الخاتمة الرابعة

نظرية فيرما الأخيرة

خطر ببالنا أنه ربما يكون من المفيد إلقاء مزيد من الضوء على موضوع النظرية الأخيرة لفيرما، لكننا لم نجد متسعًا لهذه المناقشة لا يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على الإيقاع السردي للرواية. وها نحن نتحدث عنها الآن في نهاية الرواية … وإذا كنتَ واحدًا من هذا القطاع الكبير من الأشخاص الذين لم يسبق لهم التعرف على هذه النظرية من قبل قط، فسوف تكتشف أنها كانت تستحق الانتظار.

•••

بدأت قصة أشهر مسألة في علم الرياضيات بملحوظة كتبها محامٍ فرنسي من مدينة تولوز في القرن السابع عشر. هذا المحامي يُدعى بيير دو فيرما. لم تشغل مهنة المحاماة وقت فيرما بالكامل، ولهذا اشتغل بعلم الرياضيات كهاوٍ أو — إحقاقًا للحق — كشخص يستحق عن جدارة أن يُعد واحدًا من أهم علماء الرياضيات في جميع الأوقات.

سُمِّيت هذه النظرية الشهيرة باسم نظرية فيرما الأخيرة.

من أهم ما يميز هذه النظرية أن فهمها ليس صعبًا على الإطلاق. الواقع أن معظم الأشخاص الذين يتعرفون عليها لأول مرة لا يصدقون أن إثبات نظرية بسيطة للغاية كهذه يمكن توضيحها بالعد على أصابع اليد قد تحدَّى كل علماء الرياضيات في العالم على مدار أكثر من ثلاثة قرون. والواقع أيضًا أن جذور هذه المسألة تمتد إلى ما قبل ذلك بكثير لأن فيثاغورس — نحو عام خمسمائة قبل الميلاد — هو الذي أشار إليها مستخدمًا كلمات النظرية الرياضية الوحيدة التي تداولتها الألسن بصيغة واحدة:

«في المثلث القائم الزاوية يكون مربع طول الوتر مساويًا مجموع مربعَي طولَي الضلعين القائمين.»

يمكن لأي شخص درس الرياضيات حتى مرحلة التعليم الثانوي أن يتخيل مثلثًا قائم الزاوية، ومن ثم يكتب نظرية فيثاغورس على الصورة أ٢ + ب٢ = ج٢.
ما إن أعلن فيثاغورس عن هذه النظرية حتى بدأ علماء رياضيات آخرون في البحث حول أمور تتعلق بها (هذا هو ما يفعله علماء الرياضيات). وتمثل أحد الاكتشافات التي توصلوا إليها في أن هذه المعادلة تنطبق على عدد كبير من المثلثات القائمة التي أطوال أضلاعها أعداد صحيحة. فالمثلث الذي طولا ضلعَيه خمس وحدات واثنتا عشرة وحدة — على سبيل المثال — سيكون طول الوتر فيه ثلاث عشرة وحدة … ولا شك أن ٥٢ + ١٢٢ = ١٣٢. البعض الآخر بدأ يبحث عن احتمالات أخرى. هل يوجد — مثلًا — مثلث أطوال أضلاعه أعداد صحيحة وتنطبق عليه نفس العلاقة حال تكعيب الأضلاع؟ بعبارة أخرى هل (أ٣) زائد (ب٣) يساوي (ج٣)؟ وماذا عن الأعداد المرفوعة للأس أربعة؟ أو الأعداد المرفوعة لأي أس أعلى من اثنين؟

قديمًا حيث لم تكن توجد آلات حاسبة ميكانيكية — ناهيك بالطبع عن الآلات الإلكترونية — قضى الناس أزمنة في استهلاك كميات هائلة من الورق لإجراء الحسابات اللازمة للبحث عن إجابات لهذه الأسئلة. وهو ما حدث مع هذه المسألة. لكن لم يتوصل أحد إلى أي حل. فهذه المعادلة البسيطة المسلية أثبتت صحتها مع الأسس التربيعية فحسب وليس مع أي أس آخر.

بعدها توقف الجميع عن البحث؛ لأن فيرما أوقفهم بسطر واحد كتبه. وقال فيه إن هذه المعادلة البسيطة التي تنطبق على الأسس التربيعية لا تنطبق على أي أس آخر على نحو لا جدال فيه. من دون شك في ذلك.

ربما يلجأ معظم علماء الرياضيات في مثل هذه الحالة إلى نشر العبارة السابقة في مجلة معنية بعلم الرياضيات. لكن فيرما كان مختلفًا ولم يكن هذا أسلوبه. إذ لجأ إلى كتابة تعليق موجز في هامش إحدى صفحات نسخته من كتاب رياضيات إغريقي قديم يسمى علم الحساب. يقول التعليق:

«اكتشفْتُ برهانًا رائعًا حقًّا لهذه الفرضية، لكن الهامش لا يتسع لكتابته.»

