الفصل الثالث

مغامرة في فك الشفرة

كانت عطلة الصيف التي تفصل نهاية عام رانجيت الأول في الجامعة عن بداية عامه الثاني تبلغ قرابة الشهرين. ما زال معظم أعضاء هيئة التدريس بالجامعة يعتبرون هذا التغيير في الجدول الزمني للدراسة تجربة جديدة تمامًا. فحتى وقت قريب لم تكن الجامعة تسمح بعطلة الصيف مطلقًا على أساس أن سريلانكا لا تشهد تغيرًا في فصول السنة على الإطلاق بسبب قربها من خط الاستواء. لكن احتجاج الطلاب طوال بضع سنوات — فضلًا عن إدراك الجامعة لحاجة الشباب في هذه السن إلى الانقطاع عن العلم بين حين وآخر — دفع الجامعة إلى تجربة النظم المعمول بها لدى الجامعات الغربية.

لم تُثبت هذه التجربة نجاحًا في نظر رانجيت. هذا لأن جاميني كان بعيدًا؛ ولذا لم يكن أمامه أحد يشاركه الاستمتاع بالعطلة، فضلًا عن أن أخبار العالم ظلت سيئة كما هي.

ومما زاد الأمر سوءًا أن الأوضاع بدت مبشرة فترة ما. كان من المقرر عقد اجتماع للقوى العظمى من أجل نزع فتيل عدد من الحروب الطاحنة في العالم. بدا هذا الإعلان كأنه تطور مبشِّر، لكن اختيار مقر انعقاد الاجتماع لم يجرِ كما كان مرجوًّا. اقترحت روسيا عقد الاجتماع في كييف عاصمة أوكرانيا، غير أنه أثناء التصويت خسرت كييف بصوتين مقابل صوت واحد. قدمت الصين اقتراحًا بعقد الاجتماع في مدينة هو تشي مينه في فيتنام لكنها خسرت هي الأخرى بالفارق نفسه. وهكذا كان حال الاقتراح الأمريكي المتمثل في مدينة فانكوفر بكندا. وهو ما أدى إلى مغادرة ممثلي الصين لمقر الأمم المتحدة محتدِّين ومصرحين بأن قوى الغرب ليست مهتمة حقيقةً بالسلام العالمي.

كان المفوِّضون الأمريكيون والروس قد توقعوا حدوث ذلك، وأعدوا خطة للتعامل معه. وفي بيانات مشتركة ندد الأمريكيون والروس بإخفاق الصين في إخضاع غرورها القومي لمتطلبات السلام، وأعلنوا عزمهم على أن ينحُّوا منازعاتهم — التي طالما صرحوا بها والتي لا سبيل إلى تسويتها — جانبًا حتى يتسنى لهم مواصلة الاجتماع من دون مشاركة الصين.

وقع الاختيار على مدينة ستوكهولم الخلابة عاصمة السويد التي يشار إليها باسم فينيسيا الشمال. وكادت مساعيهم أن تنجح. فقد اتفقوا على الضرورة الملحَّة لوضع نهاية عاجلة للصراع القائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبين الأقليات المسلمة والمسيحية في يوغسلافيا وبين الإكوادور وكولومبيا وبين أي دولتين تشنان حربًا — معلَنةً أم غير معلنة — إحداهما على الأخرى في أي مكان في العالم. كان هناك العديد من الدول المتناحرة، ولم يكن هناك أدنى شك في أن إطلاق عدد من الصواريخ في المكان المناسب ربما يكفل إنهاء القتال. واتفق الأمريكيون والروس على أن أداء هذه المهمة هو واجب أساسي أُلقي على عاتقهم باعتبار أنهم أكبر قوتين في العالم.

لكنهم أخفقوا في الاتفاق على أمر واحد. وهو تحديد الدولة التي ستُوَجَّه إليها الصواريخ من بين الدولتين المتناحرتين.

