نهضة المرأة المصرية١
قبل عامين أو نحو ذلك، كنا نعمل في مكتبنا الصحفي كالعادة إذ طرق مسامعنا من وراء زجاج النافذة هتاف رخيم ولكنه عالٍ، ضعيف ولكنه سريع متدارك لا يني ولا يهدأ، فعرفت أنه هتاف الأوانس الصغيرات، لأنني عهدتهن في مواكبهن من قبل لا يتمهلن في دعائهن ولا يرحمن حناجرهن وأصواتهن، يرددن أن يحيا الوطن، ويحيا الوطن، ويحيا موات الدنيا قاطبة، في نفس واحد وفي لمحة واحدة، ولا أظلم الجنس اللطيف إذا قلت: إنه إذا طلب لم يصبر على التريث في الإجابة، حتى في الطلب من الأقدار!
ألقينا الأقلام وأطللنا ننظر هذا الموكب الجميل، وما هو بالموكب الذي تمر به لحظة وتطوي هتافه نسمة هواء، ولا هو بالموكب الذي يعصى عليه سمع الدهر فما ظنك بسمع الإنسان، ولا هو بالموكب الذي تمهده ساعة وتطمس آثاره ساعة. إنه موكب أنصتت مصر مئات السنين لتسمع أولى بشائره، فلما سمعتها سمعتها الدنيا كلها معها وتلفت الزمن ونودي في عالم التاريخ بميلاد عصر جديد. إنه موكب لا يعلم إلا الله كم جيل دأب على تنظيمه في ظلام الماضي، ولا يعلم إلا الله كم جيل سوف يثب وثبة النصر والسعادة على توقيع هتافه في أضواء المستقبل؛ وإن الذين سيمرحون في سعادة مصر بعد عشرات الأعوام ومئاتها قلما يعلمون أننا رمقنا مجدهم كله يتتابع أمامنا فوجًا بعد فوج في هذه الطليعة.
أطللنا فرأينا ما لا ينقله إلى السمع ذلك اللجاج المحبوب وتلك اللهفة الطاهرة، رأينا وجوهًا تُشرق من الحماسة بما لا يقوى على نقله النداء والدعاء، رأينا مركبة الأوانس الغاضبات تتقاطر منها الدعوات لمصر كما يتقاطر التغريد من الدوحة الباسقة في نور الصباح الباكر، وإن الشبه لقريب، فما كنا نرى إذ رأينا إلا عصافير الحرية قد انتبهت تحيي فجر مستقبل موموق.
قال أديب كان معنا: لن تضام أمة هؤلاء بناتها، والحق أقول: إنني أردت أن لا نتعجل الفوز فنفقده. فقلت لصاحبي: أوَليس الأولى أن يقال: «هؤلاء أمهاتها»؟
وأتت بعد ذلك أيام مفعمة بالحوادث المنسيات، والخطوب المذهلات، فنسيت كثيرًا وذهلت عن كثير. ولكني لم أنسَ تلك اللحظة ولم أرَ من شبيهاتها إلا ما يذكرني بها، ففي هاتين السنتين توالت دلائل نهضة المرأة المصرية، وشجعت بوادرها أشد الناس حذرًا من تصديق الأمل وأكثرهم توجسًا من ظواهر الأمور، وأصبحت أجد من نفسي طربًا صادقًا لأعلى تهليلات الرجاء بعد أن كنت أتردد في الإصغاء إلى أضعف همساته، ولم أرَ داعيًا لانتظار اليوم الذي يكون فيه أوانسنا الصغار أمهات لجيل جديد، فإنهن منذ اليوم خليقات أن يؤتمن على مجد مصر، وإنهن منذ اليوم ينشئن لمصر مستقبلها العظيم، ولا ريب أن من أبصر الغاية فقد أخذ في إدراكها، ومن عرف الصعوبة فقد شرع في تذليلها.
•••
أين هو الرجل الذي يفهم الحرية وهو يسكن إلى شريكة في الحياة مستعبدة؟ وأين هو الرجل الذي ينعم بثمرة الحرية وهو وليد أم مقيدة؟ وأين هو الرجل الذي تحيا نفسه وقد مات فيها الجانب الذي خلقت المرأة لتحييه؟ إنها العنقاء التي يتحدثون عنها في أساطير الأولين.
