ذهبية ناتاشا
ذهبت ناتاشا إلى سطح القمر هي الأخرى.
بالتأكيد لم يحدث ذلك على الفور. فهناك أمور كثيرة كان لا بد من القيام بها قبل تنظيم أول أولمبياد على سطح القمر، على سبيل المثال لا بد من عمل ترتيبات على سطح القمر من أجل تهيئته وترتيبات أكثر على مصعد الفضاء ليتمكن على الأقل من نقل الركاب ولديهم قدر معقول من الأمل أنهم سيصلون إلى هناك أحياءً. الآن يقرأ رانجيت التقارير التي تصل إليه بنهم بعد أن صارت ثرية بالمعلومات مسترجعًا كل مشاعر الحماسة التي أيقظها يوريس فورهولست في نفسه تجاه السفر إلى الفضاء.
ولحسن الحظ اتخذت حياة رانجيت منعطفًا نحو الأفضل بما يحقق له راحة البال. فاستخدام «الرعد الصامت» للمرة الثانية حجَّم نفوذ عدد من قادة العالم المتعنتين. فضلًا عن أن حلقاته الدراسية حافظت على نجاحها نجاحًا استمر معه رضا الدكتور دافودبوي عنه، وظلت أسرته الصغيرة مصدرًا دائمًا لإشاعة البهجة في نفسه.
اختصَّت ناتاشا على وجه التحديد بقدر كبير من هذه البهجة. لم يكن ترقب السنوات القليلة التي باتت تفصلها عن الالتحاق بالجامعة مشكلة في حد ذاته، ولكن هناك الأولمبياد الذي سيقام على سطح القمر كما وعدها الدكتور فورهولست. ولم يكن التدريب من أجل هذا النوع من الأولمبياد سهلًا. فهو يجعل تدريب اللاعبين من أجل المشاركة في أية مسابقة أولمبية على كوكب الأرض أشبه بقضاء عشر دقائق في تمرينات الصباح للتخلص من الدهون المتراكمة حول الخصر.
لا شك أن ناتاشا لم تكن الوحيدة التي تتدرب من أجل المشاركة في هذا الحدث الرياضي الذي لم يسبق له مثيل. ففي جميع أنحاء العالم كان صغار اللاعبين يتساءلون هل سيستطيعون الوصول إلى مستوى من اللياقة يمكنهم من المشاركة في سباق الطيران. ولأن عملية التدريب لا بد أن تتم في وجود الجاذبية الأرضية التي لا سبيل للتخلص منها فسيلزم توفر قدر كبير من البراعة في التعامل مع هذا الأمر.
هناك سبيلان للتعامل مع مشكلة الطيران المعتمد على القوة العضلية. فهواة ركوب المناطيد فكروا في استخدام أكياس غاز ذات أشكال مختلفة لتدعيم اللاعب أثناء الطيران بما يساعده على استخدام كل قوته العضلية في تدوير مروحة الطيران دون الحاجة إلى بذل أي جهد ليبقى محلقًا في الهواء. بينما فَضَّلَ هواة التحليق بالدراجات أن يعتمدوا على عضلاتهم فقط في عمل كل شيء. فهم يرون أن مصنِّعي المعدات الرياضية تمكنوا في وقت قصير من ابتكار معدات تعتمد في حركتها على المراوح. وبفضل أنابيب النانو المكونة من جزيئات الكربون ٦٠ — وهي الجزيئات التي حولت حلم مصعد الفضاء بوصفه وسيلة للانتقال إلى واقع ملموس — فإن هذه المعدات كانت خفيفة للغاية لدرجة أنه يمكن رفعها بيد واحدة حتى على سطح الأرض، وعلى سطح القمر باستخدام إصبع واحد!
لم يتوفر لأيٍّ من هؤلاء الرياضيين الطموحين مكان فعلي للتدريب تساوي جاذبيته سدس الجاذبية على سطح الأرض. فكان لا بد لهم من بذل قصارى جهدهم، وهو ما تضمن في أغلب الأحيان استخدام معدات ذات ثقل موازن لتوفير نفس الجاذبية الموجودة على سطح القمر. وهذا يعني أن الأمر لم يكن يتطلب براعة فحسب. وإنما الكثير من المال أيضًا.
