حياة قرصان
مر وقت أطول قليلًا من الوقت الذي ذكره كاناكاراتنام قبل إطلاق سراح رانجيت. كان هذا الوقت طويلًا بحيث قُدِّم لرانجيت الطعام عدة مرات، والواقع أن الطعام كان جيدًا لأن المطبخ على أي حال كان على متن سفينة رحلات. غط رانجيت في النوم مرتين على الأقل على فراش خشن موضوع بجوار الحائط. وترك الصومالي رانجيت وحيدًا عدة مرات لكن بعد التأكد من غلق الباب بإحكام خلفه. زاره كاناكاراتنام مرتين كي يبدو اجتماعيًّا. وكان راغبًا بشدة في توضيح ما يحدث لرانجيت. في اليوم الثاني هاجم القراصنة — هكذا كان يسميهم كاناكاراتنام نفسه — منصة ربان السفينة وجردوا من لم يكونوا معهم من طاقم السفينة من السلاح وأعلنوا أن السفينة ستغير اتجاهها إلى ميناء بوساسو في الصومال. وقبل إطلاق سراح رانجيت استولى القراصنة على جميع الأشياء القيمة من الحجرة المنيعة التي تُحفظ فيها الودائع بالإضافة إلى كل ما يسهل حمله من الغرف الخاصة بالركاب الذين قيل لهم إنهم سيعودون إلى ديارهم قريبًا دون أن يصابوا بأذى شريطة أن تدفع عائلاتهم أو أصدقاؤهم مبلغ الفدية المناسب. (قال كاناكاراتنام لرانجيت: «سوف تندهش مما قد يدفعه بعض الناس لإطلاق سراح جداتهم.») وهناك أيضًا السفينة نفسها. فإذا ذهب القراصنة بها بأمان إلى الميناء المنشود في الصومال فإن عملية طلاء وبعض الأوراق المتقنة التزييف يمكن أن تجعلها أكثر الغنائم قيمة على الإطلاق.
إنه نشاط مُجْدٍ تمامًا. أوضح كاناكاراتنام أن هذا العمل يشبه إلى حد بعيد أي مشروع تجاري آخر. منذ بداية القرن الحادي والعشرين، أصبحت القرصنة نشاطًا كبيرًا قائمًا بذاته وفيه دور وساطة معروفة على استعداد لجمع الفدية وتوصيلها إلى من يطلبونها في مقابل ضمان عودة الرهائن سالمين. أخبر كاناكاراتنام رانجيت وهو يشعر بالرضا: «في الواقع، كان القبض عليَّ متلبسًا بتلك السلع المسروقة أفضل شيء حدث لي على الإطلاق. فرفيقي في الزنزانة في باتيكالوا كان من المفترض أن يشترك في هذه العملية، لكنه انشغل بعمل آخر. إلا أنه أخبرني بكافة التفاصيل، وعندما لاحت لي فرصة الهروب كنت أعرف وجهتي تحديدًا.»
حتى نشاط القرصنة المجدي له سلبياته في بعض الأحيان. كان رانجيت متأكدًا من أن إحدى سلبيات القرصنة هي ما يفعله القراصنة بطاقم السفينة الذين يقاومونهم بضراوة. (سأل رانجيت كاناكاراتنام عن هذا لكنه لم يتلقَّ جوابًا. وهو ما اعتبره رانجيت ردًّا كافيًا في حد ذاته.)
عندما أخبر كاناكاراتنام رانجيت أن عملية السطو قد تمت، وأن بوسعه الخروج من زنزانته، شاهد رانجيت حدثًا مقيتًا. كان السبب فيه ربان السفينة الذي يتحلى بإحساس مفرط بالواجب. أبى الربان أن يسلم القراصنة مفاتيح الحجرة المنيعة. ولا شك أنهم وجدوا حلًّا لهذه المشكلة على الفور. إذ أطلقوا النار عليه، وسلموا قيادة السفينة إلى ضابط أول كان أكثر منه تعاونًا؛ إذ سحب المفاتيح من جيب الرجل المتوفى، وسلمهم إياها.
