بذور الأمل
لم يبدأ رانجيت حلقته الدراسية التالية في الجامعة بشرح فرضية جولدباخ. إذ اقترحت عليه مايرا فكرة مختلفة وهو الذي اعتاد الاستماع لنصائحها.
قضى رانجيت معظم الساعة الأولى في أول يوم التقى فيه بطلابه في إرساء القواعد التي سيسيرون عليها، فأجاب عن الأسئلة الخاصة بسياساته في وضع الاختبارات ورصد الدرجات، وعرفهم على الأيام التي يمكن إلغاء المحاضرة فيها لأسباب خاصة، وتعرف على بعض الطلاب. ثم سألهم: «من منكم يستطيع تعريف العدد الأولي؟»
كاد جميع الطلبة في القاعة يرفعون أياديهم. وستة منهم لم ينتظروا إشارة رانجيت لهم بل رفعوا أصواتهم بالإجابة عن السؤال مستخدمين صيغًا مختلفة: عدد لا يقبل القسمة — دون باقٍ — إلا على نفسه وعلى الواحد الصحيح.
كانت بداية مبشرة. فقال رانجيت: «رائع. إذن فالعدد اثنان عدد أولي، والعدد ثلاثة عدد أولي، لكن العدد أربعة يقبل القسمة على نفسه وعلى الواحد وعلى الاثنين. ولذا فإنه ليس عددًا أوليًّا. السؤال التالي: كيف نحصل على الأعداد الأولية؟»
سرت همهمة في القاعة، لكن لم يرفع أحد من الطلاب يده في الحال. ابتسم رانجيت لطلابه. وقال: «أهو سؤال صعب؟ هناك الكثير من الطرق المختصرة التي اقترحها بعض الأشخاص، لكن العديد منها يتطلب أجهزة كمبيوتر كبيرة. أما الطريقة الوحيدة التي لا تتطلب سوى عقل بشري ويد وشيء للكتابة — لكن نتيجتها مضمونة في الحصول على جميع الأعداد الأولية الموجودة في أي سلسلة من الأعداد — فتعرف باسم منْخل إيراتوسثينيز. ويمكن لأي شخص استخدام المنْخل. بمعنى أن هذا بمقدور أي شخص يحظى بالكثير من وقت الفراغ.
استدار رانجيت وشرع في كتابة صف من الأعداد يبدأ بالعدد واحد وينتهي بالرقم عشرين على السبورة البيضاء. أوضح رانجيت وهو يكتب الأعداد قائلًا: «إليكم أبيات شعرية تذكيرية لتساعدكم على حفظها:
واصل رانجيت قوله: «هذه هي طريقة عمله. انظروا إلى قائمة الأعداد. تجاهلوا العدد واحدًا؛ فثمة اتفاق عام بين واضعي نظريات الأعداد على تجاهُل العدد واحد وعدم اعتباره عددًا أوليًّا؛ لأن خللًا تامًّا يكاد يصيب جميع النظريات الخاصة بالأعداد إذا تضمنت العدد واحدًا. وهكذا يكون أول عدد في القائمة هو العدد اثنان. سوف نمر على صف الأعداد الآن، ونشطب جميع الأعداد الزوجية. ونقصد بها الأعداد التي تقبل القسمة على اثنين؛ التالية على العدد اثنين نفسه سوف نجد أربعة وستة وثمانية إلى آخره.» فعل رانجيت هذا. ثم أضاف قائلًا: «أصغر عدد تبقى لدينا بعد العدد اثنين وبعد العدد واحد الذي تجاهلناه هو العدد ثلاثة؛ لذا سنقوم بشطب العدد تسعة وكل عدد تالٍ يقبل القسمة على ثلاثة. إذن الأعداد المتبقية هي اثنان وثلاثة وخمسة وسبعة وأحد عشر إلى آخره. وهكذا تكونون قد حصلتم على قائمة بالأعداد الأولية.»
«حصلنا على الأعداد الأولية حتى الرقم عشرين فقط؛ لأن يدي تؤلمني عندما أكتب سلسلة أعداد أطول، لكن يمكن تطبيق هذه الطريقة على أي عدد من الأرقام. إذا كتبتم أول تسعين ألف رقم — أي جميع الأعداد من واحد إلى تسعين ألفًا — فإن آخر عدد يتبقى لديكم يكون هو العدد الأولي رقم ألف، وتكونون قد كتبتم جميع الأعداد الأولية التي تسبقه أيضًا.»
ألقى رانجيت نظرة على ساعة الحائط مثلما رأى معظم أساتذته يفعلون وقال: «لأن المحاضرة ستستمر ثلاث ساعات فسوف أمنحكم راحة مدتها عشر دقائق. مددوا أرجلكم، واقضوا حوائجكم، وتحدثوا مع زملائكم؛ افعلوا كل ما تريدون لكن عودوا إلى أماكنكم عندما تنتصف الساعة؛ فعندئذٍ سنبدأ العمل الفعلي للحلقة الدراسية.»
