مصطفى كمال١
رجل وثيق الإيمان، نقي الإخلاص، محصد العزيمة، حازم في مشتجر الفكر، ناضج الرأي، مجبول على الكفاح، عزيز الأمل، قيضه الله لوطنه في محنة مطبقة قلما تهوى إلى مثلها الأوطان فنصره نصرًا مؤزرًا قلَّ أن يذكر التاريخ مثله. وكان جهاده الوطني كله أعجوبة، بل معجزة لو كان في نظام الوجود خوارق للعادات لقلنا: إنها من خوارق الطبيعة.
وللذين يتحدثون اليوم بنصر مصطفى كمال — والعالم من مشارقه إلى مغاربه يتحدث به — أن يسألوا سؤال المعجب من توقف الحوادث الخطيرة بعض الأحيان على صغار الصدف: ما الذي كانت تئول إليه حركة الأناضول لو لم يغفل الإنجليز عن مصطفى كمال عند احتلال الآستانة فلا يعتقلوه مع من اعتقلوا من رجال الترك الذين كانوا يخشون صولتهم ويحترزون من تمردهم وانتقاضهم؟ وما الذي كانت تئول إليه هذه الحركة لو لم يهف فريد باشا على كره منه هذه الهفوة السعيدة التي ملكت مصطفى ناصية الأناضول، وألقت في يديه مقاليد مستقبله؟ وكيف كانت تتقلب الحوادث لو لم يأمنه على قيادة جيش في قلب ذلك الوطن القديم الذي نشأت فيه دولة بني عثمان وما استمدت جيوشهم القوة إلا منه، فيطلقه من الآستانة في الساعة التي كان يصبو فيها إلى الابتعاد عنها، ويخلي بينه وبين ميدان العمل الفسيح كمن يبحث عن حتفه بظلفه؟
ونظن أن الفضل في ذلك راجع إلى صفة في مصطفى كمال هي سر عظمته كلها، وهي «اكتمال جوانب العقل»، فهذه الصفة جنحت به إلى إيثار العمل المنظم القائم على أوطد الآساس وأبعد الغايات. فليس هو برجل القحم والقلاقل ولا ببطل الفتن والنزوات. ولو كان كغيره من المتهجمين القوالين الذين تغلب القوة المرتعدة على جانب واحد من جوانب عقولهم ونفوسهم، فيندفعون في كل ثائرة ولا يزنون الأمور بميزان الحكمة وصدق النظر، لسمع الإنجليز من أنباء هجماته وشططه ما خوفهم بأسه، ولكان عندهم حينئذ الرجل «الخطر» الذي يُرهب شره، وتُخشى بوادره، ولحبسوه مع من حبسوا فأضاعوا عليه فرصة هي فرصة الحياة لرجل عظيم ولأمة مستبسلة. وربما انقضى بذلك تاريخ هذا المجاهد الكبير، وخسر الشرق بطلًا من أجل أبطاله القدماء والمحدثين. ولكنهم جهلوا موضع «الخطر» الصحيح فأطلقوه ولم يحذروه؛ لأنه مسالم موادع، ولو دروا لأطلقوا كل معتقل واعتقلوه، على أنه حظ للترك جاءهم من طريق المصادفة، وما يعلم أحد كيف كانوا يعوضون عنه لو فقدوه.
ولعل هذه الصفة التي طبقت الخافقين بذكر بطل الأناضول، هي نفسها سبب خموله وخفاء قدره في إبان القلاقل والطوارق التي كانت تجري على أيدي المشهورين من رجال تركيا الفتاة وجماعة الاتحاد والترقي. مع أنه كان من أوائل المنشئين لجماعتهم، ومن أخلصهم نية، وأسماهم مطلبًا وأشدهم عزمًا، ولكنه كان لا يتهجم ولا تستخف حلمه الراجح صغائر الأمور، ولا يزج بنفسه في أعمال مقتضبة لا يلم بأطرافها وخواتيمها ومواقع الحزم والتدبير فيها. فلذلك خمل ونبهوا، وتأخر وتقدموا، وتريث وتعجلوا، وكانت له في آخر الأمر الفرصة العليا لحسن حظ بلاده. ومن غرائب جهل الناس بحقائق النوابغ الذين يعيشون بين ظهرانيهم، أن هذا الرجل الذي كدنا نحسبه من «العمليين» الخالين من صفات النظر والخيال، كان عند رؤسائه يعد من الحالمين تُبَّاع الخيالات حتى بعد الثورة الرجعية التي أثارها عبد الحميد على الدستور في سنة ١٩٠٨. وفي ذلك العهد كان مصطفى كمال قد ناهز الثلاثين وأوفى على سن أتم فيها كثير من العظماء خيار أعمالهم. ولكنه كان يقترح الرأي البعيد، وينظر النظر السديد، فيهملونه ولا يعبئون به؛ لظنهم أنه من أبعد الناس عن إدراك الوقائع، وسبر غور الحقائق، وروى هو ذلك عن نفسه في حديث نُقل عنه فقال: «كنت كثيرًا ما أرفع الاقتراحات النافعة والانتقادات المفيدة لإصلاح شأن الجيش، فكان ذلك من الأسباب الجوهرية في حقد بعض القواد القدماء عليَّ، وقد ذهب بهم قولهم أنني أقرب إلى النظريين مني إلى العمليين.» وكذلك يعدون كل رأي لا يفهمونه حلمًا أو وهمًا، ولو كان في اعتقاد صاحبه من المحسوسات المتحجرة.