•••
لم يسبق لرانجيت أن كان على متن سفينة ركاب من قبل. وعلى الرغم من الأحداث السيئة فإن هذه الرحلة تضمنت جميع الأنواع الغريبة من وسائل الراحة. فكان يوجد حوض سباحة على سطح السفينة (وإن كان غير صالح للاستخدام تمامًا في حالة وجود نشاط موجي ملحوظ وهو ما كان يحدث على نحو شبه دائم). أيضًا كان المطبخ يعد وجبات جيدة إلى حد بعيد حتى وإن تكدس الركاب الفعليون في يأس في أحد جوانب غرفة الطعام يراقبهم القراصنة بمدافعهم الآلية. أغلق القراصنة الكازينو لكن ذلك لم يكن مهمًّا؛ لأن جميع الركاب كانوا قد جُرِّدوا من أموالهم وبطاقاتهم الائتمانية التي يستخدمونها في لعب القمار. وأُغلقت الحانات أيضًا، ولم يكن هناك عرض ليلي في مسرح الحانة. إلا أنه كانت هناك أفلام مسجلة تعرض على شاشات التليفزيون في جميع الغرف الخاصة، وكان الطقس معتدلًا.
كان الطقس معتدلًا للغاية على حد قول كاناكاراتنام. إذ قال: «أُفَضِّل وجود المزيد من السحب. فأنت لا تدري كم عينًا تشاهدنا هناك في الأعلى.» وعندما بدت الدهشة على رانجيت أوضح كاناكاراتنام قائلًا: «إنها الأقمار الصناعية. إنهم قد لا يعيرون مركبًا صدئًا كهذا اهتمامًا كبيرًا، لكن لا يمكننا الجزم بهذا.» ثم أضاف مذكرًا نفسه بالتزام لا بد من الوفاء به: «تيفاني تبحث عنك. فهي تسأل هل ستساعدها في الاعتناء بالأطفال على سطح السفينة المشمس.»
قال رانجيت موافقًا: «ولم لا؟» والواقع أنه كان متشوقًا لرؤية رفاقه الأربعة في اللعب مرة أخرى. صحيح أنه كان بائسًا، لكنه بذل ما في وسعه لإخفاء مشاعره. وعندما خرج من بيت الدرج إلى ضوء النهار الدافئ الساطع على سطح السفينة المشمس، لم يستطع منع نفسه من إلقاء نظرة خاطفة على السماء.
لا شك أن رانجيت لم يرَ أيًّا من تلك العيون في السماء. ولم يكن يتوقع رؤية شيء، لكنه لم يجد بدًّا من التساؤل عن العيون التي ربما تحدق إليهم في تلك اللحظة …
وبالطبع لم تكن لديه أدنى فكرة عن أن بعضها لم تكن عيونًا بشرية على الإطلاق.
•••
وجد رانجيت نحو عشرين طفلًا بين ركاب السفينة تتراوح أعمارهم بين السادسة أو السابعة وحتى الرابعة عشرة. كان معظمهم يتحدثون لغة إنجليزية سليمة إلى حد ما، وطلبت منه تيفاني أن يروي لهم بعض الحكايات لتُمحى من ذاكرتهم صورة جثة ربان السفينة التي ظلت مكشوفة طوال اليوم بجوار الساحة المخصصة للعبة دفع الأقراص.
وبدا أنه طلب صعب التنفيذ. إذ لم يكفَّ طفلان في العاشرة من عمريهما عن البكاء مطلقًا فضلًا عن أن معظم الأطفال الآخرين لم يرفعوا أعينهم عن القرصان الذي كان يحمل المدفع قائمًا على حراسة سطح المركب. وربما زاد رانجيت نفسه من مشقة تلك المهمة لأنه بدلًا من أن يعرفهم على ضرب الأرقام على الطريقة الروسية البسيطة ذات النتيجة المؤكدة مرة أخرى، قرر أن يعرفهم كيفية العد على أصابعهم أو ما يعرف بنظام العد الثنائي.
لم يكن ذلك عملًا ناجحًا. إذ بدا واضحًا أن أحدًا من الأطفال لم يسمع بالأعداد الثنائية من قبل. وعندما أخبرهم رانجيت أنهم إذا أرادوا التعبير عن امتلاكهم أحد الأشياء باستخدام النظام الثنائي فما عليهم سوى كتابة رقم الواحد المعروف، لكن إن كان لديهم اثنان فعليهم أن يكتبوها على الصورة واحد-صفر، وثلاثة على الصورة واحد-واحد، كان عدم الفهم واضحًا على الأطفال.
