الصُّحْبة
في اليوم السابع من إقامة رانجيت في منزل آل فورهولست أعلن كبير الخدم قدوم زائر جديد هي مايرا دو سويزا. سألته في الحال: «هل أتطفل عليك يا رانجيت؟ الخالة بيتريكس قالت إن بوسعي الاطمئنان عليك ما دمت لا أمنعك من الراحة.»
كان رانجيت يستريح فعلًا، ولا شك أن مايرا دو سويزا تحول دون راحته. ولم يشأ أن يصرح بذلك، وبذل ما في وسعه ليتجاذب أطراف الحديث معها. فسألها: «ما الذي تفعلينه الآن؟ أعني هل ما زلت تدرسين في الجامعة؟»
لم تكن مايرا في الجامعة. لم تذهب إليها منذ صف علم الاجتماع الذي حضراه معًا؛ فهي عائدة لتوها من إحدى دراسات ما بعد الدكتوراه (ما بعد الدكتوراه؟! لم يكن لدى رانجيت أي فكرة عما وصلت إليه مايرا في السلم الأكاديمي) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أمريكا، وكالمتوقع سألها: «ماذا تدرسين؟»
أجابت: «حسنًا … الذكاء الاصطناعي، تقريبًا.»
رأى رانجيت أن يتجاهل كلمة «تقريبًا» المبهمة. فسألها: «وإلى أي مدى وصل الذكاء الاصطناعي؟»
وأخيرًا ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة. وقالت: «إن كنت تقصد إلى أي مدى اقتربنا من الحصول على جهاز كمبيوتر يجري معنا حوارًا عقلانيًّا، فنحن بعيدون كثيرًا. إذا عدت إلى أنواع مشروعات الذكاء الاصطناعي التي حاول من بدءوا العمل في هذا الميدان حلها، فستجد أن الوضع ليس سيئًا تمامًا. هل سمعت من قبل عن رجل يدعى مارفين مينيسكي؟»
فكر رانجيت في السؤال، لكنه لم يجد إجابة له. فأجابها قائلًا: «لا أظن ذلك.»
– «يا للأسف. لقد كان واحدًا من أفضل العقول التي حاولت تعريف التفكير وإيجاد سبل عن طريقها يؤدي الكمبيوتر بعض المهام التي يمكن أن نطلق عليها تفكيرًا. وقد اعتاد أن يذكر قصة أجدها مسلية في بعض الأحيان.» توقفت مايرا كأنها ليست واثقة من اهتمام رانجيت بالقصة. وحين أبدى رانجيت — الذي من شأنه أن يستمتع بالاستماع إليها حتى وإن كانت تعلن عن تأخر مواعيد القطار أو أسعار الأسهم في البورصة — اهتمامه واصلت حديثها. قالت: «حسنًا، في بداية الدراسات الخاصة بالذكاء الاصطناعي اعتَبر مينيسكي — وجميع الروَّاد الآخرين — تمييز الأنماط واحدًا من السمات المميزة للذكاء الاصطناعي. وبعدها صار تمييز الأنماط من الأمور التي تحدث كل يوم. فأجهزة قراءة الباركود في جميع المتاجر الكبرى في العالم تقرأ أسعار أي سلعة من الكود الشريطي الخاص بها. ما الذي حدث إذن؟ لقد أُعِيد تعريف الذكاء الاصطناعي. واسْتُبْعد تمييز الأنماط لأنهم وجدوا حلًّا له، حتى وإن ظلت أجهزة الكمبيوتر غير قادرة على تأليف مزحة أو استنتاج أنك مخمور من مظهرك.»
قال رانجيت: «أيمكنكم إذن في الوقت الحاضر تصنيع كمبيوتر قادر على تأليف مزحة؟»
اعتدلت مايرا في جلستها. وقالت في كآبة: «كم كنت أتمنى ذلك.» ثم تنهدت. وأردفت: «الواقع أن اهتمامي الرئيسي لم يعد ينصبُّ على هذا الأمر. وإنما على التطبيقات. أو الأعضاء الصناعية الذاتية تحديدًا.» تغيرت تعبيرات وجه مايرا وأيضًا موضوع حديثها. وسألت رانجيت فجأة: «رانجيت، لماذا تغطي فمك بيدك طوال الوقت هكذا؟»
كان السؤال شخصيًّا أكثر مما توقع رانجيت منها. لكنه كان مدركًا تمامًا للصورة التي يغطي بها فمه بيده. وواصلت مايرا: «أهو سنُّك المكسور الذي يزعجك؟»
اعترف رانجيت قائلًا: «أعرف كيف أبدو.»
