مهاتما غاندي١ (١)
لا يجد الكاتب بعد الكتابة عن مصطفى كمال صورة هي أبعد منه شبهًا من صورة الزعيم الهندي، أو النبي «غاندي» سجين الحكومة البريطانية اليوم. وليس بين الرجلين بعد جامعة الدعوة الوطنية من مناسبة تذكرك بأحدهما إن ذكرت الآخر غير مناسبة التباين في نوع القوى النفسية والصفات الخلقية، فكلاهما زعيم وكلاهما عظيم، ولكن شتان نبعاهما من الزعامة والعظمة. والفرق بينهما في الحقيقة هو فرق بين نموذج عالٍ من الجنس التركي ونموذج عالٍ من الأمة الهندية، فهذا مثل الشجاعة والبأس ووضوح الشخصية والأخذ بالحقائق الملموسة، وهذا مثل التضحية وإنكار الذات من نوع آخر، وما شئت بعد ذلك من غموض في قوى النفس وأسرارها يتصل بغوامض الهند القديمة الأسرار، أحدهما بطل والآخر نبي، وما البطولة في أعم أشكالها عند الهنود إلا ضرب من النبوة لا معجزة له غير القدرة النفسية الخارقة.
فإذا طلب السامي أو الطوراني من الرسل المبعوثين إليه أن يقيموا له البرهان على صدق دعواهم بنقل الجبال وتحويل الأفلاك والأنباء بما يجري في الأماكن البعيدة؛ أي بما يستطيعون عمله لو تضاعفت قدرتهم المادية أضعافًا معينة، كأن يزدادوا في الطول أو القوة أو السمع أو البصر آلافًا مؤلفة من الأضعاف، فالهندي لا يُطالب نبيه ببرهان كهذا، ولا يكلفه هذا النوع من القدرة، إنما يكلفه معجزة نفسية بحتة تسبر له غور قدرته على قدع شهواته واحتمال آلامه وإنكار جسده، ففريق يميل إلى التسليم بحاسته، وفريق يميل إلى التسليم بضميره.
إن أعمال مصطفى كمال تدل عليه — كما قلنا — ولكن أي دلالة على غاندي تصل إليها من مجمل أعماله؟ إنه حمل فريقًا عظيمًا من الهنود على الإعراض عن زخارف المدنية الغربية، وألَّف في كثير من المواطن بين أصحاب الديانات المختلفة، ونصح وخطب ونُقلت عنه أخبار شتى من بعيد، ولكنها في جملتها أعمال قد يأتي بها عشرة من الرجال مختلفون لا يشابه أحدهم الآخر وكلهم من الزعامة بالمنزلة المطاعة، قد تجتمع فيهم الشجاعة والمراوغة، والدهاء والصراحة، والنبل والضعة، والإخلاص والرياء، والطمع والعفة، والانتقام والمروءة، وقد ترى أحدهما من البعد عن الآخر بأقصى ما يكون عليه الرجلان المتباعدان، ولا سيما في بلاد قديمة شاسعة الأطراف مختلطة كالهند يتسع فيها المجال لعوامل متناقضة. فأي هؤلاء العشرة يكون غاندي يا ترى؟
لم يظهر بعد «طيلاق» الزعيم الهندي الذي مات في الأعوام الأخيرة زعيم كان أجل خطرًا، وأبعد صيتًا، وأكثر أتباعًا من غاندي هذا الذي لقبه قومه بالنبي أو القديس. وقد اعتاد غاندي أن يقول عن سلفه الراحل: «إنه لو ظهر في القرون الغابرة؛ لأنشأ له دولة وعرشًا»، وهو إنما قال فيه هذا القول لما عرفه من شدة مراس «طيلاق»، وقوة شكيمته، وبُعد أمله، واعتداده بنفسه، وبروز شخصيته. ولا نظنه إلا كان شاعرًا بالتفاوت بينه وبين صاحبه في هذه الخلال حين التفت إليها ونوَّه بها أكثر من مرة. فإن الاختلاف في الخلق من هذه الناحية هو أوضح مواضع التباين بين الرجلين؛ صاحب العرش الذي تأخر به الزمن عن عرشه، والنبي الذي لم يتأخر به الزمن عن شرف النبوة!
