الفضائل الجنسية١
كانت صيحة القرن الثامن عشر بتحكيم العقل صيحة قوية عاتية، صاح بها فاقتلع من الجهالة أوتادًا، ودك من العقائد أطوادًا، واجترف دعائم وسدودًا، وأزال معالم وحدودًا، ثم غيَّر من ذلك ما غيَّر وأبقى ما أبقى فأحسن كثيرًا، وأساء كثيرًا.
أحسن بما أزاح من طريق الإنسانية من ركام دارس كان يعتاق خطاها ويضل بصيرتها، فخلا ما بينها وبين الفضاء، واتسع لها سنن الهداية لو أحسنت إليه الاهتداء.
وأساء بما هدم من قواعد راسخة، واجتاح من حوائط شامخة، ظنها القوم عراقيل فألفوها فيما بعد حصونًا، وحسبوها من عبث الخرافة فعلموا أنها من تدابير الحكمة، ثم عادوا يبنونها من جديد بعد جهد بذلوه في الهدم والبناء كانوا هم في أشد الحاجة إليه.
والفضائل الجنسية أول ما أصابه معول الهدم من دعاة ذلك القرن الكثير المعاول. فقد ولع بها أدعياؤه ومجانه يعرضونها لتهكمهم الأبله وضحكاتهم الخرقاء؛ فظنوها من عسف رجال الدين وبقايا القيود الأولى، وجعلوا يعجبون من الرجل الحر المستنير العقل كيف تقف بينه وبين تسويل نفسه ورقة يكتبها قسيس أو موثق يتعارف عليه القوم بلا مسوغ من الفكر، ولم يروا لتلك الفضائل أصلًا أبعد من العرف، وأقوى من سيطرة الكنيسة، فسخروا منها واستخفوا بها. ثم وجدوا مسلك الإباحة سهلًا وطيئًا فأوغلوا فيه وهم يزعمون أنهم في وجهة العقل يوغلون، وعن وجهة الوهم والجهالة يصدفون. فكأنما المؤتم بالعقل عندهم هو كل من لا يزعه من نفسه وازع، وكأنما الواهم أو الجاهل عندهم هو كل من له خلق ينهاه أو عقيدة تكبح جماح هواه.
ولا أشك في أنهم مصيبون في بعض الشيء، على ما يشين صوابهم من العجلة وقصور النظر وخفة الأحلام. فهم مصيبون في قولهم: إن الفضائل الإنسانية يجب أن لا يكون معولها كله على ورقة مكتوبة أو أمر يمليه واعظ باسم خالق أو مخلوق، ومن الزراية بالإنسانية حقًّا أن يكون التمايز بين فاضلها ومفضولها تمايزًا في باب الخضوع والتسليم الأعمى، وإنما الذي يليق بالإنسان أن يكون رجحانه رجحانًا في خصائص النفس والفكر، فإن لم يكن كذلك ففي خصائص الخلق والجسد، وهكذا يجب أن تكون الميزة بين كل صاحب فضيلة، وكل صاحب رذيلة، فهل الشأن غير ذلك في الفضائل الجنسية؟
لست أعتقد ذلك، ولكني أعتقد أن الفرق بين الناس في الأهواء الجنسية لم ينجم عن فرق في الانخداع للوهم أو التمرد على القيود، ولكنه نجم عن فرق في مناعة النفس ووثاقة الخُلُق، وفي الصلاحية للأبوة وبقاء الذرية، بحيث يمكن أن يقال — بل يقال على التحقيق: إن الفضائل الجنسية الصحيحة كانت في أول نشأتها مزايا جسدية فسيولوجية قبل أن تكون مزايا أدبية أو دينية.
فالذي نراه أن لكل من الجنسين شروطًا معلومة، أو مجهولة، يشترطها في الجنس الآخر حتى يتم بينهما الحب والتآلف، وأن هذه الشروط هي بمثابة التعاقد الفطري على المزايا الضرورية للغاية التي تعنيهما معًا، وهي إنجاب أوفق النسل وأمثله.
وكلما تعددت هذه الشروط كان تعددها في الأمة عنوانًا على ترقيها ونضجها ووفرة مزاياها، ووصولها من التقدم إلى منزلة يضن بها على الضياع ويرجى النماء من بعدها. فلا يجيء نسلهم اعتباطًا بلا احتراس ولا اعتصام، كفعل الذين يعتقدون في قرارة غرائزهم ويشعرون من دخيلة أنفسهم بأن كل نسل لائق بهم، وأنهم بفطرتهم لا يأنفون من أن يكونوا آباء لأي صنف من الأبناء.
وأي قوام لتلك المزايا في أخلاق أصحابها المحسوسة؟ وأي ضمان لبقائها مصونة في أهلها؟ قوامها وضمانها هو العفة. ومعناها الترفع عن العلاقات التي لا تجمل بمزايا صاحبها.
