التعرف على واحد (أو أكثر) من عظماء المجرة
النقطة الأولى التي لا بد من حسمها فيما يتعلق بهذا الفرد من «عظماء المجرة» هي ما إذا كان في الواقع عاقلًا مذكرًا، أم شخصًا في الأساس، أم كيانًا غير عاقل (وليس جزءًا صغيرًا من هذا الكيان).
ليس ثمة إجابة سهلة عن أيٍّ من هذه الأسئلة. لذا، فإن ما سنفعله الآن هو أننا سنتجاهل الحقائق ونرضى بالإجابات التي لا مشكلة لدينا في التعامل معها، بخلاف كونها خطأً بيِّنًا. أولًا، سنقول إن هذا الشخص هو شخص بالفعل على الرغم من أنه جزء من هذا «الشخص» الأكبر الذي يمثل عظماء المجرة مجتمعين.
«عظماء المجرة» موجودون في كل مكان بدءًا من أطراف المجرة التي تتحرك بسرعة متزايدة وحتى مركزها الساكن نسبيًّا وفي كل مكان بينهما تقريبًا. كم يبلغ عدد عظماء المجرة؟ ليس لهذا السؤال معنًى هو الآخر. فثمة أعداد هائلة منهم، لكن أهم ما في الأمر أن تلك الأعداد الهائلة هي كيان واحد أيضًا؛ لأن كل فرد من «عظماء المجرة» يندمج في الحال مع واحد منهم أو معهم جميعًا متى أراد.
كما لاحظت فإننا قد حددنا نوع الضمير المستخدم للإشارة إلى «عظماء المجرة» بصورة عشوائية. ولا ينبغي أن يحملك ذلك على الاعتقاد أنهم يمارسون العلاقة الحميمة بالصورة التي نفهمها نحن البشر. فهم لا يفعلون. غاية ما في الأمر أننا لا نستطيع مواصلة الحديث عنهم قائلين «هو» لغير العاقل أو «هو» للعاقل أو «هم» متى أردنا الإشارة إليهم؛ لذلك وضعنا حلًّا لهذه المعضلة وجعلناه مفردًا عاقلًا.
لقد منحنا أنفسنا للتوِّ حرية كبيرة إلى حد ما. ولنمنح أنفسنا حرية أخرى بأن نحدد اسمًا لهذا المفرد العاقل. سوف نسميه «بيل». (ليس بيل وإنما «بيل» بعلامة تنصيص. إنها حرية كبرى أتحناها لأنفسنا، وعلينا أن نعترف بإدراكنا ذلك من خلال استخدامنا لعلامتَي التنصيص.)
•••
ما الأمور الأخرى التي قد يفيدنا التعرف عليها بشأن «عظماء المجرة» في هذا الوقت؟
على سبيل المثال، هل من المفيد أن نعرف حجمهم؟ أو على الأقل كيف يقيسون المسافات، خصوصًا وأن عقدة واحدة من عقد «عظماء المجرة» قد تفصلها آلاف أو مليارات السنين الضوئية عن عقدة أخرى؟
(لماذا يستحيل؟ لأنك لا تسطيع قياس أي شيء لا تراه، ولا يمكن رؤية أي شيء دون استخدام تلك الجزيئات الحاملة للضوء التي يطلق عليها فوتونات. وأي فوتون قوي إلى حد إضاءة إحدى مسافات مقياس بلانك سيكون قويًّا جدًّا لدرجة يتحول معها إلى ثقب أسود في الحال. تُستخدم كلمة «مستحيل» في بعض الأحيان على سبيل التحدي. لكنها حقيقة في حالتنا هذه.)
لذلك فإنه لقياس أي شيء في أيٍّ من الأبعاد الثلاثة — سواء أكان هذا الشيء محيط إلكترون أو قطر الكون نفسه — يحسب «عظماء المجرة» عدد مسافات بلانك على خط يمتد من نقطة (أ) إلى نقطة (ب).
ودائمًا ما تكون النتيجة عددًا هائلًا، لكن لا بأس به مع عظماء المجرة. وهم في حد ذاتهم أعداد هائلة إذا نظرنا إليهم من جانب معين.
•••
وبعد أن وجدنا وسائل للتعرف على الأقل على هذا الكائن المستعصي على الفهم، دعونا نعود إلى الكائن الأكثر بساطة؛ وهو رانجيت سوبرامانيان.
