الألعاب الرياضية١
إن حاجتنا إلى العناية بالألعاب الرياضية ليست مما يجوز أن يوضع موضع الخلاف؛ إذ هي لا تقل في لزومها للتلامذة عن مواد التعليم نفسه، ولا نكون مغالين إذا قلنا: إنها مقدمة عليها في كثير من الاعتبارات؛ لأننا نعد الألعاب الرياضية الصحيحة تمرينًا نفسيًّا عقليًّا قبل أن نعدها تمرينًا يعود صلاحه على الجسد وحده، ولا نكاد نعرف أمة شعرت بالتقدم والتفوق إلا رأينا فيها مع شعورها هذا شغفًا شديدًا بالرياضة البدنية.
وهذه إنجلترا واليابان شاهدان على ذلك في التاريخ الحديث، فقد بلغ من اهتمام الإنجليز بالألعاب أن يترك أعضاء مجلس النواب الجلسة ليشهدوا إحدى مسابقاتها، واشتهر من عادات أهل اليابان أنهم كلفون بهذه الألعاب، ولا سيما المصارعة بفنونها كلفًا لا يضاهيه كلف أمة أخرى في الشرق. ولا غرابة في انتباه الأمم الحية إلى مزية هذه التمرينات الجسدية، فإن أول ما يحسه الإنسان من يقظة الحياة الميل إلى الحركة وطلب القوة، وقد يكون هذا الميل من دوافع النفس قبل أن يكون من دوافع الجسد؛ لأننا كثيرًا ما نرى في الشعوب الخاملة أناسًا من أقوى الناس وأصحهم بدنا ولكنهم كسالى، فاترو الحس، ثقال الطبع، لا تلمح عليهم خفة الحياة وتفززها، وربما رأينا العجاف الضعاف في أمم ناهضة تواقة إلى الكمال، وكأنما نفوسهم تستحث أجسادهم إلى أكبر مما تطيقه من النشاط والمراح. فليس من التجوز البعيد أن نقول: إن النشاط ملكة نفسية تستقر في طبائع الأخلاق قبل أن تشاهد مستقرة في صلابة البنية ووثاقة التركيب.
ونحن نعزو إلى إهمال الرياضة البدينة غير قليل مما يُعاب على معظم شباننا من كسل النفس، وقلة الإقدام على المخاطر، واقتحام المسالك النادرة والفجاج الغريبة في الأعمال الاقتصادية والأدبية وغيرها، فقليل في هؤلاء الشبان من يحسب الحياة أوسع من هذه المعالم المطروقة التي يتناولها حساب الحيطة والتقية المحفوظة عن ظهر قلب. وعندهم أن المخاطرة في كل أحوالها شعبة من الجنون، وضرب من الخطل إن أفلح فإنما هو الخطل الموفق. وأقرب ما نئول به ذلك أن السلامة هي الفضيلة العليا عند هذا الفريق من الشبان، وأن الدنيا برحبها في رأيهم هي هذه الطرق المعبدة من العيش التي يسير فيها المرء مغمضًا كما يسير مفتوح العين بصيرًا. وليس أدل على الجمود وركود العقل من غلبة هذا الاعتقاد لأن المخاطرة عامل لا يمكن إغفاله في باب من أبواب العمل. وروح المخاطرة عميقة في الحياة، لا بل الحياة نفسها مخاطرة في عالم مجهول، وكل فتح جديد فيها إنما هو مخاطرة جديدة. فمن لم يخاطر مختارًا بالإقدام على ما يخاف خاطر مكرهًا بالزهد فيما يطمح إليه ويهواه.
وقد يُضحك ويُبكي أن تسمع رأي أولئك الشبان في المخاطرين الذين تصل إليهم أخبارهم على سبيل التفكهة والتنادر بالغرائب. أذكر أن رجلًا أمريكيًّا كان من همه أن يحمل الناس على التحدث بعمل مدهش يُقدم عليه، فدخل في برميل من الحديد ودفع بنفسه في جنادل «نياجرا» ليعبرها من شط إلى شط، ولم يكن على رهان ولا موعودًا بجائزة، فما كاد البرميل يمس الماء حتى تقاذفته اللجة فتحطم ومات الرجل. وهي ميتة قاسية لم يُقدم عليها ذلك المخاطر إلا لأن النجاة منها كانت تعد أعجوبة في العالم من أندر الأعاجيب. ولا نشك في أن الأمريكان أنفسهم استحمقوا الرجل ورموه بالسخف والجنون، ولكننا لا نشك أيضًا في أنهم قد أدركوا جميعًا «مسوغًا» لتلك الحماقة وتمثل لهم حظ جميل كان ينتظر الرجل عند محبي الغرائب ومحباتها من أبناء أمريكا وبناتها. وفهموا أن هذا الولع بالمخاطر على شذوذه واعوجاجه ينتمي في النفس الإنسانية إلى عاطفة كريمة هي صاحبة الفضل في كل ما بلغه الناس من التقدم على أيدي المجازفين والشهداء، وإليها يجب أن ينسب كل معلوم كان مجهولًا، وكل مألوف كان محذورًا، وكل سهل كان صعبًا، وكل حق كان نهبًا، وكل أرض كشفتها رحلة مرهوبة، وكل شر دلت عليه تجربة متلفة، بل كل دين أو رأي أو اختراع أنكره الناس قبل أن يسلموا به، وذادوه قبل أن يذودوا عنه. فما كان شيء من ذلك ميسورًا لو لم يتقدمنا مخاطرون في كبائر الأمور وصغائرها، وعاملون لا يستثيرون دفتر الربح والخسارة في كل خطوة يخطونها. وأقرب هذه التجارب إلينا تجربة الطيران، فهل تظنون أن أول مجازف بركوب طيارة كان أرجح حلمًا (من وجهة النظر إلى السلامة) من صاحب برميل نياجرا؟
وهذا هو الذي لم يفهمه ظرفاؤنا الذين نما إليهم حديث ذلك الرجل، فجعلوا يضحكون منه ما طاب لهم الضحك، أو يصرفونه بكلمات تأفف يوشك أن يكون تباهيًا بسلامة عقولهم وطهارة قلوبهم من خزي التورط في هذه المعاطب، وكان أعذرهم للرجل من كان يسأل: ألم يطمع في ربح يجنيه من الاشتهار بالمخاطرة؟ ويجوز أنه كان طمع في شيء من هذا. ولكن ما سؤالهم عن المال في علة هذا الخلق الذي أودى بحياته؟ ما سؤالهم عنه في البحث عن علة ولوعه بركوب الغرائب؟ إن الفارس ليجازف في طلب الأسلاب، وليس الحطام المسلوب هو علة شجاعته وفروسيته ومجازفته لحياته. والجبان كالشجاع في الشوق إلى لذة السلب، فلماذا لم يكن كل الناس شجعانًا إذ كانوا كلهم طامعين؟
والأمر الذي فات ظرفاءنا هو أن العاطفة إما أن توجد وفيها السليم والسقيم أو لا توجد بتاتًا، وأنه خير لنا أن يكون منا مجازفون متهوسون من أن لا يكون بيننا مجازفون على الإطلاق. فيقتلنا حب السلامة، ونحسبنا ناجين وادعين ونحن في الحقيقة نُعرض أنفسنا لأرذل الأخطار. وأي خطر أرذل من استكانة النفس وتقلصها في قشورها؟
وسيعلمون لذة المجازفة الساحرة يوم يعلمون لذة الحياة الشريفة، فعلِّموهم كيف يلعبون فإنه لا أمل في الجد القويم لمن لا يعرف اللعب القويم.