لم ينتظر رانجيت انتشار الطلاب، وإنما عبر بسرعة الباب الخصوصي المؤدي إلى مكاتب أعضاء هيئة التدريس في آخر الردهة. قضى رانجيت حاجته متبعًا نصيحة إحدى ملكات إنجلترا لرعاياها — حسبما ورد في إحدى الأساطير — بأن يقضوا حاجتهم كلما أتيحت لهم الفرصة، وبسرعة اتصل بالمنزل. سألت مايرا: «كيف تسير الأمور؟»
أجابها صادقًا: «لا أدري. لم يُحدثوا جلبة إلى الآن، لكن البعض منهم رفع يده للإجابة عما طرحت من أسئلة.» فكر رانجيت هنيهة. وأردف قائلًا: «يمكنك أن تقولي إني متفائل ولكن على حذر.»
قالت زوجته: «لستُ مثلك. أعني أني لست حذرة في تفاؤلي. أظن أنك ستثير إعجابهم الشديد، وسنحتفل بذلك عندما تعود إلى المنزل.»
•••
عندما عاد رانجيت إلى المنصة قبل دقيقة من انتصاف الساعة وجد جميع الطلاب في أماكنهم. فحداه الأمل أن تكون هذه إشارة جيدة، وبدأ الحديث على الفور.
سأل رانجيت بلا مقدمات: «ما عدد الأعداد الأولية؟»
هذه المرة أبطأ الطلاب في رفع أياديهم، لكن جميعهم تقريبًا رفع يده في النهاية. أشار رانجيت لفتاة في الصف الأول. فوقفت وقالت: «أظن أن هناك عددًا لا نهائي من الأعداد الأولية، يا سيدي.» لكن عندما سألها رانجيت لِمَ تظن ذلك، بدا عليها الإحراج، وجلست دون أن تجيب عن السؤال.
رفع طالب — يفوق الآخرين سنًّا — صوته قائلًا: «لقد أثبتوا ذلك!»
وافق رانجيت: «هذا صحيح بالفعل. إذا كتبت قائمة بالأعداد الأولية — بصرف النظر عن عدد ما تشتمل عليه القائمة من أعداد وعن أكبر عدد فيها — فستوجد دائمًا أعداد أولية أخرى لم تدرج في القائمة.»
«ولمزيد من التوضيح، سوف نفترض أننا نجهل كل شيء عن الأعداد؛ ولذا سنفترض أن آخر رقم في هذه القائمة — الرقم تسعة عشر — هو أكبر عدد أولي يمكن الحصول عليه. وهكذا سنعد قائمة بجميع الأعداد الأولية الأقل من تسعة عشر — أي بدءًا من العدد اثنين وحتى الرقم سبعة عشر — ونضربها بعضها في بعضها. على هذه الصورة: اثنين في ثلاثة في خمسة إلى آخره. سوف نتمكن من القيام بذلك — على الرغم من جهلنا التام — لأن لدينا آلة حاسبة رائعة.»
توقف رانجيت هنيهة ضحك فيها الطلاب، ثم واصل الشرح. استطرد: «الآن أجرينا عملية الضرب، وحصلنا على الناتج. سوف نضيف العدد واحدًا إلى هذا الناتج لنحصل على عدد آخر سنطلق عليه (ن). ما الذي نعرفه عن هذا العدد (ن)؟ نعرف أنه ربما يكون هو نفسه عددًا أوليًّا؛ لأنه كما أشرنا في التعريف إذا أجرينا عملية قسمة على هذه الأعداد فسوف يتبقى واحد بعد ناتج القسمة. وإذا صادف كون هذا العدد مركبًا، فلن تجد أيًّا من عوامله على هذه القائمة للسبب نفسه.»
«وبذلك نكون قد أثبتنا أنه بصرف النظر عن عدد الأعداد الأولية في قائمة من الأعداد فإن هناك دائمًا أعدادًا أولية أكبر غير موجودة في القائمة، إذن هناك عدد لا نهائي من الأعداد الأولية.» توقف رانجيت ليلقي نظرة على الطلاب. ثم سألهم: «أتعرفون من الذي توصل إلى هذا الإثبات؟»
لم يرفع أحد من الطلاب يده غير أنهم رفعوا أصواتهم بأسماء مختلفة: «جاوس؟» «أويلر؟» «لوباتشفيسكي؟» ثم قال طالب في الصف الأخير: «صديقك القديم فيرما؟»
ابتسم رانجيت لهم ابتسامة عريضة. وقال: «كلَّا، ليس فيرما ولا أي شخص من هؤلاء الذين ذكرتم أسماءهم. يرجع تاريخ البرهان إلى ما قبل ذلك. ربما إلى عهد إيراتوسثينيز، لكن ليس تمامًا. صاحب الإثبات يُدعى إقليدس، وقد توصل إليه حوالي سنة ٣٠٠ قبل الميلاد.»