واصل رانجيت مهمته بعزم. فقال رافعًا كلتا يديه: «الآن نصل إلى الجزء الخاص بالعد على أصابعكم. عليكم أن تفترضوا أن كل إصبع من أصابعكم يمثل عددًا … أجل يا تيفاني، أعرف ماذا ستسألين. أجل سوف نعد الإبهام على أنه إصبع.» (لم تقل تيفاني شيئًا لكنها أومأت في ابتهاج.) وأردف رانجيت: «لا بد أن يكون كل عدد إما واحدًا أو صفرًا لأنهما الرقمان الوحيدان المستخدمان في الحساب الثنائي. عندما تقبضون أصابعكم»؛ وقبض راحتيه وأضاف: «فإن كل إصبع يمثل صفرًا. لذلك انظروا معي هنا.» ووضع قبضتي يده على سطح الطاولة أمامه. واستطرد قائلًا: «في العد الثنائي تمثل هذه الأصابع العشرة مقبوضة العدد صفر صفر صفر صفر صفر صفر صفر صفر صفر صفر. وهي طريقة أخرى نقول من خلالها إن الصفر هو العدد الذي تمثله الأصفار العشرة كلها، بغض النظر عن عدد الأصفار التي تكتبونها، فهو ليس سوى صفر في النهاية. لكن انظروا إلى هذا.»
بسط رانجيت جميع أصابع يديه. وقال: «الآن كل هذه الأصابع تمثل الرقم واحد، والعدد الثنائي الذي أعرضه هو واحد واحد واحد واحد واحد واحد واحد واحد واحد واحد. ومعنى ذلك أنكم إذا أردتم التعبير عنه باستخدام المكافئ العشري، فستكتبون الرقم واحد لآخر رقم واحد في السطر واثنان للعدد المجاور له. ثم أربعة للعدد المجاور لهذا الأخير — أي إنكم تضاعفون العدد في كل مرة حتى تصلوا إلى خمسمائة واثني عشر لآخر واحد في نهاية اليد اليسرى. وهكذا تكونون قد كتبتم …»
كتب رانجيت المسألة باستخدام قلم شمع على قصاصة من الورق:
«وإذا جمعتم كل هذه الأرقام فستحصلون على …»
«وهكذا تكونون قد عددتم على أصابعكم حتى ألف وثلاثة وعشرين!»
توقف رانجيت ليلقي نظرة على جمهوره. لكنه لم يجد رد الفعل الذي تمناه. إذ ارتفع عدد الباكين إلى أربعة أو خمسة أطفال، بينما تنوعت ردود الفعل على الوجوه الأخرى ما بين ارتباك عادي وحيرة ممزوجة بالامتعاض.
وبعد وقت بدأت الأسئلة.
– «هل تعني …»
– «تمهل لحظة يا رانجيت، هل تود أن تقول …»
وأخيرًا، وكمكافأة لرانجيت، قالت تيفاني: «أوه، دعني أرى إن كنتُ قد فهمتها على نحو صحيح. لنقل إننا نعد سَمكًا. وعليه فإن العدد واحدًا في طرف اليد اليمنى يعني أن هناك مجموعة من السمك بها سمكة واحدة، وأن العدد واحدًا المجاور لها يعني وجود مجموعة أخرى فيها سمكتان، ومجموعات بها أربع سمكات وثماني سمكات، وهكذا حتى نصل إلى المجموعة — التي يمثلها الرقم واحد في الطرف الآخر — التي تحتوي على خمسمائة واثنتي عشرة سمكة. وعندما نضيف كل المجموعات بعضها إلى بعض سنحصل على ألف وثلاث وعشرين سمكة. أليس كذلك؟»
قال رانجيت في سرور رغمًا عنه: «بلى.» كان مسرورًا على الرغم من أن الأطفال الوحيدين الذين استجابوا له هم أبناء دوت وكيرثيس كاناكاراتنام وأن الوحيدة التي استوعبت ما قاله كانت تيفاني لا شك.
