مواضع الملاحة١
مهما تعمقوا في تعريف الملاحة، ووصف محاسن الوجه وقالوا فيها ما يشبه قولهم في السحر أو الروح واليوم الآخر، فلا أخالها ترد في بادئ أمرها إلا إلى أنها شارة في أظهر عضو من الجسم — أعني الوجه — كانت ولا تزال في بعض الأحيان تدل على فضيلة جنسية في جسم الرجل أو المرأة.
إن أظهر ما تظهر الملاحة من معارف الوجه في العين والشفة؛ لأنهما الجارحتان اللتان ترتسم فيهما حالة النفس وإحساسها بغاية الوضوح والجلاء، وبهما تختلف أمة عن أمة وجنس عن جنس. فالعربي والمصري والصيني والإنكليزي والألماني وغيرهم من الملل والأمم، يتماثلون في كثير من ملامح الوجه وقسماته، ويندر أن يتماثلوا بالعيون والشفاه. وكذلك الرجل والمرأة. وأصدق وأوجز ما يقال في هاتين الجارحتين أنهما نافذة النفس، فمنها تطل على العالم، ومنها يطل العالم عليها. ولعل ما تكشفه منا للناس أكثر مما تكشفه من الناس لنا.
لا بد من صلة محكمة دقيقة بين العين والرأس لأن نظرة العاقل غير نظرة المجنون. وقُلْ مثل ذلك في الغادر والأمين، والفظ والوديع، والسقيم والسليم، والشهوان والعفيف، فإن لكل منهم نظرة غير نظرة الآخر. أما صلة الرأس بالجسم وما يندمج فيه من الطبائع فمعلومة ملحوظة، فالعين بهذه المثابة هي عنوان صفة النفس ومزاج الجسد.
ولا بد من صلة بين الشفة والإحساس؛ لأن الشفة هي ملتقى أعصاب الوجه، وهي أدق أعصاب الجسم، فلا تهيج في الجسم هائجة، ولا تسكن به ساكنة إلا يبدو لها أثر على الشفة، فتفتر أو تتهدل أو تنقبض أو تتقلص أو ترتجف. وترى الإحساس في الشفة يتوق إلى مقابلة مثله؛ لأن الإحساس يبلغ فيها أشده، وهذا هو الميل إلى اللثم والتقبيل.
نعم إن الأعضاء كلها تميل إلى المماسة، ولكن الميل إنما يكون على قدر إحساس كل عضو. فلا تميل اليد إلى اليد كميل الشفة إلى الشفة؛ لأن الفرق بينهما في الإحساس، كالفرق بين المصافحة والتقبيل.
وقد وُضعت هذه الحساسية في الفم؛ لأنه هو باب الجوف، والجوف بحاجة إلى حاسة ظاهرة تجيد له جس الأشياء قبل وصولها إليه، ولهذا نرى الأعمى أكثر ما يعتمد في جس الأشياء على شفتيه؛ لأنه حين فقد البصر وأصبح معتمده على الحس وحده لا يشعر في جسمه بما هو ألطف على المس من شفتيه.
فالشفة هي ترجمان الإحساس ومجس العواطف. وإذا كان في الإنسان خاصة تتصل بالإحساس فهي أحرى الجوارح أن تظهر عليه تلك الخاصة.
فقليلًا ما يلتبس عليك الصابر الكظوم بالقلق اللجوج، أو الأريب الكيس بالحميقة الأبله، من التأمل في شفاههم وهيئة أفواههم، وربما التبسوا عليك ساعة الهدوء والصفو، ولكنهم لا يلتبسون ساعة الغضب والاهتياج.
ولرب وجه صبوح جميل يروقنا استواء خلقه واعتدال تقسيمه، ويحيرنا نقد معارفه وقسماته. ولكنا يؤلمنا أن لا نتملى من ذلك الوجه بحظ الاستحسان الذي شوقنا إليه منظره. ووجه أقل منه جمالًا وصباحة وأخفى روعة ورواء، لكنه يسبينا ويثير بلابلنا، ويستولي على إعجابنا، وهذا ما نعلله أحيانًا باختلاف الأذواق أو خفة الدم، على أننا لو أنعمنا النظر في ذينك الوجهين لم يطل بحثنا عن السبب، وعلمنا أن ما نسميه تارة باختلاف الأذواق، وتارة بخفة الدم هو معاني تتضمنها العيون والشفاه ليست هي من جمال الصورة، ولكنها هي شطر الجمال الأكبر، وهي التي تفيض على ذلك التناسب الهندسي المملول روحًا حيًّا جذابًا.
إن لكلِّ عضو جماله الخاص به، وجمال العيون والشفاه عام لا يجمل الجمال إلا به. ولو نظرنا إلى مزية في العيون والشفاه تجعل لها هذا الشأن في تقدير الجمال غير اتصالها بالإحساس ذلك الاتصال الذي ألمعنا إليه، لما أبصرنا لها أية مزية سواها. فلماذا لا نقول: إن الأصل في حب الجمال هو امتحان قابليات الجسم بأظهر أجزائه للناظر؟ أفي ذلك بخس للجمال؟ ما الجمال إلا صبغة لا تفارق الجسوم، فكيف نُوفِّق بين احتقار الجسم وتنزيه صبغته؟
هذا كلام لا يرضي عشاق الجمال، وليس يروق هؤلاء العشاق أن يكون حبهم له نوعًا من جس النبض وفنًّا من الفراسة. فإن كان إرضاؤهم لا بد منه، فليذكروا أن جمال أجدادنا لا يستحق أكثر من ذلك، وأننا لم نرث جمالنا وعواطفنا من غير أولئك الأجداد.