والعهد بالأغلب الأعم من أبطال النهضات وقادة الحركات الاجتماعية والسياسية أن يكونوا صعاب الطبائع، ضخام الأنانية، أولي طماح وكبرياء، وأنهم إلى أخلاق الغزاة الفاتحين أقرب منهم إلى أخلاق الأنبياء والنُّسَاك، ولو قُدِّر للهند أن لا يتولى الزعامة فيها أحد من غير ذلك الطراز الذي نبغ منه طيلاق لما سمعنا باسم غاندي قط، ولما كان له دور يؤبه له في رواية الهند الحديثة، نعم فليس غاندي بذلك الرجل الجبار بشخصيته الغلاب بجبلته! ولا هو بالمزاول المداور القوي العارضة الخلاب الفصاحة، ولا هو بالرجل الذي تروعك هيئته، وتستحوذ على إعجابك هيبته. لا بل خلاف ذلك يراه واصفوه من أتباعه وغير أتباعه. يقولون: إنهم يبصرونه في ضواه ونحافة جسمه ورخامة صوته ووداعة نظراته، فكأنما يبصرون طفلًا صغيرًا لا بطلًا مسموعًا يقود الملايين، وينهض لمناوأة أكبر دولة في الأرض. وقد رأيت له عدة صور مطابقة لهذا الوصف، وقرأت أخباره مع حكومة الهند وأساليبه الغريبة في مصاولتها، فلم أشك في أن رؤساء الحكومة هناك كانت تمر بهم لحظات لا يتمالكون فيها من الابتسام من هذا القدر الذي امتحنهم بكفاح هذا النبي السياسي، فأصبحوا أمام حملاته التي كان يصبها عليهم صبًّا لا يدرون في أي باب يسلكونها: أفي باب اللدد في الخصومة، أم في باب عناد الطفولة الطاهرة البريئة؟ ولا يكادون يعلمون هل يجدُّ هذا الخصم العنيد، أم هو يداعب حكومة الهند برهة، ثم هو تاركها وشأنها حين يلهمه هواه.
إلى هذا الحد يتصور الفكر غاندي غير مطبوع على إثارة البغضاء، وهي خصلة أفادته أجل فائدة في مهمته التي قيضته الظروف لها، وما كانت لتقيض لها رجلًا هو أخلق بها منه. إنها كانت مهمة صاحبها في غنى عما يتصف به الزعماء الجبابرة من خلق غضوب يستنفرون به في جانبهم وجانب خصومهم أقصى ما عند الفريقين من نعرة الجنسية وعداوة العصبية، فهي مهمة جهاد سلمي: سلاحها الرفق والصبر، وأصلح الناس لقيادتها ذلك الرجل المسالم بطبعه، الوديع بحكم تكوينه، الذي يُحذِّر أتباعه أشد الحذر من مقارفة العدوان والعنف ويقول لهم: إذا كان لا بد من العدوان فكونوا أنتم ضحاياه، ولا تكونوا أنتم جناته، ويعظهم أن يعلوا بأنفسهم عن غضب السباع وشراسة الحيوانية. وهي كذلك مهمة تأليف بين عنصرين فرقتهما ترات تاريخية كانت إلى عهد قريب تسيل الدماء وتذكي ضرام البغضاء وتبعث الأنفة والاعتزاز بالآباء، فكلما كان القائم بها سهل العريكة، بعيدًا عن الكبرياء الشخصية والخنزوانة الدينية، كان ذلك أعون له على الإصلاح والتوفيق ومسح الترات ولمِّ الصفوف. وهي مع هذا وذاك مهمة قناعة وإعراض عن لذات المدنية وغواياتها، ومن لها غير غاندي المتواضع المتقشف القانع باليسير من الغذاء والرخيص من الكساء؟ ولو أنه كان من رجال المطامع وعُشَّاق الدنيا المفتونين بجاهها وزينتها ولذاتها وملاهيها أتراه كان يخطر له أن يتخذ نفسه قدوة لأتباع دعوته، فيغدو ويروح في ثياب من أرخص ما تنسج الهند، أو يعيش على الفاكهة والأرز المسلوق؟ ولقد صار للدين ومكارم الأخلاق كل ما عمله غاندي ونطق به، حتى الدعوة إلى نبذ مظاهر المدنية الغربية وجد لها حجة من مكارم الأخلاق تحث عليها، فكان يقول لجماعته: «إنني لأستحي أن أخاصم رجلًا يمن عليَّ بنسج ملابسي» وما هو بهازل ولا متكلف فيما يقول.