– «حسنًا، وأنا أيضًا يا رانجيت أعرف. أنت تبدو كرجل صادق مهذب وفائق الذكاء لم يذهب لترميم سنه لدى طبيب الأسنان.» ثم هزت رأسها. وقالت: «إنه أبسط شيء في العالم يا رانجيت، ولن تبدو أفضل في الشكل فحسب، وإنما ستمضغ الطعام بصورة أفضل.» ثم وقفت. وقالت: «وعدتُ الخالة بيتريكس ألا أجلس أكثر من عشر دقائق، وقالت إنه يمكنني أن أسألك هل ترغب في السباحة في المحيط على سبيل التغيير. عند شاطئ نيلاويلي. أتعرف مكانه؟ لدينا منزل صغير هناك إذا أردت …»
أبدى رانجيت اهتمامه. فاستطردت مايرا: «سوف نرتب لهذا الأمر»، ثم فاجأته بعناقها له. وأردفت تقول: «لقد افتقدناك.» ثم تراجعت إلى الخلف ونظرت إليه. وقالت: «ذكر جاميني أنك سألته عن فتاته التي كان يعرفها في الماضي. ألديك سؤال كهذا لي؟»
أجابها: «أها. حسنًا، أجل، أظنك تقصدين ذلك الشاب الكندي.»
ابتسمت مايرا. وقالت: «أجل، أظن أني أقصد ذلك. آخر ما سمعته عنه أنه كان في جزيرة بورا بورا حيث كانوا يبنون فندقًا كبيرًا. لكن مضى وقت طويل على هذا. ولم يعد بيننا اتصال.»
•••
لم يكن رانجيت يدرك أن جاميني ومايرا يعرف أحدهما الآخر ولا أنهما يتبادلان الأحاديث بلا تكلف. ولم يكن ذلك كل ما يجهله. فقد كان عدد زائريه آخذًا في الزيادة، وذلك مع قدوم محامي مكتب الدكتور باندارا ومعه المزيد من المستندات للتوقيع عليها وهو يقول له بلهجة اعتذارية: «لا تظن أن أملاك والدك معقدة تمامًا. فكل ما في الأمر أنك اعتُبِرت مفقودًا، وفسر أحد الأشخاص ذلك على أنك ميت. لذا سنحتاج إلى إيضاح الحقيقة.»
كان هناك أيضًا رجال الشرطة. لم يرفع أحد دعوى قضائية ضد رانجيت نفسه. وهو ما تأكد منه دو سارام قبل أن يسمح بأي تحقيق معه. لكن كانت لديهم أمور عالقة يحتاجون إلى البت فيها بشأن قضية القرصنة، ورانجيت هو الشخص الوحيد الذي يستطيع مساعدتهم في ذلك.
بعدها فكر رانجيت في مسألة «الأعضاء الصناعية الذاتية» التي تحدثت عنها مايرا دو سويزا، أيًّا كانت على وجه التحديد. ولم تفده كثيرًا محاولة البحث عن معلومات في هذا الشأن. لكن ما علاقة الذكاء الاصطناعي بالأطراف الصناعية أو سماعات الأذن؟
ساعدت بيتريكس فورهولست رانجيت في ذلك. قالت له: «إنهم لا يتحدثون عن سيقان خشبية أنيقة الشكل يا رانجيت. فالأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. تقوم الفكرة على تصنيع عدد كبير من الروبوتات المتناهية الصغر، يُجرى حقنها داخل مجرى الدم وتُبرمَج على كشف الخلايا السرطانية على سبيل المثال وتدميرها.»