لم يبدِ كاناكاراتنام اهتمامًا بردود الفعل المحبطة التي تلقاها رانجيت. وعندما انضم إليه لتناول الغداء — الذي اشتمل على نوعين من الحساء وثلاثة أنواع مختلفة من السلاطة وستة أطباق رئيسية على الأقل — قال في لهجة توحي بالرضا: «لقد أسديت لنفسك معروفًا اليوم.» لم يوضح كاناكاراتنام طبيعة هذا المعروف، لكن رانجيت — الذي ألقى نظرة سريعة على جثة القبطان الراحل الممددة والمليئة بالثقوب — كان يعلم جيدًا ما يرمي إليه.
وعندما عاد كاناكاراتنام بعد مضي ساعة، أوضح ما كان يقصده. فقال: «عليك أن تستمر في إظهار تعاونك معنا أمام أصدقائي. فنحن نواجه بعض المشكلات. إليك ما ستفعله. نحتاج بعض البيانات الشخصية عن كل راكب — للمساعدة في تحديد قيمة الفدية — ومعظم من معنا لا يتحدثون أي لغة يفهمها الركاب. إذن، يمكنك حقًّا أن تساعدنا في ذلك؟»
كانت نبرة صوت كاناكاراتنام تحمل تساؤلًا، لكن حقيقة الموقف الذي لاقاه رانجيت أوضحت أنه لم يكن كذلك. كان واضحًا أن أفضل ما يمكنه فعله للبقاء على قيد الحياة هو أن يكون ذا نفع للقراصنة، وهو ما جعله يقضي بضع ساعات في كل يوم من اليومين التاليين يطرح أسئلة على الأزواج المسنين — الذين كانوا مرتاعين في بعض الأحيان وعدائيين في كثير من الأحيان الأخرى — حول حساباتهم في البنوك ومعاشاتهم وأملاكهم العقارية وربما أقاربهم الأثرياء.
استمر ذلك يومين إلى أن وقعت المشكلة.
•••
لم يكن الليل قد انجلى عندما استيقظ رانجيت على تغير في مستوى الضجيج على متن السفينة. فصوت محركات السفينة الهادئ لم يعد كما كان، وإنما صار أكثر سرعة واضطرابًا! سمع رانجيت أصواتًا أعلى من ذلك وهي صيحات كانت تتعالى جيئة وذهابًا من الممر أمام غرفته. وعندما أطل ببصره شاهد أفرادًا من الطاقم الرئيسي يهرولون بأقصى سرعتهم نحو منافذ الخروج. وكل منهم يحمل حقيبتين أو ثلاث حقائب — يبدو أنها مسروقة من الغرف الخاصة بالركاب — كان رانجيت على يقين أنها مملوءة بمقتنيات الركاب النفيسة. كان معظم الصياح يصدر من أحد القراصنة الذي كان يستحث أفراد الطاقم على الإسراع. بدت ملامح الغضب والقلق على وجوه القراصنة. وبدا أفراد الطاقم الأسرى مذعورين للغاية.
ومرة أخرى بدا لرانجيت أنها ستكون فكرة جيدة أن يساعد بشيء. فعاد مقتفيًا خطى حاملي الحقائب حتى وصل إلى أحد بيوت الدرج في السفينة حيث كان أفراد آخرون من الطاقم يلقون بالحقائب المسروقة إلى المكان الذي يقف فيه رانجيت في الأسفل. وبينما يهم رانجيت بالتقاط حقيبتين لحملهما إذ سمع صوتًا طفوليًّا ينادي باسمه، وعندما نظر إلى الأعلى وجد دوت كاناكاراتنام وأطفالها ينزلون الدرج باتجاهه. كانوا جميعًا — بمن فيهم الصغيرة بيتسي — يحملون نصيبًا من الغنيمة، وكان لدى تيفاني الكثير من المعلومات. فقبل ساعة أو ساعتين شاهد أحد القراصنة شيئًا يشبه أضواء سفينة على مسافة بعيدة من مؤخرة السفينة. قالت له تيفاني في حماسة: «لكن لم يظهر شيء على شاشة الرادار؛ أتعرف ما يعنيه ذلك؟»
لم يكن رانجيت يعرف، لكنه استطاع الخروج بتخمين مناسب. فقال: «سفينة حربية مزودة بتقنية التخفي من الرادار؟»
«تمامًا! هناك مدمرة أو شيء من هذا القبيل يتتبعنا! ومعنى ذلك أننا لن نستطيع التوجه إلى الصومال؛ لذا سوف نرسو بالسفينة في مكان ما — أعتقد في الهند أو باكستان — ثم نختفي وسط الغابات. إنهم في منصة ربان السفينة في الأعلى يشغلون الرادار محاولين الاتفاق مع إحدى العصابات المحلية لمساعدتنا.»
