلك أن منها ما هو موروث عن الأجداد والآباء، وأنهم كانوا يتعمدون بعض أفعالهم التي صارت غرائز فيما بعد تعمد الإرادة الروية، ثم انتقل الشعور بهذه الأفعال إلى نفوسنا بالوراثة كما يتوارث الحَمَل خوف الذئب ولم يره، أو يتوارث الأرنب خوف كلب الطراد وما أحسَّ له بسطوة.
فإذا خطر لنا أن نقف على سر ميلنا أو نفورنا من شيء من الأشياء، وغُمَّ علينا طريق السبب، فقد يسهل علينا أن ننقب عن موقع ذلك الشيء من نفوس أجدادنا، ثم نقابل بينه وبين موقعه في نفوسنا. وسنجري على ذلك في تعليل الميل إلى الطبيعة، فماذا نرى؟ ماذا كان يبغي أجدادنا الأولون من الطبيعة؟
يخافون الطبيعة ويرجونها كما يخاف الرجل ربه ويرجوه، وكانوا يرتادون فيها الكلأ والري لهم ولأنعامهم، وكانوا يشاركونها في مواسمها وأعيادها؛ لأنهم بعض عناصرها وأجنادها.
خلقت مخيلة الإنسان الأول خلاقين لا يُحصر لهم عدد ولا يُؤمن لهم شر، فكان يخطو من هذه الأرض في عالم حافل بالآلهة والأرواح، مكتنف بالمردة والشياطين، في كل كوكب إله، وفي كل نسمة خافقة روح هفاف، وفي كل عنصر من عناصر الطبيعة رب متصرف. وكان مع هذا محوطًا بالأوابد والضواري يجالدها وتجالده، وينازعها آجامها وتنازعه، فإذا أدلج تمشى كالسارق المتحفز، ونزل به جزع المروع على حياته، تصفر الريح، فإذا هو واجم متربص يحسبها روحًا سارية، فلا يدري أناقمة هي أم راضية، وروح خير هي أم روح شر عاتية. ويسمع حفيف الأشجار فيخالها وجس الجِنِّة والعفاريت تأتمر به، ويومض البرق فيحسبه إلهًا حانقًا ينذره بغضبه، ويختلج كوكب فوقه فيظن له نبأ عنده فيخشع، أو يسمع زئير الأسد وهو لا يبصر مكمنه فينتفض جسده ويهلع، فهو لذلك يرهب الليل كما يرهب المنون.
خرجنا ذات ليلة نستروح الهواء في أرباض بعض المدن، وكان البدر في تمامه، والرمل يلتمع في نوره الشاحب كما يلمع التبر في نار البوتقة، وكان الوقت صيفًا والليلة شديدة الحر، ركد فيها النسيم، وخرست الأشجار، فباتت ظلالها — كما يقول هيني: كأنما دُقت في الأرض بمسمار. فجلسنا عند أحفاف النهر ثم قال أحدنا: هلموا إلى النهر نبترد.
قلنا: هلموا، ونهضنا إلا صاحبًا لنا كان يطربنا برخيم صوته وشجي غنائه، فلم يشأ أن ينهض معنا، وقال: لست معكم في هذا.
قلنا: ولِمَ؟
قال: إن لهذه الأماكن حفظة من الملائكة والجن، وأنهم يسرحون في النهار ثم ينسلون إلى مخادعهم بالليل. ثم قال مازحًا: فإن وطئ أحدكم ذنب عفريت أو داس على جناح ملك، فلا يلومن إلا نفسه!
ما هؤلاء الحفظة الذين تحاشاهم صاحبنا إلا سلالة تلك الأرواح التي عبدها آباؤنا في غسق التاريخ، لدن كان أولئك الآباء يقدسون الأنهار والعيون والينابيع، ويجعلون لها أربابًا تُدعى وتخاف وترجى، ويضعون في كل منها أرواحًا وعرائس يقربون إليها القرابين، ويرتلون باسمها ترانيم الصباح والمساء.