«حسنًا»، قالها رانجيت وهو يتأمل الفكرة، ويُعْجَب بها. إنه المشروع المناسب تمامًا للاستحواذ على اهتمام مايرا دو سويزا. وأردف متسائلًا: «وهل يصنعون تلك الروبوتات المتناهية الصغر الآن؟»
ابتسمت السيدة فورهولست ابتسامة حزينة. وقالت: «لو تمكنوا من تصنيعها قبل سنوات، لما كنت أرملة اليوم. لا يزال الأمر برمته أملًا ليس إلا. إذ لا يتوفر التمويل اللازم للأبحاث حتى إن مايرا انتظرت تمويل مشروعها طويلًا، وهو ما لم يحدث. هناك أموال طائلة تُنفَق على الأبحاث ما دامت تتعلق بتطوير الأسلحة.»
•••
عندما استطاع رانجيت أخيرًا قبول دعوة مايرا دو سويزا، وفرت له بيتريكس فورهولست سيارة وسائقًا. وعندما قطعا مسافة على طول الطريق المؤدي إلى الشاطئ، بدأ رانجيت يتذكر المعالم الرئيسية. كان هو وجاميني قد زارا هذا الشاطئ أثناء استكشافهما لهذا المكان. لم يتغير المكان كثيرًا. فعلى الشواطئ يوجد عدد كبير من الفتيات الحسناوات اللاتي يرتدين ملابس البحر الكاشفة.
لم يكن رانجيت يعرف شكل منزل دو سويزا إلى أن أشار إليه السائق؛ منزل ذو سقف مائل مغطى بالآجرِّ، وشرفة محاطة بالستائر حول الباب، وأزهار يانعة مزروعة على نحو جذاب. تأكد رانجيت أنه في المكان الصحيح عندما فُتِح الباب، وخرجت مايرا دو سويزا مرتدية ثوبًا خفيفًا فوق ثوب سباحة أنيق كاشف كأي ثوب على الشاطئ.
ثم تسلل الشك إلى نفس رانجيت عندما شاهد فتاة في الخامسة أو السادسة من عمرها واقفة خلف مايرا مباشرة. وأحس رانجيت بأن تحولًا سريعًا ومخيفًا قد حدث.
فتاة في السادسة من عمرها؟
أهي ابنة مايرا؟
هل طال غيابه إلى هذا الحد؟
كلا، ليس كل هذا الوقت. كانت آدا لابروي ابنة أخت مايرا التي تمر بتجربة حمل آخر غير مستقر، ولهذا السبب لم تمانع في تلبية رغبة ابنتها في قضاء أطول وقت ممكن مع خالتها الحبيبة. كانت مايرا نفسها سعيدة بوجود آدا معها خاصةً وأن مُرَبِّيتها جاءت معها لتتأكد من أن الطفلة لا تسبب إزعاجًا. وعندما بدَّل رانجيت ملابسه ووضعت له مايرا كريم الوقاية من الأشعة فوق البنفسجية — وهو ما كان في حد ذاته تجربة من أروع التجارب التي مر بها مؤخرًا — سارا معًا في تؤدة عبر الرمال الساخنة حتى وصلا إلى مياه الخليج الباردة المبهجة.
أفضل ما كان يميز شاطئ سريلانكا — إضافة إلى الصحبة — هو أن عمق المياه كان يزداد رويدًا رويدًا. فقد ابتعد رانجيت عشرات الأمتار عن الشاطئ، ولكنه ما زال واقفًا في ثبات.
لم يذهب رانجيت ومايرا بعيدًا بعد أن وصلت المياه إلى خاصرتيهما، ولم يسبحا قدر ما كانا يلقيان بأنفسهما في ابتهاج وسط المياه. لم يستطع رانجيت أن يقاوم إغراء استعراض مهاراته في السباحة تحت الماء؛ إذ كان يستطيع السباحة لنحو مائة متر، وهي مسافة أقصر كثيرًا من المسافة التي كان يقطعها عندما كان مراهقًا قرب صخرة سوامي، لكنها كانت كافية لنيل إعجاب مايرا، وهو السبب الذي جعله يُقدِم على هذا الفعل من الأساس.