فليس أدل على اضمحلال أمة أو على قرب اضمحلالها من سهولة الشروط «الفطرية» التي تُبنى عليها العلاقات بين الجنسين وشيوعها في جميع الناس على السواء. فالرجل الذي لا يتخير لعاطفته الجنسية يقول بأصدق لسان ينطق به — لأنه لسان كل ذرة من ذرات جسمه: إنه أب حقير لا خير للعالم في نسله، ولا موجب للتمييز والتدقيق في ذريته. ولا يصدق هذا على الهمج والزعانف وحدهم، ولا على الذين لا يشك في ضعة شأنهم وضعة شأن أبنائهم من باب أولى، ولكنه يصدق عليهم كما يصدق على أناس غيرهم ممن تبوئهم الأمم مكانًا عليا، وتحتفي بهم وبأسمائهم وأعمالهم وتحسبهم خلقاء أن يكونوا أحسن الآباء لأحسن الأبناء، وهم على خلاف ذلك في الحقيقة. أولئك الذين ينخدع فيهم الناس والطبيعة بهم أعرف وأخبر، ويضل فيهم حكم العقل، والغريزة عليهم أدل وأظهر، فربما شوهد بين المستخفين بالعفة أفذاذ من ذوي العبقرية أو المعرفة أو اللسن أو الشهرة يبهرون الناس بمواهبهم، فيخالونهم أهلًا لأكمل الأبوة وأنجب البنوة، وينتظرون منهم أحسن الأزواج وأفضل الأصهار، حتى إذا تُركوا لأهوائهم نمَّ فعلهم على مقدار استحقاق ذريتهم للاشتراط والانتقاء، وأظهرت التجارب أنهم عقماء أو كالعقماء، فيما يرزقون من ولد ضاوي وخلف ضعفاء.
وعلى الجملة فكل عيب مهما خفي في تكوين الإنسان، فله محك من هذه الشروط التي تتقيد بها ميوله الجنسية. فإذا كان عيبه هبوطًا في مستوى الأمة ظهر في إباحية الهمجى وتساوى النساء عنده، وإن اشتد أسره وتوثقت بنيته. وإذا كان شذوذه في الخُلُق ظهر في غواية ذلك الشاذ، وإن أتى شذوذه بالفلق المعجز في معاريض الفنون والآداب. وإذا كان نقصًا في التكوين ظهر في إسراف الفتى الغر الذي لم تنضج ميوله ولم يكمل استعداده، وإن سلم من عيبي التأخر والشذوذ. وإذا كان فسادًا في مزاج الأمم، ظهر في تهالك أبنائها على الرذيلة، وإن ظفروا من الحضارة بأوفى نصيب. وليس لواحد من هؤلاء نسل يستحق أن يُبالى بالتمهيد والحرص عليه، فهم سواسية في طلاقة الميول الجنسية من القيود، سواسية في كفاءة الأبوة، سواسية في نقص المزاج على تباينهم في الأجناس والأذواق والأعمار.
فحيثما برز في الرجل أو المرأة امتياز يتلاشى إن لم ينتقل بالوراثة، برز بإزائه شرط أدبي لضبط العلاقات الجنسية، يترتب عليه بقاء ذلك الامتياز عقبًا بعد عقب، ويتبعه حتمًا الإحجام عن بعض هذه العلاقات والرغبة في بعضها، وحيثما امتنع الإحجام انعكست الآية وصارت الرغبة بلا ضابط دليلًا على أن ليس في الفرد أو الأمة امتياز يُنقل بالوراثة، وقديمًا كان شيوع الرذيلة في بلد مؤذنًا بانقراض الدولة وضياع الشوكة، ومرادفًا لقول الأمة بلسان حالها: إن جيلها المقبل همل لا يُعتنى به، ولا تُصان حوزته.
على هذا ليس الاستعصام كما يزعم بعض المتفلسفة من الإباحيين تحكمًا فضوليًّا من وضاع العرف والشريعة، ولكنه أصل في خلقة الجسم يُعاب فقدانه وينطوي على مغازي كثيرة؛ أقربها في الفرد أن له خُلقًا مكينًا قادرًا على صد ميوله والقبض على عنان أهوائه، وأقربها في الأمة أن لها مستقبلًا ناميًا وخصائص لا تبذل جزافًا. والذين يقولون: إنهم حكَّموا العقل فحكم لهم بنبذ الفضائل الجنسية، يظلمون العقل ويتقولون عليه ما لم يقله ولن يقوله؛ لأنه لا يحكم العقل مَن لا يُحصي جميع العوامل المختلفة ويدخل في تقديره حساب كل قوة مؤثرة في قضيته، ومن العوامل المسيطرة على الحياة الإنسانية ما يجهله العقل ولا يفقه من مراميه إلا قليلًا، كالغرائز مثلًا. فالذي يريد أن يُخضع الناس لسلطان العقل دون سواه لا يهمل الغرائز وحدها، ولكنه يكون أشد من ذلك إهمالًا للعقل نفسه، وهو يظن أنه باسم العقل يدعو وبدين العقل يدين.