ثم رفع رانجيت يده بطريقة حذرة ودودة. وقال: «دعوني أريكم شيئًا آخر. انظروا إلى قائمة الأعداد الأولية. لاحظوا كم مرة يتكرر وجود عددين أوليين هما في الأصل عددان فرديان متتاليان. تسمى هذه الأعداد أزواجًا أولية. أيستطيع أحدكم أن يخمن كم عدد الأزواج الأولية؟»
سرت همهمات خفيفة في القاعة لكن دون أن يتكلم أحد إلى أن تشجع أحد الطلاب وقال: «عدد لا نهائي؟»
قال رانجيت: «بالضبط. هناك عدد لا نهائي من الأزواج الأولية … وواجبكم المنزلي هو البحث عن برهان لذلك.»
أثناء تناول العشاء تلك الليلة لاحظت مايرا شعورًا عفويًّا بالابتهاج لم تره على رانجيت منذ فترة. قال رانجيت للأسرة: «إنهم يمازحونني. سوف أنجح هذه المرة!»
ردت زوجته: «بكل تأكيد. لم يراودني الشك في ذلك. ولا تاشي أيضًا.»
والواقع أن ناتاشا الصغيرة — بعد أن سُمِح لها بالانضمام إلى الكبار على المائدة — بدت مصغية بانتباه وهي تجلس فوق كرسي الأطفال عندما دخل كبير الخدم. سألت السيدة فورهولست: «ما الأمر فيجاي؟ تبدو قلقًا. أهناك مشكلة في الأسفل؟»
هز كبير الخدم رأسه. وقال: «ليس في الأسفل سيدتي. لكن نشرات الأخبار تذيع نبأً أظن أنه سيحوذ اهتمامك. وقع هجوم آخر باستخدام الرعد الصامت في أمريكا الجنوبية.»
•••
لم يسفر الهجوم هذه المرة عن عودة دولة واحدة إلى ما قبل العصر الإلكتروني. بل شمل الهجوم دولتين دفعة واحدة. لم يعد هناك هاتف يرن أو مصباح يضيء عند الضغط على المفتاح الكهربائي أو تليفزيون يعرض صورة في أي مكان في فنزويلا وكولومبيا.
وهكذا استكمل أفراد الأسرة طعامهم وقد أخذ الحديث عن حلقة رانجيت الدراسية وحتى عن براعة ناتاشا في استخدام ملعقتها اهتمامًا أقل منهم. كانت شاشات التليفزيون داخل الغرفة تبث الأخبار على الرغم من أنه لم يكن مسموحًا من قبل بتشغيلها أثناء تناول الطعام ظنًّا من السيدة فورهولست أن هذا تصرف غير لائق.
ومثلما حدث مع كوريا عُرِضَت بضعة مشاهد من داخل الدولتين اللتين تعرضتا للغزو حديثًا؛ لأن جميع المرافق المحلية باتت حينئذٍ مظلمة تمامًا. كانت شاشات التليفزيون تعرض بضع صور غير تفصيلية لطائرات شحن — من نوعية طائرات الإقلاع والهبوط القصير التي يمكنها تفادي الطائرات المعطلة فوق مدارج المطار — تابعة لمنظمة السلام عن طريق الشفافية تُقل نفس الجنود والمعدات التي انتشرت من قبل على حدود كوريا الشمالية. أكثر ما كان يعرضه التليفزيون هو أشخاص يقولون نفس الكلام الذي سبق قوله عن كوريا إلى جانب لقطات أرشيفية كثيرة تصور الأحداث التي أدت إلى وقوع هذه الكارثة.
لم يحمل القرن الحادي والعشرين الخير لأيٍّ من الدولتين. كان هناك مشكلات سياسية في فنزويلا ومشكلة المخدرات في كولومبيا؛ شهدت كلتا الدولتين أعمال عنف وأزمات حكومية متكررة انتهت بقرار زعماء المخدرات السابقين الاستيلاء على بعض حقول النفط التابعة للدولة المجاورة أملًا في جني أرباح أعلى.
قال رانجيت لزوجته: «شنت منظمة السلام عن طريق الشفافية هجومها الأول على كوريا الشمالية إذ لم يكن لها صديق حقيقي في العالم. بينما شنت هجومها هذه المرة على دولتين في آنٍ واحد لأن لكل منهما دولًا صديقة تختلف عن الأخرى؛ فالولايات المتحدة تدعم كولومبيا منذ التسعينيات، بينما ترتبط فنزويلا بعلاقات وطيدة مع كل من الصين وروسيا.»
قالت السيدة فورهولست وهي تفكر في تمعن: «لكن عدد الضحايا أقل بكثير هذه المرة. لا يمكنني الشعور بالاستياء لذلك.»
تنهدت مايرا. وتساءلت: «لكن أتظنون أننا سنكون أفضل حالًا عندما تتحكم أوشينيا وأوراسيا وإيستاسيا في العالم كله؟»