بعدئذٍ اتضح ذكاء اتفاق مايرا مع المربية. فبعد أن اغتسل رانجيت ومايرا، واستبدلا ملابسهما، قُدِّمت إليهما وجبة غداء شهية. وعندما انتهيا من الغداء، اصطحبت المربية آدا لأخذ قيلولة، في حين ذهبت هي إلى أي مكان قد تذهب إليه عندما لا يكون أمامها عمل تؤديه.
على وجه العموم كانت تلك واحدة من أفضل الأوقات التي قضاها رانجيت هذا اليوم. لكن عندما قالت مايرا إن عليها أداء تدريب السباحة الفعلي مسافة نحو مائتي متر على الأقل — دون أن يذهب معها رانجيت لأنه بحاجة إلى قضاء أقل وقت ممكن في ضوء الشمس الساطع إلى أن تعتاد بشرته على ضوئها مجددًا — كان رانجيت مدركًا أنها ستعود، وهو ما جعله يشعر بالاطمئنان. وطوال العشرين دقيقة الأخيرة أو نحو ذلك أخذ رانجيت يتساءل هل أوضحَ في شيء من الدقة أحد المفاهيم الخاصة بصوفي جيرما.
كاد رانجيت يقنع نفسه بخلو برهانه من الأخطاء عندما استفاقت الصغيرة آدا من قيلولتها. بحثت آدا عن خالتها، لكنها شعرت باطمئنان كبير عندما أشار رانجيت بذراعه في الاتجاه الذي تسبح فيه مايرا.
أحضرت آدا لنفسها عصير فواكه، وجلست تراقب ما يفعله رانجيت.
كان رانجيت يفضل ألا يشاهده أحد أثناء صراعه مع الرياضيات. لكن يبدو أن لآدا قواعدها في المشاهدة. فهي لم تبكِ بسبب بقائها على الشاطئ، بل إنها لم تكن مستاءة لذلك أيضًا. وعندما أحضر لها رانجيت حلوى مثلجة من أحد الباعة المتجولين على الشاطئ، تناولتها على مهل وعيناها مثبتتان على ما يكتب رانجيت في مفكرته. وعندما انتهت هرعت إلى حافة المياه لتزيل آثار اللزوجة عن أصابعها قبل أن تسأل بأدب: «أيمكنني الاطلاع على ما تفعل؟»
حينئذٍ كان رانجيت قد اطمأن كثيرًا إلى استخدامه لقاعدة جيرما. ففتح المفكرة على الطاولة أمامه ولديه فضول لرؤية ما قد تفهمه آدا من قاعدة جيرما.
تأملت آدا سطر الرموز هنيهة ثم قالت: «لا أظن أنني أفهم هذا.»
وافقها رانجيت الرأي: «إنه أمر معقد. ولا أظن أنني أستطيع توضيحه لك الآن أيضًا. لكن …»
ثم توقف وهو يتأمل الفتاة. كانت أصغر بكثير من تيفاني كاناكاراتنام، لكنها تحظى بميزة أنها تلقت تعليمًا أفضل ونشأت في أسرة أكثر رقيًّا. ثم قال: «ربما يمكنني أن أريك شيئًا. أيمكنك العد على أصابعك؟»
أجابت بأسلوب مهذب خالٍ من الاستياء: «بكل تأكيد.» ثم قالت وهي ترفع إصبعًا في كل مرة: «انظر. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة.»
قال رانجيت: «أجل، هذا رائع، لكنك تعدين حتى عشرة. أتريدين أن تعرفي كيف تعدين حتى ألف وثلاثة وعشرين على أصابعك؟»
•••
مع انتهاء رانجيت من شرح كيفية التمثيل الثنائي للأعداد ١٠٢٣ على الأصابع، عادت مايرا من تدريب السباحة، وأخذت تستمع بإنصات مثل آدا.
وعندما انتهى رانجيت من الشرح، نظرت الطفلة إلى خالتها التي كانت تجفف شعرها. وقالت: «إنه أمر رائع، ألا تظنين ذلك خالتي مايرا؟» ثم قالت لرانجيت: «هل تعرف حيلًا أخرى كهذه؟»
تردد رانجيت. فهو لم يعرض الحيلة الأخرى التي يعرفها على تيفاني كاناكاراتنام من قبل قط، لكن مايرا تستمع له الآن.