•••

قرر رانجيت سوبرامانيان أن يبذل قصارى جهده في تجاهل هذا الأمر برمته. إذ كان من شأنه أن يفسد عليه عطلته التي كانت في نظره وقتًا مفضلًا لا يرتبط بخطط معينة؛ مما يعني أن بوسعه القيام بأي شيء يرغب فيه تقريبًا، وبالفعل حدد رانجيت ما سيقوم به. لكنه عندما دخل على الدكتور كريستوفر داباري في مكتبه، أبدى أستاذ الرياضيات استياءه. إذ قال: «إذا كنت لم أسمح لك باستخدام كلمة المرور الخاصة بي أثناء العام الدراسي، فمن أين أتتك هذه الفكرة الجنونية بأني قد أسمح لك باستخدامها وأنا في الكويت؟»

نظر إليه رانجيت في دهشة. وتساءل: «الكويت؟»

قال داباري موضحًا: «أنا متعاقد على تدريس دورات صيفية كل عام لأبناء شيوخ العرب الأثرياء مقابل أجر أعلى مما أتلقاه وأنا أكرر عليكم الحقائق الرياضية المبسطة مرارًا وتكرارًا علَّكم تستوعبونها.»

حينئذٍ اكتفى رانجيت — الذي كان يفكر بسرعة — بقوله: «أرجو المعذرة. لم أكن أعرف بأمر سفرك. أتمنى لك رحلة سعيدة»، ثم خرج من المكتب متوجهًا إلى أقرب كمبيوتر. إذا لم يكن الدكتور داباري اللعين مستعدًّا للتخلي عن كلمة المرور الخاصة به طواعية، فلا بد من وجود سبيل آخر. ثمة نوع من الفرص يتاح على وجه التحديد عندما يسعى أحد المدرسين إلى كسب المال على مسافة ألفي كيلومتر وعلى الفور اختمرت في عقل رانجيت خطة لاقتناص هذه الفرصة.

كانت الخطوة الأولى في الخطة سهلة. فكل عضو من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة لديه سيرة ذاتية موجزة محفوظة في أحد الملفات. استغرق رانجيت دقيقة في استخراج ملف الدكتور داباري. وبعد عشر دقائق أخرى كان رانجيت يبتعد عن المكان وقد طوى في جيبه ورقة مطبوعة فيها بداية خصبة لكل البيانات الأولية التي يحتاج إليها مثل تاريخ ميلاد الدكتور داباري، ورقم تليفونه الداخلي، وعنوان بريده الإلكتروني، ورقم جواز سفره، واسم زوجته، وأسماء والديه ووالدي زوجته، بل واسم جده لأبيه إذ إنه شغل منصب عمدة إحدى المدن الصغيرة في الجنوب ذات مرة. هذا بالإضافة إلى اسم كلبه — ميلي — وعنوان منزله على شاطئ مدينة أبوفيلي. لم تكن هذه كل المعلومات المطلوبة. ومن المؤكد أنها ليست كافية. لكنها تكفي بلا شك للبدء.

كان السؤال المطروح: أين يمكن أن يجد مكانًا لتشغيل البرامج اللازمة فيه؟

لا شك أن أي جهاز كمبيوتر من الأجهزة التي اعتاد استخدامها لأداء واجباته في الجامعة لن يفي بالغرض. هذا لأنها كانت مكشوفة أمام الجميع. كان رانجيت واثقًا أنه عندما ينتهي من برمجة الكمبيوتر لتنفيذ المهمة التي هو بصددها فسوف يحتاج الجهاز وقتًا طويلًا لإجراء جميع التوافيق والتباديل المطلوبة. فأراد أن ينأى بنفسه عن تساؤلات المارة عما يحدث على جهاز الكمبيوتر.

لكنه يعرف مكانًا مثاليًّا! ذلك المكان الذي اكتشفه هو وجاميني في كلية القانون المحلي التي لم يكتمل بناؤها!

غير أنه تلقى صدمة عندما وصل إلى هناك. دخل رانجيت من الطريق الخلفي الذي اعتاد أن يسلكه هو وجاميني، وشعر بسعادة عندما رأى أن جهازَي الكمبيوتر لا يزالان في مكانهما، وأنهما أضاءا في الحال عندما ضغط زر التشغيل. لكن أذنه التقطت أصوات موسيقى بعيدة — تلك الموسيقى النشاز التي شاعت هذه السنة والتي لم تنل إعجابه هو وجاميني — وعندما اختلس النظر داخل قاعة الاستقبال، رأى موظفة الاستقبال الحالية. كانت سيدة مسنة ممتلئة القوام إلى حد ما. كانت تعد لنفسها كوبًا من الشاي تحتسيه أثناء تصفح «مجلة» خاصة تُباع في السوبرماركت.

