اللغات والتعبير١
لولا أن الناس من أصل واحد في الخَلْق، ومن لحمة قريبة في النسب، بحيث إن ما يعرو أحدهم يعروهم جميعًا، وما يصدق على جميعهم يصدق على كل واحد منهم، لما أجدت عنهم اللغات في كتابة أو كلام، ولاعتقلت ألسنتهم عن كل فهم وإفهام.
ولو كان التقارب بينهم تامًّا، والشبه في السن والميل والسليقة محكمًا، لما افتقروا إلى اللغة، ولكان يستشعر أحدهم في روعه ما يقوم في روع الآخر من غير حاجة إلى الشرح والبيان.
ولا ريب أن الناس يتفاهمون ببواطنهم أكثر مما يتفاهمون بظواهرهم، وإن لاح لنا أن الأمر خلاف ذلك، لطول عهدنا باستخدام اللغة في الإعراب عن مرادنا، فما اللسان إلا الموضح والمفسر لما عساه أن ينبهم على السامع من مجمل سر المتكلم، ومما قد تحتويه أفكاره ولا يمكن أن تعبر عنه تمام التعبير وجداناته. أما حالته النفسية فهي أفصح من أن يفصح عنها اللسان، بل أفصح من أن يخفيها إذا حاول إخفاءها.
ويقرءون نتاج الصنعة فلا يجاوز ألسنتهم؛ وكأنهم يقرءونه وهم ينظرون الشاعر أو الكاتب وهو يتعمل للظهور لهم بغير مظهره، ويتنقب لهم بنقاب يخفي وجهه أو يبديه في غير صورته، أو يرائيهم بتجميل هيئته وتدميم طلعته فيخالجهم الشك فيه ويعرضون عنه، إلا إذا كان القارئ من الغرارة بحيث يُصدِّق كل ما يقال، أو من الجهل بحيث لا يميز بين السليقة والصنعة، فإنه يقبل حينئذ كل قول على علاته، فلا تمنعه المماذقة عن المصادقة، وتنكسر خزانة نفسه بمبرد اللص أسهل مما تنفتح بمفتاح صاحب المال.
ولقد والله أحسن جولد سمث إذ يقول في إحدى رواياته: «لسنا نستعمل الكلام للإفصاح عن حاجاتنا بقدر ما نستعمله لمداراتها». فقد طمس الكلام إلى اليوم من الحقائق أضعاف ما فنَّد من الأكاذيب، وضلل من المهتدين أكثر مما هدى من الضالين، وإنك ربما تقترب من الرجل فتطلع من سيماه على ما يريبك فتتوجس منه، فإذا سألته وكان من ذوي اللباقة والبراعة في المراء والمخادعة لبَّس عليك الحقيقة وأزال الريب من نفسك، فينصحك لسان حاله ويغشك لسان مقاله. وكان آمن لك لو أنك صدقته ساكتًا ولم تصدقه ناطقًا.
هذا فيما يملك الناس أن يبينوه أو يكنوه. وإن هناك لأفكارًا تلتوي على اللغات وتشمس عن التقيد بالكلمات. فما فضل الناطق في هذه الأفكار على الأعجم؟ وما زيادة الفصيح على الأبكم؟ لا فضل ولا زيادة.
ومن الأفكار ما هو أعوص من أن يعبر عنه، ولكنه أقوى من أن يكتم السكوت عنها ممض والتعبير عنها ممتنع. لم يتغلغل الكلام إلى أعماقها فيخرجها، وليست هي بالتافهة الضئيلة فتدفنها في مهدها وتدرجها، وقد خصت ولم تعم، فلم يكن لها حظ من اللغات العامة، وتفرقت ولم تجتمع، فليس من أصحابها المتفرقين لغة متبادلة. فاعلم أنه لا يريحك من هذه الأفكار إلا سكوت كالخطاب، وذلك أن تجد ولو على البعد من يعاني مثل هذه الأفكار، فيحيط بكتابك من عنوانك، وتلهمه الكلمة العاجلة ما تضيق به الفصول المذيلة، ويسبح معك برهة في عالم لا ألسنة فيه ولا آذان.
يتحادث الرجلان وبينهما تنافر في الأماني والأذواق، فيفرغ أحدهما جعبة بلاغته، ويمتهي غرار حجته، ويستنفد أفانين حيلته، ويحسب أنه أقنع جليسه واستولى على لبه، ثم ينهض هذان الجليسان وإن بينهما من البعد لما هو أبعد مما بين الميت ومناديه، والنجم ورائيه، ويجلس غيرهما وقد توافيا على أمنية، وتمازجا في الطوية، فيقضيان الساعات لا ينبسان إلا بالكلمة بعد الكلمة، ثم ينهضان وقد نقل كلاهما إلى أخيه خلاصة نفسه وطبع صورته في صدره. وما منا مَن لم يُشاهد الحالتين فتبين له لغة الصمت أحيانًا مقدار حداثة لغات الكلام.
وإني لأصغر شأن هذه العلوم والآداب القائمة كلها على تفاهم اللغات كلما تأملت فرأيت الأشياء الكثيرة التي تقوم بوجدانات الإنسان ولا يحس بها، والتي يحس بها ولا يعبر عنها، والتي يعبر عنها ولا تصل برمتها إلى عقل سامعها، فيتأكد لي أن الناس في حاجة إلى تفاهم أرقى من هذا التفاهم اللغوي. ولعل هذا النقص هو علة كثير من المشاكل التي تقع بينهم أممًا وأفرادًا، وتزول لو كان التفاهم بينهم كاملًا.
فليتخذ الناس اللغات رموزًا وإشارات تنوب عن المعاني لمن يعرفها، ولا تمثلها لمن لا يعهدها أو يأنس بها. وليعلموا أنهم ما داموا لا يقولون كل ما يريدون أن يقولوه فهم خرس وإن نطقوا. وإنما البليغ المبين من الناس رجل يجيد الإشارة بلسانه أو يراعه، ولن تغنيه هذه الإجادة عن أن يكون سامعه ممرنًا على التنجيم والتخمين. وأما من أخطأه هذا المران، فسيان عنده الإشارة باللسان، والإشارة بالبنان!