قال رانجيت: «الواقع أن لديَّ حيلة أخرى»، ثم غادر الجزء المكسو بألواح الخشب من شرفة المنزل ليتمكن من رسم دائرة فوق الرمال:
قال رانجيت: «هذه روبية. مجرد صورة للروبية، لكن دعونا نقل إنها عملة حقيقية. إذا قذفنا هذه العملة في الهواء، فسيكون أمامنا احتمالان؛ إما صورة أو كتابة.»
قالت آدا: «أو يمكن أن تستقر على حافتها إذا سقطت في الرمال.»
نظر رانجيت إلى الطفلة، لكن تعبيرات وجهها كانت توحي بالبراءة. فقال: «ولهذا السبب لن نلقيها على الشاطئ، وإنما سنلقيها على طاولة النرد في نادي القمار. إذا ألقينا عملتين في الهواء …»
«… فقد تسقط كل عملة منهما على الصورة أو الكتابة. وهو ما يعني وجود أربع نتائج محتملة. وهي: صورة-صورة، أو صورة-كتابة، أو كتابة-صورة، أو كتابة-كتابة. أما إذا كان لدينا ثلاث عملات …»
«… فسيكون لدينا ثمانية احتمالات: صورة-صورة-صورة، أو صورة-صورة-كتابة، أو صورة …»
قاطعته مايرا وهي تبتسم وفي صوتها تلميح خفي بالضيق: «رانجيت، تعرف آدا ناتج العدد اثنين مرفوعًا للأس ثلاثة.»
فأجاب رانجيت في هدوء: «لا شك أنها تعرف ذلك. إليك الحيلة إذن. سوف تأخذين هذه العصا وترسمين أي عدد تريدينه من العملات في الصف. لن أنظر. وعندما تنتهين سيكون عليَّ — في غضون عشر ثوانٍ أو أقل — كتابة العدد الصحيح للنتائج المحتملة في حالة قذف هذه العملات في الهواء.» ثم أضاف وهو يرفع إصبعًا: «وللمزيد من التشويق سوف أدعك تخفين أي عدد تريدين من العملات في إحدى نهايتَي الصف حتى لا أستطيع التعرف على عدد العملات الموجودة فيه.»
قالت آدا التي كانت تستمع بإنصات: «يا للدهشة. أيستطيع أن يقوم بهذا خالتي مايرا؟»
أجابتها مايرا بحزم: «كلَّا. إلا إذا اختلس النظر أو تحايل بصورة أخرى.» ثم توجهت إلى رانجيت: «ألن تختلس النظر؟»
– «نعم.»
– «ألن تعرف عدد العملات المعدنية في الصف؟»
زَمَّ رانجيت شفتَيْه. وقال: «لم أذكر شيئًا حول ما سأعرفه … لكن نعم، لن أفعل.»
قالت مايرا: «هذا مستحيل إذن.» لكن عندما دعاها رانجيت لاختباره، طلبت منه أن يدير وجهه، وجعلت آدا تراقب عينيه لتتأكد أنه لا يستغل أي نافذة في الجوار كمرآة. وبسرعة محت مايرا أثر معظم العملات المعدنية تاركة ثلاثة فحسب. ثم غمزت بعينها لآدا، وألقت منشفتها على الأرض لتغطي اثنتين من العملات الثلاث المتبقية، وغطت أيضًا مسافة متر كامل لا يحتوي على أي عملات على الإطلاق …
ثم قالت: «لتبدأ الآن.»