كانت موظفة الاستقبال على ما يبدو مرهفة السمع. إذ نظرت على الفور إلى المكان الذي يختبئ فيه رانجيت. وصاحت: «مرحبًا، هل هناك أحد؟»

ولبعض الوقت فكر رانجيت أنه سيضطر للبحث عن مكان مثالي آخر لتنفيذ خطته، لكن اتضح أن موظفة الاستقبال لا تعتبر التحقق من هوية رواد المكان من بين مسئولياتها. قالت موظفة الاستقبال إنها تُدعى السيدة وانياراتشي. (وأجابها رانجيت مختلقًا لنفسه اسم سوميل بانداراناجا). عبَّرت عن سعادتها بأن تكون بصحبة أحد داخل المكتبة لأنها تشعر بالوحشة في بعض الأحيان. وبالطبع تساءلت هل السيد بانداراناجا درس الأديان المقارنة كتخصص فرعي على الأقل؟ وأكد لها رانجيت أنه فعل ذلك، وكان هذا كل ما احتاجت إليه. لوَّحت له السيدة وانياراتشي في مودة، وعادت مرة أخرى إلى مجلة النميمة التي كانت تقرؤها، وأصبح رانجيت حرًّا داخل المكتبة.

لم يتغير شيء على الإطلاق. فما زال جهازا الكمبيوتر جاهزين للعمل، ولم يستغرق رانجيت وقتًا طويلًا في تثبيت برنامجه وإدخال البيانات التي جمعها. وبينما يهم رانجيت بمغادرة المكان قالت السيدة — التي كانت تقف وترتدي معطفها الواقي من المطر — بنبرة متكاسلة: «أطفأتَ كل شيء، أليس كذلك؟»

طمأنها رانجيت قائلًا: «نعم، بالتأكيد.» والواقع أنه لم يفعل، لكن الكمبيوتر سيتوقف عن التشغيل تلقائيًّا عندما يجد كلمة المرور التي كان يبحث عنها رانجيت أو عندما يخلص إلى أنه لا يمكن استخراج كلمة المرور من البيانات التي أُدخلت إليه. وهو ما سيعرفه رانجيت في الصباح.

***

في صباح اليوم التالي، وكما توقع، لم يحصل رانجيت على نتيجة.

لم تكن هناك معلومات كافية يستطيع البرنامج من خلالها أداء المهمة. حينئذٍ كان رانجيت قد حصل على المزيد من المعلومات بعد أن قضى ساعة من الليل — ارتدى خلالها الملابس الرثة لجامعي القمامة — في جمع كل المخلفات التي وضعها أهل منزل الدكتور داباري ليحملها جامعو القمامة الحقيقيون. لم يكن معظم ما حصل عليه رانجيت عديم الفائدة فحسب، بل كان كريه الرائحة أيضًا، لكنه وجد العديد من الأوراق مثل كشوف حساب من متاجر وموردي خدمات مختلفين، وعروض لرحلات وتأجير سيارات وتسهيلات قروض لدى بنوك إلكترونية، وأفضل من هذا كله مجموعة خطابات شخصية. ولسوء الحظ كان معظم هذه الخطابات مكتوبًا باللغة الألمانية باعتبارها لغة الدولة التي درس فيها الدكتور داباري بعض مقررات الدراسات العليا، وهي لغة تتساوى في إبهامها لدى رانجيت مع لغة جماعات إينويت أو تشوكتاو. لكن من بين الخطابات المكتوبة باللغة الإنجليزية أو السنهالية استخلص رانجيت رقم رخصة قيادة داباري، وطوله الدقيق بالسنتيمتر، ورقم التعريف الشخصي الخاص ببطاقة ماكينة الصراف الآلي. (ألن يكون من العدل أن يأخذ رانجيت نحو ألف روبية مقابل المشكلات التي كان يسببها له أستاذ الرياضيات؟ كلَّا، قرر رانجيت أن عملًا كهذا لن يكون من العدل. هذا الأمر مخالف للقانون. ولكن كان التفكير فيه ممتعًا.)

بالطبع كان الكمبيوتر قد انتهى من التباديل الممكن تجربتها منذ وقت طويل؛ ولذا توقف عن العمل. كتب رانجيت جميع البيانات الجديدة، وضغط زر الإدخال، ثم غادر مرة أخرى. صحيح أنه كان يعزل نفسه عن عالم الواقع. لكن من الواضح أن عالم الواقع ليس لديه الكثير ليقدمه إلى فتًى تاميلي بلا أصدقاء وبلا أب مؤقتًا على الأقل.