كانت تكلفة هذه المعدات تتعدى بفارق كبير القدرة الشرائية لأستاذ جامعي، ولهذه الأسباب حظيت احتياجات ناتاشا بدعم كبير من ذوي النفوذ في سريلانكا. حتى إن هؤلاء الذين ليس لديهم اهتمام محدد بالأحداث الرياضية وجدوا متعة في لفت الانتباه إلى أن سريلانكا باتت بوابة العالم للعبور إلى الفضاء. وهكذا تكفل هؤلاء بتوفير الأموال اللازمة، وبُنِيَت على أطراف مدينة كولومبو صالة تمرينات فسيحة تعادل جاذبيتها الجاذبية على سطح القمر. وهناك تدربت ناتاشا على ركوب الدراجات في الهواء حسبما راقَها.
لم يفصل صالة التمرينات عن منزل سوبرامانيان سوى عشر دقائق بالسيارة؛ ولذا كانت أسرة ناتاشا موجودة دائمًا لمشاهدتها أثناء التمرين. في بعض الأحيان كان الأمر يتعدى مجرد المشاهدة؛ فقد أُعجب روبرت بمشاهدة أخته الكبرى وهي تشق طريقها عبر «سماء» صالة الألعاب، وأُعجب أكثر بالوقت القليل الذي كان يُسمح له فيه باستخدام المعدات في نهاية التمرين. وهكذا حصل روبرت على فرصته في الطيران هو الآخر.
وبالتأكيد لم تكن ناتاشا الوحيدة التي حظيت بفرصة الاستفادة من صالة الألعاب ذات الجاذبية المنخفضة. فقد تقدم مرشحون مفعمون بالأمل من كافة أنحاء الجزيرة بطلب للحصول على فرصة في تجربة مهاراتهم فيما يتعلق باستخدام هذه المعدات، وحظي أكثر من ثلاثين شخصًا منهم بهذه الفرصة. لكن ناتاشا سوبرامانيان كانت تتفوق على جميع المنافسين دائمًا.
وفي اليوم الذي تجمع فيه الفريق السريلانكي عند محطة مصعد الفضاء لينتقلوا إلى خوض أولى تجاربهم في الفضاء كانت آمال فوز الجزيرة معقودة على ناتاشا.
•••
شهقت مايرا عندما ألقت نظرة على الأسعار التي تعلن عنها الشركات السياحية من أجل الأولمبياد المقام على سطح القمر. وشكت إلى رانجيت قائلة وهي تضع إحدى يديها على قلبها: «أوه، يا رانجيت. لا يمكننا ترك تاشي تشارك في هذا السباق دون أن نكون معها هناك، لكن كيف يمكننا الذهاب؟»
أسرع رانجيت — الذي لم يتوقع أقل من ذلك — إلى طمأنتها. وأخبرها أن أُسَر المتسابقين تتمتع بخصم كبير. وكذلك أعضاء المجلس الاستشاري الذي هو واحد منهم، ومع ذلك فإنه عند جمع الخصمين معًا ستكون تكلفة التذاكر مبالغًا فيها.
غير أنها لن تكون مستحيلة. وعلى ذلك حضرت مايرا ورانجيت وروبرت الصغير إلى المحطة الطرفية. وكأي شخص يمتلك شاشة تليفزيون في العالم — أي كجميع سكان العالم تقريبًا — كانت الأسرة قد شاهدت الأنباء السارة التي صاحبت تطور مصعد الفضاء إلى مرحلة نقل الركاب. وعرفوا كيف تعمل كبسولات نقل الركاب وما يشعر به الراكب عندما يُحمل نحو السماء بمعدل ثابت من الأمتار لكل ثانية.
لكن الشيء الذين لم يقدروه حق قدره هو عدد الثواني — حتى في ظل هذه السرعة — التي ستستغرقها الرحلة من سريلانكا إلى منطقة خليج أقواس قزح. فهذه لم تكن رحلة من رحلات العطلات الأسبوعية.