استدار رانجيت ببطء — كأن أمامه متسعًا من الوقت — في حين صرخت آدا: «أسرع يا رانجيت، أمامك عشر ثوانٍ فحسب! أو خمس ثوانٍ الآن، أو ربما ثانيتان فحسب …»
ابتسم رانجيت للطفلة. وقال: «لا تقلقي.» مال رانجيت للأمام وللمرة الأولى ألقى نظرة على الصف الذي رُسِمت به الدوائر، وأخذ العصا، ورسم خطًّا طوليًّا مستقيمًا عند إحدى نهايتَي الصف. وبينما يرفع منشفة مايرا قال: «ها هي الإجابة.» وأطلق ضحكة تعبر عن إعجابه بالنتيجة التي توصل إليها قائلًا: «أها. ممتاز جدًّا.» وانتظر رد فعل مايرا على الصورة التي ظهرت فوق الرمال …
حدقت مايرا في ذهول هنيهة، ثم اختفت نظرة الذهول على وجهها. وقالت: «يا إلهي! أجل! إنه الرقم الثنائي للعدد العشري ثمانية! وهي الإجابة الصحيحة أيضًا!»
أومأ رانجيت وهو لا يزال مبتسمًا، ثم التفت إلى آدا التي دلَّت ملامحها على أنها لم تفهم الكثير. أينبغي عليه شرح الترميز الثنائي مرة أخرى … ١، ١٠، ١١، ١٠٠ للأعداد واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة؟ تردد رانجيت في القيام بذلك.
لكن الطفلة ابتسمت فجأة. وقالت: «لم تذكر أنك ستستخدم النظام الثنائي يا رانجيت، لكنك لم تقل إنك لن تستخدمه أيضًا؛ لذا أظن أن الإجابة صحيحة. إنها حيلة ذكية.»
أصدرت آدا حكمها برزانة كانت تكفي لاحتفاظ رانجيت بابتسامته. وإن كان ردها قد أثار فضوله. فقال لها: «أخبريني يا آدا. هل تعرفين الأرقام الثنائية حقًّا؟»
بدا عليها استياء ممزوج بالسخرية. وأجابت: «بالطبع يا رانجيت! أتعرف خالتي مايرا طلبت من والديَّ أن يسمياني باسم من؟»
ردت مايرا على نظرة الحيرة التي علت وجه رانجيت. وقالت: «أنا السبب في ذلك. فعندما اختلفت أختي مع زوجها بشأن اسم المولود أشرت عليهما باسم آدا. كانت آدا لافليس شخصيتي المفضلة ومثلي الأعلى. وبينما ركَّزت جميع صديقاتي اهتمامهن على نساء مثل الإلهة شيفا أو المرأة الخارقة أو القديسة جان دارك، كانت المرأة الوحيدة التي تمنيت أن أصبح مثلها عندما أكبر هي الكونتيسة آدا لافليس.»
بدأ رانجيت بقوله: «الكونتيسة …» ثم طقطق إصبعيه. وقال: «بالطبع! أهي مبرمجة الكمبيوتر التي عاشت في القرن التاسع عشر؟ ابنة اللورد بايرون التي كتبت أول برنامج كمبيوتر للآلة الحاسبة الخاصة بعالم الرياضيات تشارلز باباج!»
وافقته مايرا قائلة: «أجل، إنها هي. بالطبع لم تُصَمَّم هذه الآلة قط — لافتقارهم إلى التكنولوجيا آنذاك — لكن البرنامج كان جيدًا. ومن أجلها سميت لغة البرمجة آدا باسمها.»
•••
أصبحت النزهة اليومية على الشاطئ روتينًا ثابتًا، ثم فكر رانجيت في طريقة يضيف بها المتعة إليها. كان دو سارام قد فتح لرانجيت حساب ائتمان مصرفي — اعتمادًا على ما ينتظره من ممتلكات والده — وهو ما يعني أن الأمر لا يقتصر على امتلاكه حسابًا مصرفيًّا فعليًّا به أموال حقيقية يمكنه الإنفاق منها، وإنما لديه بطاقة ائتمان أيضًا. رأى رانجيت المطاعم المطلة على الشاطئ أعلى الخط الشجري، وقرر أن يدعو مايرا لتناول العشاء.