لكن عندما وصل رانجيت إلى غرفته لينال قسطًا من النوم تأخر عن موعده كثيرًا، وجد في انتظاره شيئًا أشاع السرور في نفسه باقي اليوم. كان هذا خطابًا من جاميني وعليه ختم بريد لندن.

عزيزي رانجيت:

وصلت سالمًا ولكن منهك القوى تمامًا. استغرقت الرحلة تسع ساعات — شاملة تغيير الطائرة مرتين — لكن عندما وصلت إلى لندن لم يكن قد مر سوى أربع ساعات ونصف نظرًا إلى فارق التوقيت، وهذا يعني أن أمامي ثماني ساعات أخرى تقريبًا قبل أن أتمكن من الخلود إلى النوم، وكنت مرهقًا جدًّا. أفتقدك كثيرًا.

استغرق جاميني وقتًا طويلًا قبل أن يكتب عبارته الأخيرة السارة، لكن ها هي هناك بالفعل. قضى رانجيت وقتًا طويلًا في قراءة تلك العبارة ثلاثًا أو أربع مرات قبل أن ينتقل إلى باقي الخطاب الذي كان حافلًا بالأخبار لكنه لم يكن شخصيًّا إلى حد بعيد. المقررات الدراسية شيقة لكن ربما تحتاج إلى جهد أكبر مما كان يود جاميني. وبطبيعة الحال فإن الطعام في كلية لندن بغيض، لكن هناك الكثير من مطاعم الوجبات الهندية الجاهزة في كل مكان بعضها يتميز بإضافة الكاري إلى الطعام. لم يكن السكن الجامعي أفضل حالًا من الطعام أيضًا، لكن جاميني ليس مضطرًّا إلى البقاء فيه إلى الأبد. فما إن يحصل على الضوء الأخضر من محاميِّي والده في لندن سيوقع عقد إيجار لما يسميه مالك العقار «شقة فاخرة» تفصلها عن معظم قاعات دروسه خمس دقائق سيرًا على الأقدام. فكر رانجيت — وهو ينظر حوله بلا استمتاع في أرجاء غرفته الموحشة — في أن أشياء كهذه لا تحدث للمرء إلا عندما يحالفه كثير من الحظ ويكون والده ثريًّا. أخبر جاميني رانجيت أنه سيشعر بسعادة غامرة إذا ذهب إلى هناك؛ لأن الكلية تبعد نحو عشر دقائق عن مجمع المسارح والمطاعم في ميدان ليستر سكوير. وأضاف أنه وجد متسعًا من الوقت لمشاهدة عرض لمسرحية «تمسكنَتْ حتى تمكنَتْ» ومسرحيتين موسيقيتين.

وهكذا فإن جاميني باندارا — على الرغم من بُعده مسافة تسعة آلاف كيلومتر — يقضي وقتًا ممتعًا.

تنهَّد رانجيت، وقضى دقيقة شعر خلالها بالسعادة — أو على الأقل قال لنفسه إنه سعيد — لأن صديقه الغائب في أحسن حال، ثم تسلل إلى فراشه الموحش، وراح في النوم.

•••

قضى رانجيت وقتًا طويلًا قبل أن يتمكن من حل الشفرة — في الواقع قضى أحد عشر يومًا كان يقتطع جزءًا طويلًا من كل يوم فيها في البحث عن بيانات إضافية محتملة أو في ابتكار سبل جديدة يقوم الكمبيوتر عن طريقها بدمج هذه البيانات وتوفيقها. لكنه دخل ذات صباح — متوقعًا ألا يحصل على شيء — فإذا بسعادة غامرة تملأ نفسه وهو يرى شاشة الكمبيوتر تحمل عبارة «جرى تحديد كلمة مرور الدكتور داباري.» اتضح أن كلمة المرور هي شعار جامعة كولومبو — Buddhih Sarvatra Bhrajate — ومعناه «الحكمة تسطع في كل مكان» يتخلله تاريخ ميلاد زوجته مقسومًا إلى جزأين وسط العبارة:
Buddhih.4-14.Sarvatra.1984.Bhrajate

حينئذٍ بات عالَم الوثائق الرياضية مفتوحًا على مصراعيه أمام رانجيت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