ويُخيل إليَّ أن ضمور الشخصية أفاد غاندي أكثر مما أضر بنفوذه، وأكسبه من الأنصار أكثر ممن أبعد عنه. إذ كانت الشخصية الضامرة هي التي ساعدته على بلوغ تلك المنزلة الدينية الرفيعة التي مهَّدت له سبيل التمكن من أقوى جوانب النفس الهندية — وهو جانب الشعور الديني — ومن أبرز سمات النُّسَاك والروحانيين بساطة المظهر وخشوع النفس والجسم والبعد عن صور السطوة والوجاهة الدنيوية. بذلك يتسم النُّسَاك الصادقون. وكذلك يتراءى للناس النساك المتصنعون، فصاحبنا غاندي في بنيته النحيلة وقده الصغير أصدق عنوان للزهد والورع وأقرب صورة إلى الصلاح والتقوى. ويمكن أن يُقال على سبيل المجاز: إن الطبيعة تورعت في تركيبه فلم تعمد إلى البذخ والروعة؛ فكان الرجل متقشفًا في الحياة وكانت الحياة متقشفة فيه!
وكثيرًا ما رأينا الكبراء من ذوي الصلف والنفوذ يقبلون الطاعة لأمثال غاندي ممن لا سلطان لهم في ذواتهم، ولكنهم مظهر من مظاهر سلطان الله الذي لا يتعالى على سلطانه عظيم ولا حقير، يقبلون الطاعة له ولا يقبلونها لمن يتقدم إليهم بمزايا من جنس مزاياهم؛ لأن الأول يترك لهم الدنيا التي هي موضع تفاخرهم وتناحرهم ومثار التنافس والحسد بينهم، فيخرجونه من ميدان المنافسة، ولا يرون على أنفسهم غضاضة من تقديمه عليهم جميعًا. والثاني يتقدم إليهم بحظه من تلك المزايا لينافسوه أو ليستكبروه عن منافستهم، فيسلمون له عند العجز مجبرين ومختارين كمجبرين.
وللضعيف الهيئة في بعض الأحيان أن يغتبط بضعفه الظاهر ويحمد عواقبه؛ لأن الناس لا يكلفونه ما يكلفون القوي، ولا يقيسون أعماله بمقياس ذوي القدرة والخطر. يستكثرون منه القليل إذ يستقلون من غيره الكثير، ويعجبون منه بما ليس يعجبهم من سواه. مثله في ذلك كمثل الطفل الصغير يرفع اللبنة فتسير بحديثه الأمثال، وليس هذا ولا أضعافه مما يُذكر للرجل الكبير. وتراهم قلما يستغربون الإساءة من الضعيف إذا أساء، ولا يلتفتون إلى إساءته إلا عاطفين أو غير مبالين، وإذا أحسن لم ينفسوا عليه إحسانه لقلة ما يحفزه من دواعي العداء في النفوس.