المُزارع «بيل»
في مكان آخر بعيد جدًّا في المجرة …
لا يمكنك القول إن «عظماء المجرة» قد غاب عن بالهم أمر كوكب الأرض الذي يعج بالفوضى. فهذا لم يحدث أبدًا. كانوا بالفطرة غير مؤهلين لنسيان أي شيء. ومع ذلك فإن كوكب الأرض تراجع ليحتل أبعد موضع في عقلهم الجماعي، وأصبح اهتمامهم منصبًّا على موضوعات أخرى أكثر أهمية، أو أكثر تشويقًا.
في حالة «بيل» نفسه — على سبيل المثال — كانت أمامه مهمة الاعتناء بمزرعته، أو بالأحرى «مزرعته» بين علامتَي تنصيص؛ إذ لا ينمو فيها أي شيء عضوي.
إننا لا نفكر عادةً في «عظماء المجرة» على أنهم مزارعون من أي نوع. غير أنهم شجعوا زراعة أنواع معينة من المحاصيل، ومن الغريب أن مزارعي القرون الوسطى من البشر فعلوا شيئًا شبيهًا بذلك للغاية مع أراضيهم ذات المساحات الضئيلة.
الرقعة التي أثارت اهتمام «بيل» كي يذهب إليها هي حيز من الفراغ يساوي عدة سنوات ضوئية.
ربما يُخيَّل لرائد الفضاء من الوهلة الأولى أن هذه الرقعة لا تمثل شيئًا سوى فضاء خالٍ. والحقيقة أن هذا هو ما ظنه رواد الفضاء من البشر تحديدًا عندما شاهدوها لأول مرة. لكنها لم تكن خالية تمامًا. فالمعاينات الأكثر وضوحًا — التي تحققت عندما نجح البشر في تصنيع تلسكوبات أفضل — بيَّنت أن هناك شيئًا في هذه البقعة من الفضاء يسبب انكسار الضوء بحيث يظهر شعاع أزرق في اتجاه وشعاع أحمر في الاتجاه الآخر.
وهذا الشيء — مثلما عَرفَه «عظماء المجرة» دومًا — هو الغبار البَيْن نجمي.
وبطبيعة الحال لم تكن هذه الرحلة هي زيارة «بيل» الأولى لمزرعته. فمنذ فترة قصيرة — ربما قبل بضعة ملايين سنة أو نحو ذلك — استكشف «بيل» المزرعة بالتفصيل، وأعدَّ إحصاءً رسميًّا دقيقًا للغبار. كم تبلغ النسبة المئوية لجزيئات الغبار (مثلما قد يقيسها البشر) التي يساوي حجمها أقل من جزء من المائة من الميكرون؟ بل وكم تبلغ النسبة المئوية لجزيئات الغبار في جميع نطاقات الحجوم وصولًا إلى الجزيئات العملاقة — التي تساوي عشرة ميكرونات في العرض — وربما حتى أكبر من ذلك؟ دوَّن «بيل» أيضًا التركيب الكيميائي لجزيئات الغبار وأعداد نيوتروناتها وحالتها التأينية.
كان كل هذا عملًا بسيطًا وسهلًا للغاية من الواجبات التي يفرضها الواحد من «عظماء المجرة» على نفسه. على أن «بيل» اعتبرها دائمًا ضمن ما يمكن أن نطلق عليه الواجبات الأكثر إثارة للمتعة. فعلى أي حال سوف يُسْهِم إحصاؤه الرسمي هذا في النهاية في تحقيق واحد من الأهداف السامية التي يخطط لها عظماء المجرة.
•••
وهكذا كان ما يفعله «بيل» — شأنه في ذلك شأن بعض البارونات النورمانديين في القرن الحادي عشر — هو الطواف في حقوله. في حين أن رقعة الغبار كانت ما يسميه العبيد السكسونيون التابعون للبارون حقلًا مُرَاحًا؛ بمعنى أنه متروك بلا زراعة كي تستريح التربة وتستعيد خصوبتها.
لم تكن أرض «بيل» تطرح ذرة أو شوفانًا. وإنما كانت تطرح نجومًا فحسب؛ نجومًا كبيرة وصغيرة ومن كل الأنواع؛ غير أن «عظماء المجرة» فضَّلُوا النجوم الكبيرة. إذ يمكن الاعتماد على تلك النجوم العملاقة — التي من شأن البشر أن يسموها بحروف مختصرة — في حرق مخزونها الأوَّلِي من الهيدروجين داخل الأفران النووية في أنويتها على جناح السرعة. وعندما ينتهي هذا يتكرر الأمر مرة أخرى مع الهيليوم والكربون والنيون والمغنيسيوم — مع مراعاة أن يكون كل عنصر أثقل وزنًا من العنصر السابق له — إلى أن يأتي دور الحديد الذي يقع في نهاية السلسلة.
وعندما تتحول نواة النجم إلى الحديد يَضْعُف الفرن النووي الموجود داخل النواة إلى أن يفقد القدرة على مقاومة ضغط الجاذبية الهائل المتولد عن الوزن الثقيل لطبقاته الخارجية. فيتهاوى النجم …
وبعدها يرتد النجم محدثًا انفجارًا مهولًا — تتولد منه ثروة جديدة من العناصر الأثقل التي تكونت في الحرارة المناسبة لهذا الانفجار — ليتحول بعدها إلى جزيئات دقيقة تزيد من خصوبة الرقعة التالية من الغاز البين نجمي فيما بعد.
•••
لا بد من حدوث ذلك — إما عاجلًا أو آجلًا — في ظل السير الطبيعي للأحداث، ولن يتطلب الأمر قيام «بيل» بأي عمل. فعملية كهذه قد تتم بالاعتماد على قوانين الجاذبية البسيطة لنيوتن وأينشتاين؛ تلك القوانين التي لم يرَ «عظماء المجرة» أي داعٍ لتغييرها.
وكما أشرنا سيحدث ذلك «عاجلًا أو آجلًا»، لكن «عظماء المجرة» يفضلون حدوثه عاجلًا. وقد اتخذ «بيل» قرارًا بتسريع هذه العملية. فتفقَّد حيزًا كبيرًا من الفضاء المجاور، وحالفه الحظ في العثور على مجرى رفيع جدًّا من مادة مظلمة قريبة … فوجَّهه ليصب في أرضه … وكان سعيدًا بما حققه. فإنجاز العمل بسرعة كان أحد الأهداف الرئيسية لدى عظماء المجرة.
وما هذا الهدف؟
ليس ثمة وسيلة للتعبير عن الهدف باستخدام مصطلحات يمكن للبشر فهمها، لكن إحدى خطوات تحقيقه هي زيادة نسبة العناصر الثقيلة إلى الخفيفة، وفي هذه الحالة تضم كلمة «ثقيلة» تلك العناصر التي تحتوي على نحو عشرين بروتونًا على الأقل في أنويتها إضافة إلى حشد من النيوترونات. مما يعني أنه تم الإغفال تمامًا عن نوعية العناصر التي تمثل أساس نشأة الكون.
ربما يستغرق تحويل كل هذه العناصر الخفيفة إلى عناصر ثقيلة جهدًا كبيرًا ووقتًا هائلًا … لكن الوقت في نهاية الأمر مِلْك لعظماء المجرة.