معرض الصور المصري
للفن دلالة على مزاج الأمة وخواصها لا يدلها العلم ولا الصناعات؛ لأن العلوم تُنقل والصناعات تُقتبس فتتساوى فيها الأمم من علم منها ومن تعلَّم، وإذا هي تفاوتت فيها فشبيه أن يكون تفاوتها في المقادير لا في الصفات والكيفيات؛ لأن القضايا العقلية كالماء الطهور لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. والمصنوعات اليدوية آلية يكاد يتماثل فيها الإنسان والأداة الجامدة، فلا فرق بين نظريات أوقليدس يدرسها السويدي في أقصى الشمال، أو الأفريقي في أقصى الجنوب، ولا خلاف بين الآلات يُركِّبها الأمريكي من مواد معروفة وبمقادير محدودة، أو يُركِّبها الزنجي من تلك المواد وبتلك المقادير، وإنما تتفاوت خصال الأمم وتتمايز ملامحها الباطنة بالفنون والآداب. فالنغمة الموسيقية تترنح لها أعطاف أمة طربًا وزهوًا.
والصورة البارعة تتراءى فيها نماذج الجمال في نفوس أبناء تلك الأمة، والقصيدة البليغة تلمس بها مكامن شعورهم ونجوى ضمائرهم، والرواية الصادقة تعرض لك علاقاتهم وأواصرهم، وتمثل لنفسك طبائعهم ومآلفهم، هذه المبدعات الفنية أو واحدة منها تنبئك عن أخلاق الأمم ومبلغ رقيها النفسي بما لا تنبئك عنه جميع علومها وصناعاتها ومخترعاتها، فلا تؤمن برقي أمة بلغت فيها المعارف العقلية والصناعية أوجها الأعلى إذا هي كانت مع ذلك مقفرة الفنون ضئيلة الآداب، إذ لا عبرة في رقي الشعوب بغير الرقي الذي تشترك فيه المشاعر والخوالج النفسية، ولا فائدة من علم سامٍ لا تستخدمه نفس سامية. وعلى أنه هيهات يتقدم شعب في علم أو صناعة إن لم يصحب تقدمه هذا تقدم في فنونه وآدابه؛ لأن نهضة العلوم لا تتأتى بغير دوافع نفسية، وهذه الدوافع لا تكون حيث لا تفقه النفوس محاسن الحياة ومغازي الشعور الصحيح ثم تعرب عنها فيما تتغنى به أو تنشده أو تصوره أو ترمز إليه.
لذلك يسرنا ما نراه من بوادر النهضة الفنية في مصر، ونستبشر بمظاهر هذه النهضة؛ لأنها الدلالة الصحيحة على تطور الأمة المصرية في مشاعرها الباطنة. وليس من اتفاق المصادفات هذه النهضات نراها في آن واحد تظهر في غنائنا وتمثيلنا وتصويرنا وشعرنا الحديث، فالشعب المصري اليوم يفهم ما يغنيه فلا يجعل الكلمات مطايا بكماء لا معنى لها إلا أن تحمل إلى آذانه الألحان السقيمة والنغمات الفاترة، وهو يشهد على مسرحه تغيرًا يتدرج إلى الوصف الاجتماعي الصادق، ويرى من أبنائه من يشتغل بالتصوير ويعنى بإتقانه والتبريز فيه حبًّا في الفن لا طمعًا في الكسب ولا تطلعًا إلى الشهرة بين الجماهير، وقد أخذ الشعر المصري ينطق بلسان آدمي بعد أن كان يروي عن تماثيل جوفاء صاغتها البلادة والقدم، حدث هذا الانتقال في أوقات متقاربة ترجع كلها إلى أوائل العقدين الأخيرين من الجيل الذي نحن فيه، فكان التوافق في تنفس الفنون كلها تنفس الحياة واستيقاظها دليلًا على تنبه قد شمل الأمة بأسرها، وحق للمتفائلين أن يستشفوا من وراء هذه اليقظة الفنية روحًا قومية ناشطة من سبات الجمود، كما يستدل الفاحص على جيشان الماء في جوف الأرض بانحباس ينابيعه في الأماكن المختلفة دفعة واحدة.
ومن أقرب شواهد هذه اليقظة الفنية افتتاح معرض الصور المصري الذي أعده في هذه الأيام عُشَّاق التصوير وطلابه، وقصروه على الصور من صنع المصريين وحدهم؛ ليكون عنوانًا خاصًّا تمتزح فيه الروح الفنية بالروح القومية، فأحسنوا صنعًا ودلوا على ذوق سليم.
زرت هذا المعرض أمس فرأيت زرعًا ينجم في منبت خصيب، وأملًا يشرق في سماء صافية. فإذا سلم الزرع من لوافح السموم، وخلت السماء من دواهم الغيوم، أصبحنا بعد قليل ولنا فن مصري رائع يُذكر كلما ذُكرت فنون الأمم، ويسمع الناس اسمه فلا يكون عندهم وقفًا على مخلفات مجدنا القديم، وبقايا فن الفراعنة المهجور.
لا أقول: إن معرض الصور المصري بلغ الغاية وتنزه عن المأخذ، فهذا ما لا يقال في معرض من معارض العالم. ولكني أقول: إنه في طريق التقدم والإتقان وفي النهج القويم إلى التكمل والنضج، وهذا كل ما يُطلب منه اليوم.
