التمهيد الثالث
اختبار جوي
في ربيع عام ١٩٤٦ وعلى جزيرة مرجانية جنوب المحيط الهادي كانت تشتهر (في السابق) بجمالها واسمها جزيرة بيكيني؛ جمعت البحرية الأمريكية أسطولًا يضم بضعًا وتسعين سفينة. تنوعت هذه السفن ما بين سفن حربية وطرادات ومدمرات وغواصات وسفن مساعدات متنوعة، قادمة من مصادر متعددة. فبعضها كان سفنًا ألمانية أو يابانية من مغانم الحرب العالمية الثانية التي وضعت أوزارها مؤخرًا، ومعظمها كان سفنًا أمريكية إما في حالة سيئة بسبب الحرب أو قديمة الطراز من الناحية التكنولوجية.
لم يكن هذا الأسطول موجهًا لشن حرب بحرية هائلة ضد أي دولة، بل إنه لم يكن متجهًا إلى أي مكان. فجزيرة بيكيني المرجانية كانت المحطة الأخيرة لتلك السفن. كان السبب الذي جُمع من أجله الأسطول هو إلقاء قنبلتين نوويتين فوق الجزيرة المرجانية. كان من المقرر إلقاء إحداهما من الجو، والأخرى من تحت سطح البحر. كان الهدف المأمول من هذا العمل الشاق هو توفير بعض المعلومات للقادة البحريين عما يمكن أن يتكبده أسطولهم من خسائر في أي حرب نووية قادمة.
وبالطبع لم تكن جزيرة «بيكيني» المرجانية نهاية اختبار الأسلحة النووية. وإنما كانت مجرد بداية. فعلى مدار أكثر من اثني عشر عامًا تالية فجَّر الأمريكيون قنبلة تلو الأخرى في الجو مع تدقيق النظر في حساب الأرباح والخسائر وأي أرقام أخرى يمكن استخلاصها من الاختبار. وهكذا فعل السوفييت والبريطانيون بعد ذلك بقليل، ثم تلاهم الفرنسيون والصينيون. فجَّرت أول خمس قوى نووية (التي لم يكن من قبيل المصادفة كونها الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) ما يزيد عن ألف وخمسمائة سلاح نووي في الجو. وقد حدث ذلك في أماكن مثل جزر مارشال في المحيط الهادي، وفي الجزائر، وبولينزيا الفرنسية، وفي مناطق صحراوية من أستراليا، وفي مدينة سيميبالاتينسيك في كازاخستان السوفييتية، وفي نوفايا زيمليا في المحيط المتجمد الشمالي، ومنطقة لوب نور التي تكثر فيها المستنقعات في الصين، وفي العديد من الأماكن الأخرى في مختلف أنحاء العالم.
لم يكن منشأ هذه الانفجارات ذا أهمية كبيرة. كان كل انفجار منها يُنتج وميضًا براقًا إلى حدٍّ لا يمكن تصوره؛ وميضًا — «أشد بريقًا من ضوء ألف شمس» على حد وصف الفيزيائي هانز ثيرينج — يتضخم في الفضاء في دائرة فوتونات نصف كروية متمددًا بمعدل ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية.
•••
في ذلك الوقت كانت فوتونات ضوء الرادار البدائي الذي وجَّهَه الشاب آرثر كلارك إلى القمر قد قطعت مسافة طويلة من المكان الذي كان يوجد فيه كوكب الأرض في المجرة عندما أُطلقت هذه الفوتونات.
كم تبلغ المسافة التي قطعتها؟ حينئذٍ كانت نحو ثلاثين سنة قد مرت دون استقبال أي بيانات من موجات الرادار. ينتقل الضوء — أو موجات الراديو أو الإشعاعات الإلكترونية من أي نوع — بسرعة ١٨٦ ألف ميل (أو ٣٠٠ ألف كيلومتر) في الثانية، وتلك هي سرعة الضوء. وهكذا فإنه في كل سنة كانت تلك الفوتونات تبتعد مسافة سنة ضوئية واحدة، وفي طريقها اجتاحت هذه الفوتونات بالفعل أنظمة عدة مئات من النجوم. والعديد من هذه النجوم محاط بالكواكب. فضلًا عن أن عددًا قليلًا منها به كواكب تصلح للحياة. وجزء صغير جدًّا من تلك الحياة يمكن وصفه بأنه حياة ذكية.
لم يتعرف البشر قط على النجم الذي كان لكائناته السبق في اكتشاف ما يحدث على سطح كوكب الأرض. هل هو النجم جرومبريدج ١٦١٨؟ أم ألفا قنطورس ب؟ أم ألفا قنطورس أ؟ أم القزم الأحمر لالاند ٢١١٨٥ أم إبسلون إريداني أم تاو سيتي؟
لم يعرف البشر شيئًا عن هذا قط، وربما كان هذا أفضل لهم. فربما لا يجنون من وراء هذه المعرفة شيئًا سوى القلق.
وأيًّا كان النظام النجمي الذي سكنه فلكيُّو تلك الكائنات (الذين لم يسموا أنفسهم فلكيين بل اسمًا من قبيل «مستكشفي المؤثرات الخارجية») فقد اهتموا كثيرًا بتلك النبضة الضعيفة الأولية التي وصلتهم. وأزعجتهم.
ليس ثمة أي وجه تشابه بين هذه الكائنات وبين البشر، لكن لديهم «مشاعر» معينة شبه إنسانية، ومن بين هذه المشاعر شيء يشبه الخوف كثيرًا. كانت انبعاثات الموجات القصيرة القادمة من كوكب الأرض هي أول ما أثار قلق هذه الكائنات. ثم جاءت الانفجارات الشديدة التوهج التي وصلتهم بعد ذلك بقليل؛ تلك التي صدرت عن أول اختبار نووي في منطقة وايت ساندز، ثم من هيروشيما وناجازاكي، ثم من كل مكان على الأرض. وبسبب هذه الومضات بدأت حالة من اللغط والجلبة بين مراقبي السماء من الكائنات الفضائية. فتلك الومضات تمثل مشكلة، وربما مشكلة كبيرة جدًّا.
لم يكن هؤلاء المراقبون يخشون ما يفعله البشر على كوكبهم الضئيل البعيد. فهم لا يكترثون على الإطلاق لما يحدث على كوكب الأرض. إنما الأمر الذي سبب شعورهم بالقلق هو أن هذه الإشعاعات لن تتلاشى بعد مرورها بنجمهم. وإنما ستستمر في طريقها إلى أماكن أشد بعدًا وعمقًا في المجرة. وعاجلًا أو آجلًا سوف تصل إلى أفراد معينين من المرجح أنهم سيتعاملون معها بجدية بالغة بالفعل.