سألها رانجيت: «ولمَ قد ترغب عصابة محلية من المجرمين في ذلك ما داموا يستطيعون انتزاع الغنيمة منا؟»
لكن الطفلة لم تحر جوابًا، واكتفت دوت بقولها: «هيا بنا. دعونا ننزل بعض هذه الأشياء إلى مكان المغادرة.»
•••
وبانتقال جميع الأشياء القيمة إلى المخرج «ب» على سطح السفينة لم يعد أمام القراصنة عمل مفيد يقومون به. فاستقروا على أحد أسطح السفينة الخارجية، وأخذوا يتفحصون الأفق في قلق علَّهم يرون أثرًا لتلك السفينة التي تتعقبهم والتي لا يستطيع الرادار رصدها أو يراقبون الأفق أمامهم في قلق أشد ربما تقع أعينهم على مكان تجنح إليه السفينة.
والواقع أنه لم يكن هناك شيء يُرى سوى المياه. إذا كانت هناك سفينة أخرى أو قطعة من اليابسة في أي مكان بالقرب منهم، فإنهما لم يظهرا أمام رانجيت. عندما سئم رانجيت من اللهو قرب الظهيرة نزل إلى الأسفل للبحث عن طعام يأكله، ثم عاد إلى فراشه حيث غط في النوم في غضون دقائق …
لكنه استيقظ مرة أخرى عندما سمع صوت صرير معدني عنيف وشعر بحركة اهتزاز وارتداد جعلته يسقط على الأرض، فأدرك أنهم قد وصلوا.
بعدئذٍ استقرت السفينة على الرغم من أنها مالت ست درجات عن الخط العمودي. ونظر رانجيت حوله ليتأكد أنه ما من شيء يأخذه معه، فلم يجد شيئًا، ثم سلك طريقه نحو باب الخروج متشبثًا بسياجات الأمان المحيطة بسطح السفينة. كانت جميع المسروقات تقريبًا خارج السفينة تتلاعب بها الأمواج الصغيرة القادمة من البحر خلفهم. كما كان حال معظم الأفراد سواء من القراصنة أو الركاب أو أفراد الطاقم الأسرى. كان بعض القراصنة يأمرون أفراد الطاقم والركاب بلا شفقة أن يحملوا الحقائب المبللة بعيدًا عن علامة ارتفاع مياه المد.
ألقى رانجيت نظرة حوله فلم يجد أناسًا على الشاطئ، ثم نزل إلى المياه الضحلة الدافئة.
وطئ البشر ذلك الشاطئ من قبل. فقد تركوا علامات جلية على وجودهم. هذا الشاطئ هو واحد من شواطئ المحيط الهندي المهجورة التي استخدمت من قبل في تفكيك السفن بتكلفة منخفضة (وعلى نحو يفتقد إلى الأمان أيضًا). فالمكان بأكمله تنبعث منه رائحة الزيت والصدأ. وفي كل مكان أيضًا أعلى وأسفل سطح المياه كانت توجد أجزاء من هياكل السفن القديمة أو قطع من أثاث السفن — كراسٍ وأسرَّة ومناضد — قديمة ومتهالكة للغاية حتى إنها لا تستحق النقل إلى مكان آخر. لم يرَ رانجيت أثرًا للرجال المساكين الذين تولوا مهام تقطيع هياكل السفن وفصل الأجزاء التي قد تدر ربحًا من المحركات أو السواري، لكنه كان على يقين أنهم موجودون … هؤلاء الرجال الذين لقوا حتفهم على هذا الشاطئ في كثير من الأحيان بسبب المواد السامة التي قد تجعل هذا العمل مكلفًا جدًّا في أي مكان تُراعى فيه احتياطات الأمان بصورة أفضل. لم يستطع رانجيت أن يخمن كم يبلغ مقدار تلك السموم والمواد المسرطنة المحتجزة التي ربما تظل آثارها في الرمال والمياه المحيطة به.