كذلك خُلقت غريزة الحب النوعي، فهي تستحث في نفس أسيرها كل ما فيها من استعداد وكل ما تتسع له من شعور، بحيث لا يخطئ من يقول: إن العاشق يولد مرة أخرى، وإن من لم يعشق فقد حُرم هذا الميلاد ومات بعض الموت وهو في قيد الحياة.
هذه هي القوة الغلابة التي يلغيها من ميدان العمل جهل المرأة، وهذا هو الينبوع الزاخر الذي خُلقت المرأة لتفجره في قلب الرجل، والذي يجففه في قلبه حرمانه من شريكة مهذبة عارفة بكرامتها وكرامته تبادله العطف وتشاطره الحب وتعطيه مثل الذي تأخذ منه من إحساس وشغف ونورانية، فإذا أنكرت على المجتمع ضلالًا في الأذواق، وفتورًا في العزائم، ونكوصًا عن التسابق إلى الأمثلة العليا والمراتب الفاضلة، وكسادًا في العقول، وجمودًا في الشعور، وصبرًا على الهوان، وخللًا في العرف والآداب، فلا تعجب ولا تذهب بعيدًا في البحث عن السبب، إذ أي نقص لا يحدثه في الأمة خلوها من تلك العوامل البعيدة الغور، وأي قحط لا يسلطه على النفس فراغها من نتائج تلك الغريزة المخصبة؟
•••
لن تضام أمة عرف نساؤها الحرية. أجل فهذه قولة حق لا شك فيها، ولكن كم من الشك في قول من يزعم أن عرفان الرجال بالحرية هو حسب الأمة ضمانًا لها من الضيم؟ فإن حرية لا يعرفها غير الرجال أحرى أن تكون حرية شوهاء؛ لأنها كالتربة الشحيحة التي لا يسري غذاؤها إلى كل فرع من فروع أشجارها، فلا نباتها كله بمروي، ولا المروى منه بسابغ فيه الرواء على جميع أجزائه. والمرأة في أمثال هذه الأمم فرع يابس لا خير فيه، وقد يكون الرجل أندى منها حالًا، ولكنها حال لا تنفعه إلا كما ينتفع بالفرع تتمشى فيه الخضرة واليبوسة فلا هو للإثمار ولا هو للوقود، وليس هذا شأن الأمم التي يظفر نساؤها بقسطهن من الحرية، فإنها أمم تستقي الحياة من أبعد أطرافها وترسلها إلى أبعد أطرافها. فهي شجرة يانعة لا حطبة لينة.
وعلى أننا كثيرًا ما عرفنا رجالًا خطبوا الحرية ثم خانوها ونذروا لها أعمالهم ثم كفروا بها ولم يؤدوا حقوقها. وربما استحبوا النفاق لضمائرهم أو اضطروا إليه اضطرارًا يخجلون منه ويتلمسون له المعاذير من مضائق العيش ومتناقضات الأيام. أما المرأة فما الذي يمنعها أن تؤدي ما عليها للحرية من حقوق؟ لا يمنعها منها إلا من يمنع اللبن أن يسيل من ثديها سائغًا إلى ثغر رضيعها، وإلا من يمنع المهد أن يهتز على أشجى ترانيم الوطنية والفضيلة، وإلا من يمنعها في كسر بيتها أن تربي صغارها التربية التي تختارها وأن تناغيهم باللغة التي تحبها. وليس على الأرض قوة تمنعها من شيء من هذا إذا أرادته. وإن امرأة تريد هذا ولا يمنعها مانع منه لهي معقل للحرية لا تزعزعه الطوارئ ولا يُخشى عليه من «مضائق العيش ومتناقضات الأيام».