•••

استمد هذا التعليق الارتجالي أهميته من احتوائه على كلمة السر «برهان».

يعتبِر علماء الرياضيات أن البرهان دواء فعال لهم. فضلًا عن أن ضرورة وجود برهان — وهو الإثبات المنطقي لصحة عبارة ما في جميع الأحوال — هو ما يميز الرياضيات عن غيرها من معظم العلوم «الجامدة». فالفيزيائيون — على سبيل المثال — يحصلون على هذا البرهان بسهولة مطلقة. فإذا نثر عالم فيزياء مجموعة من البروتونات عالية السرعة على سطح من الألومنيوم عشر مرات أو مائة مرة، وفي كل مرة حصل على مزيج واحد من جزيئات أخرى متطايرة يجوز له افتراض أنه إذا أجرى فيزيائي آخر نفس التجربة في مكان آخر فسوف يحصل دومًا على نفس مجموعة الجزيئات.

لا يتمتع عالِم الرياضيات بهذه السهولة. فنظرياته ليست إحصائية. بل لا بد أن تكون جازمة. لا يجوز لعالم رياضيات أن يقول إن جملة رياضية ما «صحيحة» ما لم يكن لديه — وفق منطق لا خطأ ولا جدال فيه — برهان مترابط يوضح صحة الجملة في أي حال من الأحوال؛ وربما يؤدي إثبات العكس إلى تناقض واضح مخالف للمنطق.

هكذا إذن بدأ البحث الفعلي. وسعى علماء الرياضيات إلى البحث عن البرهان الذي ادعى فيرما التوصل إليه. بذل عدد كبير من كبار علماء الرياضيات — أمثال أويلر وجولدباخ وديريشليت وصوفي جيرما — قصارى جهدهم للوصول إلى هذا البرهان الغامض. وسار على نفس النهج مئات من الأسماء الأقل شهرة. ومن حين لآخر كان بعضهم ممن أصابهم الإنهاك يعلنون فجأة وقد تملَّكتهم السعادة أنهم توصلوا إلى الحل. اكتُشفت مئات من هذه «البراهين» المزعومة ظهر منها ألف برهان على مدار أربع سنوات فقط أوائل القرن العشرين.

لكن سرعان ما كان علماء الرياضيات الآخرون يفندون هذه البراهين بعد اكتشافهم أن من كتبوها قد وقعوا في أخطاء جوهرية فيما يتعلق بالحقيقة أو بالمنطق. وبدأ يبدو لعالَم الرياضيات أن فيرما الشهير قد أخطأ، وأنه لا يمكن الوصول أبدًا إلى البرهان الذي تحدث عنه.

لكنهم لم يكونوا محقين تمامًا في هذا الاستنتاج.

•••

أخيرًا اكتُشف برهان صحيح وحاسم لنظرية فيرما قرب نهاية القرن العشرين. حدث ذلك في الفترة بين عامي ١٩٩٣ و١٩٩٥ عندما نشر عالم رياضيات بريطاني يدعى أندرو وايلز — من جامعة برينستون في الولايات المتحدة — برهانًا حاسمًا كاملًا خاليًا من الأخطاء وقاطعًا لفرضية فيرما التي يرجع تاريخها إلى أكثر من ٣٥٠ عامًا. حُلت المسألة إذن.

غير أن هذا البرهان لم ينل رضا أحد.

بدايةً اتسم برهان وايلز بالإسهاب المفرط فوصل إلى مائة وخمسين صفحة مكدسة بالكتابة. والأسوأ من ذلك أنه احتوى على أجزاء لا يستطيع أي بشر قراءتها ليثبت بذلك أنها خالية من الأخطاء. إذ لا يمكن التحقق من صحتها إلا باستخدام أحد برامج الكمبيوتر. والأسوأ من هذا أيضًا أن برهان وايلز لا يمكن أن يكون نفس البرهان الذي ادعى فيرما التوصل إليه؛ لأنه اعتمد على براهين وخطوات لم تكن معروفة لفيرما أو لأي شخص آخر في تلك الفترة. ومن ثم رفض الكثيرون من كبار علماء الرياضيات قبول هذا البرهان …

ومن بين هؤلاء الذين رفضوا برهان وايلز — كما تابعنا في الرواية — عالم رياضيات بارع للغاية وإن كان شخصًا خياليًّا. نحن نتحدث عن شخص كان يبعد كثيرًا عن فيرما في المكان والزمان اسمه رانجيت سوبرامانيان، وهو محور هذه الرواية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