توقف سائق رانجيت عند أحد المطاعم على الطريق، لكن عندما فتح رانجيت الباب ليتحقق من المكان، لم يجد الروائح مشجعة. كان المطعم الثاني أفضل. فدخله بالفعل، وأخذ قائمة الطعام، واشتمَّ الرائحة بإمعان، ثم أخبر الشخص الذي أعطاه قائمة الطعام أنه سيعود مرة أخرى لكنه لم يحدد موعدًا لعودته. أما في المطعم الثالث فقد حصل رانجيت على قائمة الطعام لكنه لم ينظر فيها. فالرائحة الذكية التي انبعثت من المطبخ، وتناول رواد المطعم للشاي والحلوى في تريث جعلا رانجيت يشتمُّ المكان بعمق، ثم يحجز طاولة. وعندما قدم الدعوة الحقيقية لمايرا، بدا عليها التردد هنيهة، ثم قالت: «بالتأكيد، سيكون أمرًا رائعًا.»
ومعنى ذلك أنه ليس أمام رانجيت سوى انقضاء النهار حتى يتسنى له الاستمتاع بتقديم شيء من أجلها.
لم تكن آدا معهما؛ لذلك ذهبا للسباحة معًا في مكان أبعد مما اعتادا عليه، وعندما عادا ارتديا ملابسهما وجلسا يتناولان مشروبًا في الشرفة ويتجاذبان أطراف الحديث. كانت مايرا هي التي تدير معظم الحوار. فقالت وهي تحدق بنظرها على طول الرمال التي كادت تكون شاغرة: «كان المكان هنا مفعمًا بالحياة أكثر من الآن. فعندما كنت صغيرة كان هناك فندقان فاخران على الشاطئ وعدد أكبر من المطاعم.»
نظر إليها رانجيت في دهشة. وقال: «أتفتقدين الأوقات الصاخبة؟»
أجابته: «ليس تمامًا. فأنا أحب المكان هادئًا مثلما هو الآن. لكن والديَّ اعتادا الذهاب للرقص هناك؛ أما الآن فلم يتبقَّ شيء.»
أومأ رانجيت. وقال بحصافة: «تقصدين موجة تسونامي التي ضربت البلاد عام ٢٠٠٤.»
غير أنها هزت رأسها. وقالت: «قبل ذلك بكثير. كان ذلك في عام ١٩٨٤. مع بداية الحرب الأهلية. اندلع عدد من الحروب الأولى هنا في هذا المكان عندما نزل «نمور البحر» إلى اليابسة كي يتمكنوا من شن هجوم على المطار. استولى الجيش على الفنادق كمواقع لإطلاق النار؛ لذلك عمد «النمور» إلى تدمير الفنادق. كان والداي هنا، ولم يستطيعا مبارحة المكان إلى أن هدأت الأمور قليلًا، وأعيد فتح الطرق. ذكرت أمي أن الطلقات الكاشفة كانت تشبه عرضًا للألعاب النارية، وتحدث أصواتًا مدوية مع انطلاقها من زوارق الهجوم واختراقها الفنادق. وقد أطلقوا على هذه العملية اسم «العرض الترفيهي».»
أراد رانجيت أن يبدي رد فعل لما قالته. لكنه لم يعرف كيف. ربما لم يكن يرغب في الرد عليها بالكلمات. فما أراده حقًّا هو إحاطة مايرا بذراعه. اكتفى بما اعتبره خطوة أولى، فوضع يده فوق يدها بينما كانت تستند على ذراع كرسيها.
لم يبدُ أنها تمانع. واستطردت: «كان حطام المباني القديمة لا يزال هناك والعمر يتقدم بي. أتعرف ما الذي أتى عليه في النهاية؟ إنه تسونامي. ولولاه لكان هذا الحطام موجودًا هنا الآن.»
استدارت إليه مايرا وهي تبتسم … وبدت كأنها ترغب في أن يقبلها.
وأراد رانجيت التأكد من صحة ظنه.
واتضح أنه كان مصيبًا. كانت ترغب في ذلك فعلًا. أخذت مايرا بيد رانجيت، وعادا إلى المنزل الشاطئي حيث الأريكة المريحة التي تتسع لشخصين، واكتشف رانجيت أن إقامة علاقة مع امرأة ليس أمرًا ممتعًا في حد ذاته، وإنما يكون أفضل بكثير عندما تكون هذه المرأة شخصًا تحبه وتحترمه وترغب حقًّا في قضاء معظم الوقت بصحبته.