في الأيام الستة الأولى كانوا قد وصلوا إلى حزام فان ألين السفلي عندما تعين على أسرة سوبرامانيان — إلى جانب أُسر أخرى على متن مصعد الفضاء هي تحديدًا أسرة كاي وأسرة كوسبا وأسرة نرويجية يصعب نطق اسمها — الإسراع إلى مأوى يحتمون فيه من إشعاعات فان ألين الفتاكة. اشتمل هذا المأوى على حجرات داخل الكبسولة جدرانها ثلاثية الطبقات تصلح لأغراض النوم والنظافة معًا. اشتملت هذه الحجرات على حمامات و«أحواض استحمام» تدعو تسميتها تلك إلى الضحك، وعشرين سريرًا ضيقًا للغاية ذات طوابق اصطفَّت في خمسة صفوف. وعندما يتعين على أحد الأشخاص التوجه إلى المأوى، فليس عليه سوى أن يأتي بنفسه ويُحضر معه الملابس الضيقة الخاصة بمصعد الفضاء (والتي تكاد تكون بلا وزن — لتخفيف الحمل — وأيضًا غير قابلة للاتساخ بقدر ما تستطيع تكنولوجيا إنتاج الأقمشة التوصل إليه؛ إذ لا أمل في غسل الملابس هناك) بالإضافة إلى الأدوية إن كان يستخدم أيًّا منها. ولن تكون هناك حاجة إلى إحضار أي شيء آخر. لا شيء على الإطلاق لا سيما التواضع والاحتشام.
لم يرُق روبرت هذا المأوى. فقد بكى. وكذلك بكى حفيد أسرة كاي. ولم يرُق المأوى رانجيت هو الآخر. إذ اشتاق وهو في الداخل إلى القدر الأكبر (وإن كان ضئيلًا) من الحرية التي أتيحت لهم داخل الكبسولة غير المحمية بزواياها المظلمة وأربطة التدريب المطاطية بها ونوافذها الطويلة الضيقة السميكة، وإن كانت شفافة على نحو يبعث على الرضا. وأكثر ما اشتاق إليه رانجيت هو الأسِرَّة العادية بمصابيحها وستائرها ومساحتها التي تكاد تسمح بتحرك النائم فيها على جنبيه كأنه داخل تابوت. الواقع كانت هذه الأسِرَّة تتسع بالكاد لمرافقة شخص بين الحين والآخر شريطة أن تكون على علاقة حميمة جدًّا مع هذا الشخص.
استمرت العقوبة الأولى في هذا المأوى مدة أربعة أيام. وبعدها عادوا إلى الفضاء الخالي مجددًا مدة تسعة أيام أخرى إلى أن انطلقت صافرات التحذير مرة أخرى لتعلن أن الوقت قد حان للاحتماء من حزام فان ألين العلوي.
أصبح السفر إلى الفضاء متاحًا أمام جميع الأشخاص تقريبًا. لكنه بالقطع لم يكن سهلًا. أو لم يكن مثيرًا للبهجة كثيرًا.
•••
حدث شيء غريب أثناء خروجهم من حزام فان ألين العلوي. فقد حاول روبرت الوصول بسرعة إلى مكانه المفضل، وهو شريط من البلاستيك السميك طوله متران كان نافذتهم الرئيسية على العالم الخارجي. كانت مايرا تتمرن مستخدمة أحزمة التمارين ورانجيت يفكر في التوجه إلى سريره الخاص وأخذ قسط هادئ من النوم عندما أقبل عليهما روبرت وهو يصرخ من فرط الإثارة. كان فهم روبرت عندما يكون منفعلًا أشد صعوبة من فهمه وهو هادئ. لم تستطع مايرا أو رانجيت فهم شيء منه إلا بكلمة «سمكة». لم يكن روبرت ليفعل الكثير من أجل التوضيح، ولم تكن ناتاشا معهم لتترجم ما يقول. ولم يكن هناك سوى طفلة تبلغ من العمر ثلاثة أعوام جاءت برفقة إحدى الأسر داخل الكبسولة. استمعت الفتاة إلى حديثهم هنيهة، ثم أخذت روبرت بعيدًا — وهي لا تزال صامتة — لتعلمه رياضة التاي تشي حسبما فهمت مايرا.
