التمهيد الأول
لم تكن أحداث بيرل هاربر قد وقعت بعد، وكانت الولايات المتحدة لا تزال في حالة سلمٍ عندما انطلق بخار سفينة حربية بريطانية في جزيرة نانتوكيت وعلى متنها ما أُطلِق عليه لاحقًا «أثمن شحنة تصل إلى الشواطئ الأمريكية على الإطلاق». لم تكن شحنة مبهرة؛ ليست سوى أسطوانة معدنية طولها نحو سنتيمترين ونصف السنتيمتر، مزودة بوصلات وزعانف تبريد. ويسهل حملها في يدٍ واحدة. غير أن هناك مزاعم قوية بأن فضل الانتصار في الحرب في أوروبا وآسيا يرجع إلى هذا الجسم الصغير؛ مع أن القضاء على آخر دول المحور تطلَّب اللجوء إلى استخدام القنبلة الذرية.
كان هذا الجسم المبتكَر للتوِّ هو صمام الماجنترون الفجوي.
لم يكن الماجنترون فكرة جديدة من حيث المبدأ. فقد كان معلومًا منذ فترة أنه يمكن لمجال مغناطيسي قوي أن يحافظ على حركة الإلكترونات في دوائر محكمة، مما يؤدي إلى توليد موجات الراديو. غير أن هذه المعلومة ظلت مجرد فكرة في المختبرات إلى أن عُرف أنه يمكن استخدام موجات الراديو هذه في أغراض عسكرية.
وعندما استُخدمت هذه الموجات في أغراض عسكرية، أُطلق عليها اسم الرادار.
عندما تسلم العلماء الأمريكيون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هذا الجهاز أخضعوه للعديد من الاختبارات. وقد تملَّكتهم الدهشة عندما اكتشفوا أن ناتج طاقة الماجنترون كبير جدًّا بحيث لا يقوى أيٌّ من أجهزتهم المختبرية على قياسه. وبعد فترة قصيرة، ومع زيادة قدرة الهوائيات العملاقة التي سرعان ما أقيمت على طول بحر المانش، أدى هذا الرادار البريطاني مهمة رائعة؛ إذ رصد تشكيلًا من أعداد هائلة من الطائرات الحربية التابعة لسلاح الجو النازي أثناء استعدادها للهجوم على إنجلترا. والواقع أن الفضل يرجع إلى الرادار — أكثر من أي شيء آخر — في انتصار القوات الجوية الملكية في معركة بريطانيا.
وسرعان ما اكتُشف أنه لا يمكن استخدام الرادار في تتبع طائرات العدو في السماء فحسب، وإنما في إعداد خرائط إلكترونية أيضًا للأرض التي تحلق فوقها الطائرات. ومعنى هذا أنه يمكن تصوير الأرض في الأسفل صورًا يمكن تمييزها على أحد أنابيب الأشعة السالبة — حتى وإن كان الظلام دامسًا أو كانت السماء ملبدة بالغيوم — مما يساعد في الملاحة وفي عمليات القصف. وما إن صار الماجنترون متاحًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حتى طرح فريق يرأسه لويس ألفاريز الحائز جائزة نوبل السؤال التالي: «ألا يمكننا استخدام الرادار لمساعدة الطائرات في الهبوط هبوطًا آمنًا وأيضًا في إسقاطها؟»
وهكذا بدأت فكرة التوجيه الأرضي للطائرات، أي إرشاد الطائرات للهبوط في الأحوال الجوية السيئة باستخدام رادار دقيق.
استخدمت الوحدة التجريبية «مارك ١» تقنية التوجيه الأرضي بواسطة رادارين منفصلين، أحدهما يعمل على مسافة عشرة سنتيمترات لتحديد اتجاه الطائرة في زاوية السَّمْت (المسافة الزاويَّة شرقًا أو غربًا من نقطة الشمال)، والآخر — وهو أول رادار في العالم يعمل على مسافة ثلاثة سنتيمترات — لقياس الارتفاع فوق سطح الأرض. ويمكن للمُشغل الذي يجلس أمام الشاشتين توجيه الأوامر للطائرة لتهبط بأمان بحيث يخبر الطيار متى يُسرع بالتحليق يمينًا أو يسارًا أو متى يزيد الارتفاع عند الضرورة.
قوبلت فكرة التوجيه الأرضي للطائرات بترحيب حماسي من قبل قيادة الطائرات القاذفة التابعة للقوات الجوية الملكية التي كانت تفقد كل يوم بسبب سوء الأحوال الجوية عددًا من الطائرات أكبر مما يُسقطه العدو. وفي عام ١٩٤٣ اتخذت وحدة «مارك ١» وطاقمها مكانًا في قاعدة جوية في سانت إيفال بمدنية كورنوول. وأُرسِل طاقم تابع للقوات الجوية الملكية للحاق بهم، وكان هذا الطاقم بقيادة الملازم طيار لافينجتون. وكان مساعد لافينجتون هو الضابط طيار المكلَّف حديثًا آرثر سي كلارك.
•••
الواقع أنه لم يكن يُفترض لكلارك الانضمام إلى القوات الجوية الملكية مطلقًا. فأثناء حياته المدنية عمل كلارك موظفًا حكوميًّا في وزارة المالية البريطانية، وهي من الوظائف التي يُعفَى من يعمل بها من أداء الخدمة العسكرية. غير أن كلارك ظن — وكان محقًّا في ظنه — أن إعفاءه سيُلغى قريبًا؛ لذا فقد تسلل من عمله ذات يوم وتطوع في أقرب وحدة تجنيد تابعة للقوات الجوية الملكية. حدث ذلك في الوقت المناسب تمامًا. فبعد بضعة أسابيع بدأ الجيش في البحث عنه باعتباره هاربًا من الجندية ومطلوبًا للخدمة في الفيلق الطبي! ولما كان كلارك لا يحتمل منظر الدماء — خاصة دماءه — فقد كان من الواضح أنه نجا من الخدمة في الفيلق الطبي بأعجوبة.
في ذلك الوقت كان آرثر كلارك مولعًا بفكرة السفر إلى الفضاء بعد أن انضم إلى جمعية ما بين الكواكب البريطانية بعد تأسيسها عام ١٩٣٣ بوقت قصير. وحين أدرك أنه يتحكم في أقوى رادار في العالم — يصدر أشعة ضيقة النطاق — فقد وجَّهه ذات ليلة نحو القمر البازغ وعدَّ ثلاث ثوانٍ ليرى ما إذا كان سيتلقى صدًى أم لا.
وللأسف لم يتلقَّ شيئًا. وقد مرت سنوات بعد ذلك قبل أن يتمكن أي شخص من استقبال أصداء للرادار من القمر.
غير أن شيئًا آخر ربما يكون قد حدث؛ مع أن أحدًا لم يكن بمقدوره أن يعرف به في حينه.