بعدها تناول رانجيت ومايرا العشاء الذي دعاها إليه، وكان هذا أيضًا أمرًا رائعًا. وهكذا فإن هذا اليوم الذي قضاه رانجيت على الشاطئ كان بوجه عام يومًا رائعًا للغاية، وخطط رانجيت ومايرا في الحال لتكراره مرات كثيرة.
غير أن الخطط لم تسر حسبما رسماها؛ لأنه في اليوم التالي مباشرة حدث شيء غيَّر من خططهما.
•••
كانت آدا لابروي برفقتهما في ذلك اليوم وكذلك المربية التي ظلت توجه لمايرا ورانجيت نظرات جانبية تأكد رانجيت من خلالها أن وجهيهما يكشفان عما فعلاه. لكنه كان يومًا عاديًّا تمامًا — إذا تجاهلنا أن مايرا قبَّلت رانجيت لدى وصوله على شفتيه وليس على وجنته كما اعتادا — إلى أن عادا من نزهتهما في الماء، وارتديا ملابسهما، وتناولا مشروبيهما.
عندئذٍ رأت آدا شيئًا. فوضعت يدها فوق عينيها لتحجب عنهما ضوء الشمس، وتساءلت: «أليس هذا هو الرجل الذي يعمل لدى آل فورهولست؟»
وعندما وقف رانجيت ليتحقق من الأمر، وجد كبير الخدم لدى آل فورهولست يتحرك بسرعة لم يعهدها عليه من قبل، ويحمل مجموعة من الأوراق يقبض إحدى يديه بإحكام عليها. وقد بدا متحمسًا. ليس متحمسًا فحسب وإنما شديد التوق لتسليم الأوراق لرانجيت حتى إنه كان لا يزال على بعد خمسة أو ستة أمتار عندما صاح قائلًا: «سيدي! أظن أن هذا ما كنت تنتظره!»
•••
وبالفعل كان يحمل ما ينتظره رانجيت.
لم يكن هذا ما ينتظره رانجيت تحديدًا. فقد كان تحليلًا مسهبًا لبحثه حول نظرية فيرما، أو بالأحرى خمسة تحليلات مختلفة يبدو أن كلًّا منها كُتِب بواسطة شخص مختلف (مجهول الهوية)، وما فعله هؤلاء — في تفصيل مجهد يكاد يفتقر إلى التشويق — هو التحقق من صحة جميع الفقرات الأخيرة التي سبق أن وجد بها رانجيت خطأً أو غموضًا. إضافة إلى ذلك فقد وجدوا ما لا يقل عن إحدى عشرة فقرة أخرى تحتاج إلى تنقيح أيضًا، لكن رانجيت لم يكتشفها أثناء قراءته. كان هناك اثنتان وأربعون ورقة اكتظت كل منها بالكلمات والمعادلات. وعندما ألقى رانجيت نظرة متعجلة على الأوراق واحدة تلو الأخرى، أعطاها لمايرا ونظرة التجهم تزداد حدة على وجهه مع كل ورقة ينظر فيها. حتى قال أخيرًا: «يا إلهي! ما هذا الذي يقولونه؟ أيخبرونني بكل ما لديهم من أسباب لرفض هذا الشيء اللعين؟»
كانت مايرا تعض شفتيها وهي تعيد قراءة الورقة الأخيرة للمرة الرابعة أو الخامسة. ثم ابتسمت فجأة، وأعادت الورقة إلى رانجيت قائلة: «عزيزي» — دون أن يلاحظ أحدهما وسط حالة الانفعال هذه أنها لم تخاطبه بهذه الكلمة قط — «ما آخر كلمة وردت في الرسالة؟»
انتزع رانجيت الورقة من يدها. سألها: «أي كلمة؟ تعنين هنا في الأسفل؟ حيث يقولون «تهانينا»؟»
أجابته بابتسامة عريضة حنونة هي على وجه التحديد أفضل ابتسامة يمكن أن يتمناها من مايرا دو سويزا: «هذا هو ما أعنيه تحديدًا. هل سمعت من قبل عن شخص يتلقى تهنئة على إخفاقه؟ سينشرون بحثك يا رانجيت! يعتقدون أنك فعلتها أخيرًا!»