ولسنا اليوم نُؤلِّه العناصر، أو نخشى غارة السباع، ولكنا نشأنا في هيكل قدسه آباؤنا فاقتفينا آثارهم. وربما بلغ أحدنا غاية الجرأة وتنزه عقله عن هذه الأوهام، فجعلها هزؤًا ومجونًا ولم يُؤمن بشيء منها، ولكنه مع ذلك لا يطرق المكان نهارًا كما يطرقه ليلًا، من أثر ذلك الخوف القديم.
•••
والطبيعة بعدُ مرتاد كلأ ومؤنة كما قلنا في أول هذا المقال، لا يتصور كيف كانت تهش لها نفس الهمجي ويهتز لها قلبه، إلا من تخيل نفسه مرة في ركب ضل سبيله في فلاة ديموم، وقد نفد ماؤه وفرغ زاده، فبلغ منه العطش والسغب، وأتلفه القيظ والكلال، حتى يئس من النجاة؛ وأيقن بالهلاك. ثم ارتفعت له بعد ذلك رءوس الأشجار تمتد من تحتها الظلال، ولمعت لعينيه الجداول تترقرق بالماء الزلال. إنه ليعلم حينئذ أن هذه المناظر خليقة بأن يرقص لها قلب الهمجي، فقد كان أبدًا في مثل ذلك الركب، كان يتنقل من بقعة إلى بقعة طلبًا للري والمرعى، فلا يصل إليهما إلا بعد أهوال يتجشمها، ومخارم وجبال تقطعه قبل أن يقطعها، وبعد أن يصارع الضواري العادية، والكواسر الجارحة، أو يقاتل على تلك المراعي والمراتع عشائر يحرصون حرصه عليها. فإذا هو أشرف بعد هذا النصب على وادٍ خصيب لا جرم أشاع في نفسه إحساسًا لا يقارن به إحساسنا الآن بالطبيعة، إلا كما يقارن الصوت بصداه، والوجه بصورته في قرار الغدير. فنحن نخف اليوم إلى الخضرة وإن كنا لا نتزود منها طعامًا، ونفرح بالماء وإن كنا لا نتخذ منه شرابًا. ولكن في باطن هذا الفرح بقية من فرح الظمآن بالري والجائع بالقوت، وما هو في الحقيقة إلا صدى ذلك الفرح القديم وصورة منه باقية في قرارة نفوسنا.
•••
على أن من أحسن ما يروقنا في الربيع أزهاره، وليست هي مما يُخاف فيعبد، ولا مما يُستطعم فيؤكل. فأي شأن لها في نفوسنا؟ بل قل: أي شأن لها في نفوس كثير من الأحياء، فإنها لا تروقنا وحدنا ولكن تروق الحشرات والطيور أيضًا. ومن هذه الحشرات والطيور ما يستهويه جمال الأزهار فيجعله واسطة لتلقيح إناثها من ذكرانها، ومنها ما تعجبه هذه الألوان التي تزدهي بها الرياحين كما تعجبنا، وفي كتب دارون وغيره من النشوئيين شواهد وأمثلة على هذا الإعجاب. فقد ثبت أن إناث بعض الطيور لا تميل إلا إلى آنق ذكورها ريشًا، وأبهاها نقوشًا، وأحسنها في الألوان اختلافًا وترقيشًا، فأية علاقة يا تُرى بين هذه الألوان وبين الانتخاب الجنسي؟
نُرجئ هذا قليلًا لنسأل: ما هو الربيع؟ أليس هو فصل الحب؟ أليس هو الموسم الذي تشرق فيه ألوان الأزهار، فتتزاوج كما يتزاوج الأحياء؟ ألا تنكشف للعشاق علاقة هذه الأزهار بالغرام فيتراسلون بالأنوار الندية، والرياحين الشذية، ويخرجون إذا أقبل الربيع إلى المنازه والخلوات، فيختارون من الأماكن ما تحف به الورود المتعانقة والطيور المتعاشقة، وتفاجئهم بهجة الحب من داخل نفوسهم ومن خارجها في نفثة واحدة من نفثات الطبيعة الحية؟ وأي ميلاد يُؤلِّف بين نسبها ونسبنا، وأية قربى تمت بها الأزهار إلينا ألصق من القربى التي تجمع في موسم واحد بين توالدنا وتوالدها، وحياتنا وحياتها، وامتزاج الجمال والحب فيها بامتزاج الجمال والحب فينا؟
ولم يحقق لنا العلم ما هو سر تأثير الألوان في الزهر على أبصارنا، ولا ما هو سر تأثير الزهر بذاته في شعورنا. ولكنا قد نرى علاقة النور بالألوان، ونرى علاقة الحرارة بالنور، ونرى علاقة الربيع بالحرارة، ثم نرى علاقة العواطف الغرامية بالربيع. فكلها عناصر ربيعية تظهر بباعث واحد في زمن واحد، ولا نرى منها إلا ما هو من الحرارة قابس وبالضوء مزدان ولابس، وفي الحب مغروس وغارس.