عندما كان رانجيت صغيرًا، حثه والده المسكوني المتشدد على قراءة بعض الكتب الغريبة، أحدها — لكاتب يدعى جيمس برانش كابيل — كان يدور حول طبيعة الكتابة والكتَّاب. (إذ ظن جانيش سوبرامانيان لفترة أن ابنه سيحترف مهنة الكتابة.) ذكر كابيل أن من يرغب في الاشتغال بالكتابة يحاول أن يقول للعالم: «عقلي مثقل بالكلمات، ولا بد أن أفرغ ما فيه من كلمات، وإلا فسألقى حتفي.»
ومن المدهش أن هذا كاد يكون حال رانجيت في ذلك الوقت.
منذ أيام الآن ورانجيت يلتمس المساعدة، ويصيح في الممرات الخالية قائلًا — وإن لم يكن هناك من يسمعه — إن لديه شيئًا لا بد من تبليغه لإحدى المجلات في الحال. لكن أحدًا لم يجبه بشيء. حتى الرجل الأعرج المسن كان يكتفي آنذاك بوضع طعام رانجيت داخل الباب، ثم يعرج إلى الخارج بأسرع ما يمكن.
لذلك عندما سمع رانجيت خطى الرجل المسن تقترب عبر الممرات الخالية أبدى قليلًا من الاهتمام، عدا أنه سمع هذه المرة — إلى جانب خطوات ذلك الأعرج — وقع أقدام لشخص لا يعرج على الإطلاق. وبعد دقيقة فُتح باب زنزانة رانجيت. وأمام الباب وقف الرجل المسن لكنه كان متنحيًا خطوة أو خطوتين خلف رجل آخر؛ رجل علت تعبيرات الصدمة والفزع قسمات وجهه الذي تعرف عليه رانجيت جيدًا مثلما تعرف على صاحبه. قال جاميني باندارا في دهشة: «يا إلهي! رانجيت، أهذا أنت حقًّا؟»
من بين كل الأسئلة التي كان يمكن أن يطرحها رانجيت على هذا الزائر الذي لم يكن يتوقع حضوره، اختار رانجيت السؤال الأبسط. «ماذا تفعل هنا يا جاميني؟»
أجابه جاميني: «ماذا تظنني فاعل؟ سوف أُخرجك من هنا، وإذا ظننت أن الأمر يسير تكون أكثر جنونًا مما تبدو عليه. بعدها سنذهب إلى طبيب أسنان، ماذا حدث لسِنِّك الأمامية؟ أو لا، أظن أنك بحاجة إلى الذهاب إلى طبيب أولًا، ماذا هناك؟»
كان رانجيت واقفًا يرتجف من فرط الشعور بالإثارة والبهجة. ثم أردف قائلًا: «لا أحتاج إلى رؤية الطبيب! إذا كنت تستطيع إخراجي من هنا، فخذني إلى جهاز كمبيوتر!»
بدا جاميني متحيرًا. وقال: «كمبيوتر؟ هذا أمر بسيط، لكن علينا أن نطمئن أنك بخير أولًا …»
صاح رانجيت: «تبًّا، يا جاميني! ألا تفهم ما أقول؟ أظن أنني وصلت إلى البرهان! أحتاج إلى جهاز كمبيوتر، أحتاج إليه الآن! ألديك فكرة كم أنا مرتاع أن أنسى شيئًا من البرهان قبل أن أستطيع الحكم على صحته؟»
•••
التقى رانجيت بالطبيب. وحصل على الكمبيوتر في الوقت نفسه أيضًا، لكن بعد أن قاده جاميني إلى خارج المعتقل حيث كانت في انتظارهما طائرة هليكوبتر على استعداد للإقلاع. وأثناء صعود رانجيت الطائرة شاهد رجلين يقفان على مقربة أحدهما سكوينتي الذي بدا مذهولًا ومرتبكًا لكنه لم يلوح له بإيماءة الوداع. ثم اتجهت الطائرة نزولًا مدة عشرين دقيقة بين الجبال الشاهقة التي اكتست بطبقات الجليد. وفي الطائرة لم يتمالك رانجيت نفسه عن توجيه الأسئلة إلى جاميني، لكن هذه المرة لم تكن لدى جاميني رغبة في الحديث. فقال وهو يشير إلى طيار الهليكوبتر الذي يرتدي زيًّا رسميًّا لم يره رانجيت من قبل: «لاحقًا.»