أدرك رانجيت أن أفضل طريقة لمواجهة تلك المشكلة هي مغادرة ذلك الشاطئ بأسرع ما يمكن.
غير أنه لا توجد وسيلة مناسبة لذلك. فضلًا عن أنه لم يرَ أي دليل على مساعدة العصابات المحلية لهم. حسنًا، ربما كان هناك شيء من هذا القبيل؛ إذ لمح رانجيت شيئًا غير واضح المعالم مختفيًا إلى حدٍّ ما خلف الأيكة، لكنه عندما ألقى نظرة ثانية لم يجد شيئًا.
كانت دوت كاناكاراتنام تبذل قصارى جهدها وهي تخوض الماء وراء رانجيت لتظل ممسكة بأيدي الصغار الأربعة معًا ودون أن تتخلى عن حقائبها من الغنيمة. واستسلمت دوت في نهاية الأمر، ودفعت إحدى الحقائب لرانجيت. وقالت: «خذ هذه. إنها ملابس جورج. احتفظ بها حتى يظهر؛ عليَّ أن أُخرج هؤلاء الأطفال من الماء.»
ولم تنتظر دوت موافقة رانجيت. وإنما تحركت بخطًى متثاقلة وبرفقتها الأطفال وسط الرمال الساخنة حتى وصلت إلى علامة ارتفاع مياه المد حيث وقفت تنظر في جميع الاتجاهات بحثًا عن زوجها. وعلى حين غرة صار رانجيت هدفًا لأحد القراصنة الذي كان يلوح بمدفعه في وجه مجموعة من أفراد الطاقم الأسرى، ولكنه كان يصيح في رانجيت بكل وضوح. ورانجيت بدوره لم يكن متأكدًا من طبيعة الأمر الذي يوجهه إليه الرجل، وإن ظن أنه في الأغلب لن يكون أمرًا يرغب في تنفيذه. لذا هز رانجيت رأسه موافقًا على ما يطلبه القرصان، ثم استدار، وأخذ يجري بأقصى سرعته حول مؤخرة السفينة المستقرة على الشاطئ. ولم يتوقف إلا بعد أن توارى عن نظر القرصان …
عندها سمع صوتًا كنعاب البوم يأتي من بعيد.
كان صوتًا مخيفًا، ليس موسيقيًّا تمامًا وإنما يُذكِّر بالموسيقى الخلفية لأحد أفلام الرعب كأن جثث الموتى بدأت تَنسِلُ من أجداثها. ولم يكن رانجيت الوحيد الذي سمع هذا الصوت. فعلى الشاطئ استقر واحد من القراصنة كان قد ألقى بنفسه فوق الرمال وهو يلهث من الجهد الذي بذله للوصول إلى هناك، ونظر حوله متعجبًا. وهكذا فعل قرصان آخر واثنان من طاقم السفينة جميعهم إما جالسون أو واقفون يحاولون رؤية المصدر الذي ينبعث منه الصوت.
وفجأة رأى رانجيت صفًّا من الطائرات البعيدة تتحرك باتجاههم من جهة البحر. رأى اثنتي عشرة طائرة هليكوبتر على الأقل، كل طائرة فيها مزودة بمراوح دائرية غريبة الشكل تتحرك جميعها مع كل تغيير في مسار الطائرات حتى تظل موجهة نحو الأشخاص الموجودين على الشاطئ … ثم ارتفع الصوت …
وظل يرتفع أكثر وأكثر.
•••
لم يستطع رانجيت أن ينسى ذلك اليوم الذي قضاه على الشاطئ طوال حياته المديدة. صحيح أنه عاش بعده أيامًا أسوأ لكن تلك اللحظات المروعة والمهينة التي قضاها تحت القصف السمعي الصادر من طائرات الهليكوبتر كانت ذات وقع أليم على أي شخص. لم يتعرض رانجيت من قبل قط للأسلحة غير المميتة التي تستعين بها قوات الهجوم الحديثة. ولم يدرِ رانجيت ما قد يصيب المخ بسبب هذا الصوت. وإنما شعر بأسوأ التأثيرات في بطنه حيث ارتخاء الأمعاء وكثرة التقيؤ وشدة الألم المصاحب للشعور بالغثيان.