واكتمال الجوانب العقلية في مصطفى كمال ظاهر من تعدد ميوله ومواهبه، وتيقظ الأذواق المختلفة في نفسه. فهو مع ميله إلى الرياضيات مولع بالأدب والشعر، ومع براعته في فن الحرب حسن الدراية بالسياسة ينفذ بنظر منه ثاقب في خلال شباكها المعقدة ومعضلاتها الملتوية، ومع صلابته وإصراره يأخذ بالرأي النافع إذا اقتنع بصوابه وأصالته، ومع شظفه وشدة طبعه واعتياده الجلد والخشونة في معيشته، لا يحرم نفسه جمال الطبيعة ولذة الأنس بخلائقها اللطيفة؛ من طير صادح، وزهر نافح، ومحاسن لا تلج إلى النفس إلا من أسلس مداخلها وأجمل نواحيها، ومع إحاطته بحقائق الحياة ونقائص الطبائع البشرية وثَّاب الأمل يُخيِّل إليك أنه مسلوب الروية عازب اللب إذا نظرت إلى مرمى بصره ومطامح قلبه.
وليس على شخصية هذا البطل حجاب غامض، أو سر من الأسرار كما يغلب على كثير من عظماء الرجال. فأنت تسمع بأعماله فتعرف مَن هو، ويغنيك ظاهرها عن باطنها وآثار الرجل المسموعة عن ترجمته المجهولة. وكذلك عرفناه حين سمعنا بمآثره، عرفنا أن الرجل الذي يجمع من الفلول المبددة جيشًا منظمًا خطيرًا لا بد أن يكون قائدًا قديرًا، وأن الرجل الذي ينشئ من الفوضى حكومة دستورية يستخرج لها الثروة من بلاد محصورة مجتاحة لا بد أن يكون إداريًّا خبيرًا، وأن الرجل الذي يبرم المعاهدات، ويعقد الاتفاقات ناظرًا في ذلك إلى مصالح بلاده وعلاقاتها بأمم الشرق والغرب لا بد أن يكون سياسيًّا حازمًا، وأن الرجل الذي تأبى عليه حميته مطاوعة التيار الطاغي فيجازف بمغاضبة سلطانه وأكبر دول أوروبا من ورائه لا بد أن يكون وطنيًّا مخلصًا، وأن الرجل الذي يقف ساعات في مجلس الأمة يبسط الخطط ويسوغ التدابير لا بد أن يكون خطيبًا مبينًا، وأن الرجل الذي تسبق حكومته الأمم الأوروبية إلى اتخاذ الوزراء من النساء لا بد أن يكون مستنير الذهن بصيرًا بعوامل التأثير في نفوس الأوروبيين الذين يتهمون أمته وينعون عليها الشهوانية واحتقار المرأة، وإذا عرفت من رجل أنه قائد قدير، وإداري خبير، وسياسي حازم، ووطني مخلص، وخطيب مبين، وبصير مستنير الذهن، فالسر الذي خفي عليك من ترجمة حياته قليل.
ووضوح الشخصية نافع في المواقف العصيبة التي يجب إنقاذ الأمة منها ودرء أخطارها في حينها. فليس يجدي في هذه المواقف رجل لا تظهر آثار شخصيته في حياته، ولا يحس سواد الناس معالمها حين ظهورها، أما مصطفى كمال فمن هؤلاء الذين يشهد كل من لمحهم ولو لمحة واحدة أنه في حضرة رجل فوق مستوى الرجال. ولسيماء الرجل هيبة ناطقة، ولا سيما نظرات عينيه، فإني ما قرأت وصفًا له إلا رأيت في مقدمته التفات الواصف إلى وقع تلك النظرات. فهي نظرات تنفذ من خلال زرقة العينين، حادة كالسهم كما قال مكاتب «اللستراسيون» الفرنسية، وهكذا وصفته الأميرة قدرية في قولها: «وهو مربوع القامة، رقيق، أبيض اللون، مشرب بالحمرة الوردية، له عينان زرقاوان حادتان، نظراتهما تكتنه الخفايا وتخرق الحجب الكثيفة، وجبينه العالي آية النبوغ»، وهكذا وصفه كلود فارير الكاتب الفرنسي المعروف، والجنرال تونشند القائد الإنجليزي، فدلالة تلك النظرة واحدة في نفس الرجل، والمرأة، والكاتب الأديب، والقائد الحربي على اختلاف في الجنس والنحلة.