وعندي أن فن التصوير يُترقى في ثلاث درجات لا يصعب على مصورينا الأماثل بلوغ ذروتها العليا مع المثابرة والتوفيق. فأول هذه الدرجات درجة النقل البحت، والثانية درجة النقل بتصرف يوحي إلى الناظر إحساس المصور بما ارتسم في نفسه وجرت به ريشته، والثالثة درجة الابتداع والرمز المعنوي، وهي القمة التي لا يتسنمها مقلد، ولا يسمو إليها إنسان من غمار الناس، مهما بلغ من فرط تعلقه بالفنون وإعجابه بظواهرها.
في الأولى يظهر نظر المصور ويده، وفي الثانية يظهر ذوقه وشعوره، وفي الثالثة تظهر روحه وعبقريته، ولعل هذه المرتبة هي التي يقصدها جيتي بقوله: «إن أسمى وظائف كل فن هو تمثيل صورة لحقيقة سامية في زي شكل محسوس»، والقدرة كل القدرة إنما هي في إدراك الحقيقة السامية، فإنها لا تحتاج إلى حاسة مضافة في الإنسان، ولكنها تحتاج إلى فطرة تُحسن تصور المحسوسات المدركة رفيعها ووضيعها. فمن استطاع تمثل الحقائق السامية وتمثيلها كان لبصائر الناس بمثابة المجهر لأبصارهم؛ يريهم ما كانوا يحسبونه ضبابًا مبهمًا، فإذا هو أمامهم نجوم واضحة مستقلة تدور في أفلاكها بحساب ونظام مقدور. فلا يلتمسن الناس نفائس الفن النادرة في عالم الضباب والأوهام، ولا في عالم الأنفاق والسراديب، فإن عالم الفن مشرق السماء واضح النهار، لا تلوح الأشباح والعفاريت في لياليه إلا لأطفاله وجُهَّاله، وإنما هي آفة النظر القصير تُري صاحبها الضباب حيث تسطع النجوم، وتُبدي له الخيالات الوهمية حيث تبدو الحقائق السامية.
وفي المعرض المصري الكثير من صور النقل المحكم، وليس بالقليل بين معروضاته ما توخَّى فيه أصحاب التصرف المؤذن بالنجاح والإتقان المبشر بالاختراع والإبداع. فنهنئهم بما بلغوه ونرجو لهم المزيد المطرد. ونقول لهم: إن بين أيديهم وأيدي عُشَّاق التصوير عامة أمانة كبرى يؤدونها لمصر، فليبذلوا جهد المطيق، وليؤدوها على أحسن ما يُستطاع من الإخلاص والوفاء.
لقد كان لمصر فن جليل نشأ في حجر الموت المقدس والخلود، فخلا من بهجة الفن الإغريقي، ورشاقة الفن البيزنطي، وبذخ الفن الفارسي، وتنسيق الفن العربي. ولكنه امتاز بالضخامة ومسحة الدوام والثبوت، فلم يضارعه في هذه الميزة فن من الفنون. بيد أن مصر اليوم غير مصر الفراعنة الأقدمين، فمن الرجوع إلى الوراء أن نبني على أساسهم وننسج على منوالهم ونحن في القرن العشرين.
نشأن الفن المصري القديم في ظلال الموت والخلود، فلينشأ الفن المصري الجديد في كنف الحياة والمثل الأعلى. وإنه لن يخسر بذلك، بل هو لا شك يكسب وينمو ويقوى؛ لأن الحياة أعمق من الموت والمثل الأعلى أسمى من الخلود.
الوصف الشعري
تذكرني آراء كُتَّابنا في الوصف الشعري بقصة ذلك الحاكم الأمي الذي جيء له برجلين يمتحنهما في الخط، فأمرهما بكتابة كلمة ثور، وكان أحدهما أميًّا مثله فرسم الثور رسمًا ساذجًا، وكتب الثاني الكلمة بأجود خط وأحسنه، فاستجهل الحاكم صاحبنا هذا وقضى للأول عليه؛ لأنه رأى قرني الثور وذنبه وأظلافه في ورقة الأمي، ولم يرَ أثرًا لذلك في ورقة الكاتب الخبير.
وكذلك يظن كتابنا — عفا الله عنهم — أن الوصف الشعري من شأنه أن يُمثِّل المناظر للعين فيغنيها عن النظر، ويجهلون في أميتهم الفكرية أنه وصف يرمز إلى العواطف والإحساسات التي في النفس كرمز الحروف إلى الصور المعنوية، فإذا وصف الشاعر الوردة فليس المقصود من وصفها أن تعلم أي شيء تشبه، بل المقصود أن تعلم أي شيء هي في النفس. والشاعر المطبوع لا يعنيه أن يشبه حبيبه، كما يشبه الشرطةُ المجرمين في أوراق تحقيق الشخصية، وإنما يعنيه أن يشبه كلفه به وهيامه بمحاسنه. وما يأتي في خلال ذلك من تمثيل تلك المحاسن فإنما يأتي عرضًا لإظهار مبلغ ذلك الهيام، أو للدلالة على استحقاق المحبوب له إن كان لتلك الدلالة قيمة.
الحق والباطل
كثيرًا ما يكون الباطل أهلًا للهزيمة، ولكنه لا يجد من هو أهل للانتصار عليه.