ومن البديهي أن للمرأة خصائص لا يشاركها فيها الرجل جعلتها أصلح منه لأداء كثير من الواجبات المدنية فضلًا عن واجباتها الطبيعية؛ فهي على الجملة ألطف منه شعورًا، وأدق حسًّا، وأصدق زكانة في العلاقات الجنسية، وأحرص على تقاليد الدين وأحكام العرف، وأشد احتفاظًا بما يصون هناءة البيت، وغير ذلك من الخصائص التي تنفرد بها أو ترجح على الرجال فيها. وسنرى اليوم الذي تظهر فيه آثار هذه الخصائص البارزة في المجتمع المصري، ويتبارى فيه كل من الجنسين في تنويل مصر أنفس ما يملك من مزايا جسمه وعقله وروحه. وهي في حاجة إلى جهد أصغر صغير من أبنائها وبناتها. وربما سبقتنا بعض الأمم إلى تقسيم الفروض الاجتماعية بين الرجل والمرأة على قدر معلوم وبقانون مرسوم، وربما سمعنا في هذا الباب من الغرائب ما لا يخطر الآن على البال. ففي السويد مثلًا كاتبة كبيرة تدعى «ألن كي» تقترح أن يُفرض التجنيد على الفتيات كما يفرض على الفتيان، فتقضي كل فتاة تبلغ الثامنة عشرة من عمرها مدة سنتين في الخدمة العمومية. وفيم تقضي هذه المدة؟ لا في حمل السلاح طبعًا، ولا في التدرب على إطلاق المدافع وحفر الخنادق، ولا في شن الغارات وتدويخ المستعمرات. وإنما تقضيها في التدرب على وظائف الأمومة بين مدارس الأطفال وملاجئ المرضى ومستشفيات الولادة ومعاهد الفنون الجميلة وما هو من هذا القبيل.
ولا يبعد أن يُنفَّذ هذا الاقتراح وأغرب منه في أمم الشمال، ولكننا هنا لا ننتظر حتى يعلم نساؤنا واجباتهن من القوانين الموضوعة والأوامر المشروعة، فإن المرأة المصرية في وسعها أن تتدرب على أشق أعباء الأمومة، وأن تؤدي أشرف الفرائض القومية دون أن تضطر إلى المبيت في الثكنات والارتداء بالكسوة العسكرية ولو في جيش مسالم!
وسيغضب عليَّ أنصار القديم. لا لأني قلت شططًا في ابتهاجي بنهضة المرأة المصرية، ولكن لأمر صغير بسيط: وهو أنني قرنت بين كلمة الحرية وكلمة المرأة، وهم يكرهون جد الكره أن تقترن هاتان الكلمتان في وقت من الأوقات. لا في العصر الحاضر ولا في مستقبل قريب أو بعيد.
ولو سألتهم: هل تحبون الحرية لأنفسكم؟ لقالوا: نعم نحبها. ولأبنائكم؟ نعم ولأبنائنا. ولأمهات أبنائكم؟ هنا يسكتون.
فهم يتمنون لأنفسهم العلم والحرية والجاه والسيادة والحول والطول ولا يجودون على نسائهم من هذه الدنيا الفسيحة بغير الحلي والثياب. وحتى هذه ما كانوا ليجودوا بها عليهم لو لم يكن لهم فيها حظ كبير.
يريدون أن يكونوا ملوكًا مستبدين، ولكنهم يأبون لأمهات ولاة عهودهم أن يكن ملكات، فسبحان الله! هذا ليس من العدل، هذا مخالف على الأقل لأحكام القصص المرعية وأصول الخرافات المدونة، فإننا نعلم أن الملوك في تلك القصص يهبطون من سماء عليائهم ليحبوا الراعيات الفقيرات ويتزوجوا منهن، ولكننا نعلم كذلك أن الطقوس المسطورة لا تنتهي هنا. إن الحب الملكي يرفع أولئك الراعيات إلى مرتبة ملكات، فيجلسن على العروش ويلبسهن التيجان ويتعلمن الأمر والنهي كما يتعلمن السمع والطاعة، وهذه سنة الخرافات وهي عندكم لها المنزلة العليا فوق كل منزلة، فإذا نظرنا اليوم راعياتنا بالأمس يمددن أيديهن إلى التاج فيلبسنه ويتقدمن إلى العرش فيرتقينه، فمن مظاهر الأبهة إن لم نقل من قواعد الإنصاف أن نحييهن ونصفق لهن، لئلا نكون ملوكًا بغير ملكات، أو لئلا يكنَّ ملكات على رغم أنف الملوك.
ولكن ما لنا ولأنصار القديم نُسوِّد بهم بياض الصحيفة، لقد خرجت نهضة المرأة المصرية من أيديهم وانتقل لواؤها من صفوفهم، فليتقدم في أيدي رافعاته ورافعيه على بركة الله إلى قبلته المنشودة. قبلة النجاح والرفعة إن شاء الله.