كانت هذه الطفلة تدعى ليو — ابنة زوجين قادمين من مدينة تايبي — وهي واحدة من الركاب المرافقين لهم داخل الكبسولة. كان هناك ستة أفراد من أسرة كاي يضمون والدتَي السيد والسيدة كاي اللذين كانا يعملان في مجال الفندقة. وكانا قد جمعا من هذا العمل ثروة فاحشة مكَّنتهم من أن يكونوا في طليعة السائحين الفعليين الذين عوَّلت عليهم الهيئة المنظمة للأولمبياد. كان هذا حال الأسرة القادمة من كوريا الجنوبية أيضًا وكذلك الزوجان القادمان من كازاخستان. أما الأسرة النرويجية فلم تكن تتمتع بالثراء في شيء، لكنها كانت أسرة أحد ممثلي الدولة في رياضة الوثب الطويل؛ ولذا تمتع أفرادها بخصم على التذاكر.
المشكلة التي واجهتها أسرة رانجيت هي أنه لم يكن هناك أحد من السبعة عشر شخصًا الذين شاركوهم الكبسولة يتحدث الإنجليزية ولا التاميلية أو السنهالية. كانت زوجة السيد كاي تتحدث الفرنسية بطلاقة، وهو ما ساعد مايرا على تبادل الحديث معها. بينما تحدث البقية بعضهم إلى بعض باللغة الروسية أو الصينية ولغة أخرى رجَّح رانجيت أن تكون الألمانية، ولم تكن أيٌّ من هذه اللغات تفيده كثيرًا.
ليس في البداية على أية حال. كان الوقت هو أكثر ما لديهم. إذ استغرقوا أسابيع في الوصول إلى منتصف المسافة وأسابيع أخرى حتى نقطة النهاية حيث تنطلق الكبسولة في مسارها القمري، ثم يومًا أو يومين آخرين حتى هبوطهم على منطقة خليج أقواس قزح.
أثناء تلك الدورة الأخيرة لم يبتعد آل سوبرامانيان عن شاشات الأخبار؛ لأن هذا كان وقت إجراء التصفيات على القمر. سيجرى السباق النهائي بين شخصين أحدهما يطير مستخدمًا جناحين والآخر مستخدمًا منطادًا هوائيًّا. قطع هذه الرحلة سبعة أشخاص يعتمدون في طيرانهم على الأجنحة للمشاركة في التصفيات … وبينما كانت أسرة سوبرامانيان تقترب من نهاية رحلتها — حيث القمر نفسه يظهر عملاقًا خارج النوافذ — إذ سمعوا الإعلان عن فوز ابنتهم في التصفيات.
حينئذٍ أصبح بوسع جميع البالغين التحدث ولو ببضع كلمات بلغاتهم الأصلية، وكانت هذه الكلمات موجهة لتهنئة أسرة سوبرامانيان.
•••
التقت ناتاشا بأسرتها عند المصعد على السطح المؤدي إلى القرية الأولمبية وقد غمرتها السعادة وأخذت تتحدث كثيرًا، وأصاب رانجيت شيء من الدهشة عندما وجدها برفقة شاب برازيلي طويل القامة بني البشرة. كان كلاهما يرتدي أقل ما يمكن ارتداؤه من الملابس في هذه البيئة التي لا تتغير فيها درجة الحرارة عن ٢٣ درجة مئوية. قالت ناتاشا لوالديها: «أقدم لكما رون. إنه اختصار لاسم رونالدينو. وهو عدَّاء لمسافة مائة متر.»