الحرارة تنبعث من الشمس إلى جوف الأرض فتتخللها فتنبت البقل والثمرات، ذلك هو الربيع.
والحرارة تبسط نورها على الأزهار فينسج على أورقها اللطيفة ألوانه، يجليها بأصباغه ونقوشه. ذلك هو سحر الألوان وبهجة الأزهار، والحرارة تجري الدم في العروق فتتيقظ العواطف التي أنامها الظل، وتتحرك الحياة الكامنة فيملكها الشوق إلى تجديد الحياة في مخلوق جديد، ذلك هو الحب.
فالربيع والأزهار والحب أشقاء لم يولد بعضها بعضًا، ولكنها تولدت على السواء من أم واحدة هي الحرارة. أو هي الشمس؛ أم الحب والحياة في هذا النظام.
•••
قال ابن الرومي يصف الأرض في فصل الربيع:
وقد أخذ عليه صديقنا المازني خلطه في التشبيه بين المذهب الحسي والمذهب النظري. أما أنا فلا أميل إلى رأي الصديق في مؤاخذة الشاعر، وقد أرى أنها لطافة حس فيه جعلت نفسه تشعر بتلك العلاقة الخفية بين تبرج الأزهار وتبرج النساء، ويلوح لي أن المسألة لم تكن عند ابن الرومي مسألة تشبيه جاءت به المناسبة العارضة، وإنما هو شعور غامض في نفسه لا يفارقها. وآية ذلك أنه كرر هذا المعنى في غير ما موضع، فقال في بعض رثائه:
وقال أيضًا:
وربما كان علة هذا الشعور الغامض اضطراب في جهاز التناسل هيَّج جميع أجزائه المستدقة فهز خيوطها، ونبَّه أقدم وشائجها، ومنها الإحساس بذلك التبرج كما هو في قلب الطبيعة. أما هذا الاضطراب الذي أومأنا إليه، فمما يسهل الاستدلال عليه من شعر ابن الرومي، ولا نخاله يخفى على من يقرأ ديوانه فيطلع على شهوانيته الظاهرة في وصف محاسن المرأة، والتغني بما ظهر وما بطن من أعضاء جسمها، وربما دل عليه رثاؤه لأبنائه واحدًا بعد واحد، وما يشير إليه ذلك من ضعف نسله واضطراب جهازه. أضف إلى هذا ما يؤخذ من أهاجيه فيمن اتهموه بالعنة وأشياء أخرى لا حاجة إلى ذكرها. وفي جملة هذه الأشياء ما تعرف منه أن الرجل لم يكن من هذا الجانب سليمًا، وأنه كان خليقًا بطبيعة تركيبه ومزاجه أن يشعر بتلك الحقيقة، ويستنبط من أغوار نفسه تلك الأحفورة الشعرية النفيسة. ولا غرو فإن النفس إذا شفت كالبحر إذا شف يتراءى لناظره ما خفي في أعماق قراره.
•••
ذلك مجمل رأينا في هذا الذي نشعر به من روعة الطبيعة وحسنها، إنما هو كما يبدو لنا مزيج من العبادة والامتيار والغرام.