ولم يكن الهجوم غير مميت تمامًا. فقد نجح اثنان على الأقل من القراصنة في مقاومة الألم الذي ألَمَّ بجسديهما لوقت قاما خلاله بتوجيه بضع طلقات من بنادقهما الآلية صوب الطائرات الهليكوبتر. (ولسوء حظ رانجيت أن كيرثيس كاناكاراتنام كان أحد هذين القرصانين.) وكانت تلك غلطة. فكل طائرة احتوت على بابين مفتوحين يحتل أحدَهما جندي مسلح بمدفع آلي بينما يحتل المدخل الثاني جندي مسلح بقاذفة قنابل، ولم يستمر إطلاق القرصانين النار من سلاحيهما أكثر من دقيقة.
أما هؤلاء الآخرون الذين كانوا يشاهدون ما يجري من السماء …
فقد أثار هذا الحادث حيرتهم، حتى هؤلاء الذين كان يطلق عليهم اسم «تساعيو الأطراف».
لم تكن تلك المرة الأولى التي يشاهد فيها «تساعيو الأطراف» هجومًا بشريًّا باستخدام المدافع. كان «تساعيو الأطراف» الجنس التابع الوحيد الذي شجعه «عظماء المجرة» على الإلمام بلغات عديدة، وكانت مهمتهم الأساسية هي إخبار أسيادهم بما يقوله هؤلاء البشر بعضهم لبعض، لكنك لا تستطيع التجسس على البشر فترة طويلة دون مواجهة أحداث العنف. ظن «تساعيو الأطراف» أنهم يعرفون ما سيحدث هذه المرة. فعندما شاهدوا إحدى السفن مزودة بأسلحة كيميائية متفجرة تتسلل ببطء لملاحقة سفينة أخرى يبدو أنها ليست مسلحة، افترضوا أن النتيجة ستكون بحرًا آخر من دماء البشر. حتى إنهم تساءلوا هل يستحق ذلك بقاءهم في المكان لرؤية مشهد آخر من مشاهد الإبادة الجماعية للبشر.
وما أثار دهشتهم أن عددًا قليلًا للغاية من البشر الذين كانوا على الشاطئ هم الذين قُتلوا بعد أن اخترقت أجسامَهم الأسلحة المقذوفة من الطائرات.
تعرف «تساعيو الأطراف» على الأسلحة التي زُوِّدت بها طائرات الهليكوبتر — السلاح الذي يعمل بالهواء المضغوط، والمدفع الذي يطلق قذائف هوائية، وكل الأسلحة الأخرى — لأنهم رأوها قبل ذلك. وهناك عدد قليل من الأسلحة المستخدمة من قبل البشر لم تستخدمه الأجناس الأخرى في أماكن وأزمنة أخرى في المجرة. أدرك «تساعيو الأطراف» جيدًا — من خلال تعرفهم على تاريخ الفصائل الأخرى التي استخدمت أسلحة مماثلة في الماضي البعيد داخل المجرة — مدى بشاعة وخطورة تأثير تلك الأسلحة على جسد كائن حي أعزل.
اللغز الذي أثار حيرة «تساعيي الأطراف» هو: لماذا فضل هؤلاء البدائيون استخدام هذه الأسلحة على أسلحتهم العادية التي يصاحب انطلاقها عملية انفجار؟
عندما انتهت المواجهة على السطح اختلف صناع القرار من «تساعيي الأطراف» عدة دقائق قبل أن يقرروا هل سيخبرون «عظماء المجرة» بما شاهدوه أم لا.
وفي النهاية اتخذوا قرارًا بإخبارهم. فأبلغوهم بما حدث تفصيلًا تاركين ﻟ «عظماء المجرة» استخلاص ما يودون استخلاصه منه، مع أن «تساعيي الأطراف» حاولوا منح أنفسهم مساحة ضئيلة من الحرية اتضحت في العنوان الذي اختاروه للتقرير وهو: «نموذج لصراع عجيب.»