وقد جرت العادة عند ترجمة رجل عظيم من رجال الحرب المحدثين أن يقارن بينه وبين رجل يعد أعظم أساتذتها في العصور الحديثة، وهو نابليون بونابرت، ويتخذون هذه المقارنة محكًّا لكفاءة كل قائد كبير، ومقياسًا لمواهب النابغين ممن جمعوا بين الخبرة بالفنون العسكرية والقدرة على زعامة الشعوب. ونحن لا نرى حرجًا من المقارنة بين مصطفى كمال ونابليون أو أي عظيم من العظماء المخلدين الذين أنجبهم العالم قديمًا وحديثًا. وليس يعنينا في إظهار فضل مصطفى كمال وتقدير شخصيته النبيلة أن نعقد المفاضلة بينه وبين نابليون في أساليب القتال والمعرفة بفنون تعبئة الجيوش، ورسم الخطط، وابتداع الحيل، فهذا خارج عن بحثنا، وليس هو مما يتيسر لنا، ولا مما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإبانة عن شخصية الرجل وعظم نفسه، ولكننا نقول: إن مصطفى كمال لا يخسر شيئًا في أي مفاضلة تعقد بينه وبين نابليون من وجهة الصفات النفسية والعظمة الخلقية، بل لعله يربح كثيرًا ويرجح عليه رجحانًا ظاهرًا.
إن نابليون خان بلده «كورسيكا» وخذله في النزاع الذي كان قائمًا بينه وبين فرنسا. ولما شرع في فتوحاته ومغازيه ألفى أمامه روح الثورة تكاد تلتهم الدنيا وحيوية الشعب الفرنسي تتفزز للنهوض والعمل، فاستغلهما أسوأ استغلال، واتخذ منهما وسيلة لإشباع نهمته وتشييد مجده وتأثيل ملكه. ولم يأتِ منه النفع إلا عفوًا أو على سبيل الاضطرار.
أما مصطفى كمال فماذا استغل من الفرص، وأي أمل كان أمامه يغريه بالعمل ساعة شمر لتلك الغاية البعيدة التي تكلُّ عنها الهمم وتظلع دونها الآمال؟ إنه استغل الضعف والفوضى والفقر ودسائس الخونة في داخل بلاده قبل دسائس الأعداء في خارجها. إنه استغل الهزيمة الفاضحة فاستخرج منها فوزًا باهرًا ومجدًا سامقًا. ولكنه فوز لقومه لا لنفسه، ومجد دولة لا مجد زعيم، لم يصبه منهما إلا ما لا بد منه من فخر يعود على صاحب العمل الصالح الضخم، أراده أم لم يرده، وسعى للوصول إليه أم سعى للتخلص منه.
وهذا الرجل على اهتزاز الشرق كله وجل أوروبا بقوة حركته لا يعرف الصخب ولا الخيلاء، وقلَّ أن يرى في أوقات فراغه إلا ساكنًا صامتًا. توالت عليه كما تقول الأميرة قدرية: «عوامل الإخفاق وخيبة الأمل والمرارة اللازبة وأحوال شتى تركت لها أثرًا بينًا في حياته، إن لم تكن قد غمرتها برمتها فصارت عاملًا مهمًّا في تكوين خلائقه.» على أنه قد يبتسم فيريك الحديد يفتر فجأة عن الورد كما يقول كلود فارير، وربما شبهه بعضهم بالنمر كما يقول مكاتب اللستراسيون ويحسبهم المكاتب مصيبين في هذا التشبيه «إلا أن ابتسامات كابتسامات الأطفال تُغيِّر أحيانًا ذلك الوجه وتُكسبه عذوبة مدهشة»، وهذه الابتسامة الطفلية معروفة على أفواه كثير من العظماء، حتى الذين تمرسوا منهم بآلام الحياة واكتووا بنارها، ولا غرابة فيها، فإن النابغ لا يزال عمره كله طفلًا؛ لأن شباب عقله ونفسه لا يقترن بالتجارب الشخصية والسنين المحدودة التي يحياها على هذه الأرض، وإنما يقترن بحياة أمم متجددة، بل بحياة العالم أجمع في بعض الأحايين، وأظن تلك الابتسامة الصغيرة التي تتردد على شفتي مصطفى كمال أدل على عظمته من كل ما تجشمه من الأهوال، وما امتاز به من كرائم الخصال.
هذا هو الرجل الذي تدوي الدنيا باسمه في هذه الأيام، والذي يشعر الآن بسعادة ما مثلها سعادة في هذا العالم المترع بالهموم، ويكرع من كأس نشوة نادرة هي نشوة الشعور بأن الحق ينتصر بين مصارع الشهوات والمطامع، وما أندرها من نشوة سماوية! السعيد من ظفر برشفة من كأسها. ولكنها سعادة لا يستحقها إلا القليلون، ولا ينالها إلا الأقل من هؤلاء القليلين.