الثقة بالناس١
الثقة بالناس عقيدة كثير من حكماء الناس وبلهائهم. وهي إن أريد بها الثقة بما في الإنسانية من خير مودع وآمال مرجوة، مذهب لا سلطان لنا عليه، ولا خوف علينا منه، ولا مطمع للرأي في تفنيده؛ لأنه هوى متمكن من فطر النفوس، راسخ في جبلاتها.
أما إن أُريد منه الثقة بهؤلاء الناس الذين نُبصر وجوههم، ونسمع أصواتهم، ونغدو ونروح معهم، فلنا فيه قول قد لا يوافقنا عليه إلا الذين عجموا عود الناس كما عجمناه، وبلوا من مواربة الإنسان بينه وبين غيره وبينه وبين نفسه ما بلوناه.
الناس أشرار أو أبرار. فأما الأشرار فحكمهم معروف وأمرهم مفروغ منه.
وأما الأبرار فهم على الفضيلة طرائق، وفي اجتناب الرذيلة مشارب.
فرجل طيبته جهل بالشر، فلو عرفه لاندفع فيه.
ورجل طيبته عجز عن الشر، فلو قدر عليه لما قعد عنه.
ورجل طيبته مغالبة للشر، فهو يصرع الشر والشر يصرعه. ويملك نفسه آنًا ويخذله الطبع أحيانًا. وأنت لا تعرف متى يكون غالبًا فتأمنه وقت غلبته، ومتى يكون مغلوبًا فتحذره وقت هزيمته.
ثق بالجاهل حتى يعرف الشر، وبالعاجز حتى يقوى عليه، وإياك أن تثق بمصارع الشر وإن كان لهو أصوب من رفيقيه فكرًا وأرحب منهما نفسًا، فإنك إن وثقت به كنت كمن يخاطر على المعركة بغير بينة، وكنت كمن يصحب الغارة ليغنم فيصبح وهو في يد الأعداء غنيمة.
وما ظنك بمعركة لا يعرف القلب الذي هو ميدانها كيف تدور الدائرة فيها، ولا يدري شاهدها موقف الخصمين منها، إلا كما يدريه غائبها. وإنما هي حرب البراقع — ولو ظهر كلا العدوين لكان للحدس مجال وللتقدير حساب، ولكنهم لا يظهرون إلا خلف قناع من العثير المثار، ولا يضربون بسلاح تعرفه إلا ريثما يتقلدون سلاحًا غيره قد تجهله.
ذلك أن «العارف» عرضة للشك وهدف للحيرة. ولا ينتاب الشك نفسًا إلا زعزع أركانها، وأحال معالمها، فلا تدري أيها جانب الشر، وأيها جانب الخير.
فإن كان لا بد من الثقة بهذا فثق به حيث يكون نفعك نفعًا له، وضررك راجعًا ولو بعضه إليه.
وإن أردت الأمان، فثق بالناس جميعًا وكن على حذر من الإنسان.