هبطت الطائرة في مطار فعليٍّ، وعلى بعد أمتار قليلة رأى رانجيت طائرة من طراز بوينج-إيرباص ٢٢٠٠ — أسرع وأفخم طائرة صمَّمتها شركتا بوينج وإيرباص على الإطلاق — وعليها شعار الأمم المتحدة ذو اللون الأزرق الذي يتألف من الكرة الأرضية يحيط بها غصنا الزيتون. وكانت الطائرة من الداخل أكثر فخامة. فبها مقاعد جلدية ذات مسندين. وطاقمها يضم طيَّارًا (يرتدي الزي الرسمي لعقيد في القوات الجوية الأمريكية) ومضيفتين أنيقتين للغاية (ترتديان نفس الزي الرسمي لكنهما تحملان رتبة نقيب، وفوق الملابس الرسمية مآزر بيضاء ناعمة.) سأل الطيار جاميني: «هل ستتوجه إلى المنزل يا سيدي؟» فأومأ له جاميني بالإيجاب، وفي الحال اختفى الطيار داخل قمرة القيادة. قادت إحدى المضيفتين رانجيت إلى مقعد (اكتشف أنه كرسي دوار)، وربطت له حزام الأمان. أخبر جاميني رانجيت والمضيفة تربط له حزام الأمان هو الآخر: «إنها جيني، تعمل طبيبة، ومن الأفضل أن تسمح لها بفحصك …»
بدأ رانجيت احتجاجه: «الكمبيوتر …»
رد جاميني قائلًا: «سوف تحصل على الكمبيوتر اللعين يا رانجيت، لكن علينا أن نحلق أولًا. لن يستغرق الأمر أكثر من دقيقة.»
في ذلك الوقت عادت المرأتان إلى مقاعدهما القابلة للطي والمستندة إلى أحد الحواجز في الطائرة، وبدأت الطائرة تتحرك. وحالما انطفأت شارة ربط الأحزمة، أخرجت المضيفة الثانية جهاز كمبيوتر محمول من الطاولة المجاورة لمقعد رانجيت وهي تقول: «أنا إيمي. مرحبًا بك!» في حين كانت المضيفة التي تُدعى جيني تقترب ومعها السماعة وجهاز ضغط الدم والعديد من الأدوات الأخرى الجاهزة للاستخدام.
لم يعترض رانجيت. وإنما سمح للطبيبة بفحصه قدر ما أرادت بينما كتب هو ببطء وعلى نحو يعوزه الإتقان مخطوطة تتألف من نحو ست صفحات، وكان يتوقف بين كل بضعة أسطر ليسأل جاميني هل يمكنه البحث عن عنوان مجلة اسمها «نيتشر». «مقرهم في مكان ما في إنجلترا.» أو كان يتوقف مكفهرَّ الوجه أمام لوحة المفاتيح حتى تسعفه ذاكرته بالسطر التالي. استغرق الأمر وقتًا طويلًا، لكن عندما جازف جاميني بسؤاله هل يرغب في أي شيء يأكله، طلب منه رانجيت على نحو حاد وقاطع أن يصمت. وقال: «أمهلني عشر دقائق فحسب. أو ربما نصف ساعة على أقصى تقدير. فلا يمكنني التوقف الآن.»
بالطبع لم يستغرق الأمر عشر دقائق. ولا نصف ساعة حتى. فقد مرت أكثر من ساعة قبل أن يرفع نظره، ويتنهد قائلًا لجاميني: «أود التحقق من كل شيء؛ لذا سأحتاج إلى إرسال نسخة إلى منزلك. أخبرني بعنوان بريدك الإلكتروني.»
وعندما كتب العنوان، ضغط أخيرًا على زر الإرسال، ثم استرخى في مقعده.
قال رانجيت: «أشكرك. وأعتذر لأني كنت مزعجًا إلى هذا الحد، لكن الأمر كان في غاية الأهمية لي. فمنذ أن توصلت إلى هذا البرهان — منذ خمسة أو ستة أشهر — وأنا أخشى أشد الخوف أن أنسى جزءًا منه قبل البت في صحته.» توقف رانجيت فجأة وهو يلعق شفتيه. وأردف: «وهناك أمر آخر. فمنذ وقت طويل وأنا أفكر في طعام حقيقي. هل لديك عصير فاكهة طازج من أي نوع على هذه الطائرة؟ أو ربما شطيرة من اللحم، أو بيضتان مخفوقتان؟»