لم يلحظ رانجيت كيف أن فتاة في الخامسة عشرة من عمرها قد تبدو امرأة بالغة فاتنة إلا عندما حاول النظر إلى ابنته بعيني رونالدينو البرازيلي. وما أصابه بالدهشة أن مايرا لم تبدُ قلقة بهذا الشأن. فقد صافحت رونالدينو بمودة صادقة حسبما بدا، بينما لم ينتبه روبرت الصغير إلى وجود العدَّاء؛ إذ دفعه من طريقه ليرتمي بين أحضان أخته الكبرى وقد تعالى صياحه.
بعد أن غمرت ناتاشا جبهة روبرت بقبلاتها همست بشيء في أذنَي رون، فأومأ برأسه وقال لوالديها: «إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بكما.» ثم اختفى مهرولًا في تلك المِشية البطيئة الطويلة التي تساعد عليها الجاذبية على سطح القمر.
قالت ناتاشا: «عليه أن يذهب إلى التمرين. سوف يُجرَى سباقي غدًا، بينما لن يبدأ سباقه قبل يوم الأربعاء. سوف يأخذ حقائبكم، ويضعها في غرفتكم حتى يتسنى لنا إحضار طعام شهي لنتناوله.» تقدمت ناتاشا الطريق وهي تمسك بيد روبرت. وبفضل مساعدتها تعلَّم الطفل بسرعة مشية شبيهة بمشية رون. لكن الحظ لم يحالف رانجيت في ذلك. فوجد أن الوثب البطيء من نقطة إلى أخرى أكثر سهولة، وإن كان أقل رشاقة.
لم يقطع آل سوبرامانيان مسافة طويلة، وعندما وصلوا إلى وجهتهم وجدوا أن المكان كان جديرًا بالذهاب إليه. فالطعام لم يكن يشبه طعام الحيوانات الذي تناولوه في كبسولة مصعد الفضاء، فاشتمل على سلاطة، ونوع من اللحم المفروم والمشَكَّل في صورة كرات مقلية، وفاكهة طازجة لتناولها كتحلية بعد الطعام. قالت لهم ناتاشا: «معظم هذا الطعام آتٍ من كوكب الأرض، لكن الفراولة ومعظم مكونات السلاطة تُزْرَع داخل قناة أخرى على القمر.» لم يكن الحديث عن الطعام هو ما يودون سماعه. بل أرادوا معرفة ما كانت تفعله ناتاشا، وما شعرت به. وأرادت هي الاستماع إلى كل التفاصيل المتعلقة برحلتهم، فأخذت تنصت في شيء من التريث الممزوج بالمتعة باعتبار أنها خاضت تلك التجربة من قبل. أرهفت ناتاشا السمع عندما أتوا على ذكر صياح روبرت بكلمة «سمكة»، لكنها عندما استفسرت من روبرت نفسه عن هذا بلُغَتهما الخاصة أبدى روبرت اهتمامًا بكعكته أكثر من الإجابة عليها. ثم قالت ناتاشا: «كل ما قاله إنه رأى شيئًا خارج النافذة يشبه السمكة. إنه أمر غريب. فقد ذكر بعض الأشخاص هنا أيضًا أنهم شاهدوا شيئًا في الطريق إلى الأعلى.»
تثاءبت مايرا. ثم قالت والنعاس يغالب أجفانها: «ربما يكون بَوْلًا متجمدًا لأحد رواد الفضاء. تذكروا الشائعات التي تداولتها الألسن حول مشاهدة أفراد طواقم أبولُّو أشياء اعتقدوا أنها حشرات يَرَاع فضائية؟ على أي حال هل قلتِ إن لدينا غرفة؟ وبها سرير حقيقي؟»
كان هذا ما ذكرته ناتاشا بالفعل، ولم يكن سريرًا عاديًّا، وإنما زاد عرضه عن تسعين سنتيمترًا، وهو ما يعني وجود متسع أمام مايرا ورانجيت لينام أحدهما بجوار الآخر. وحالما شاهدا السرير لم يستطيعا مقاومته. فكَّر رانجيت أن يأخذ سنة من النوم بجوار زوجته التي كانت قد نامت بالفعل. ثم يستيقظ ويستكشف هذا المكان الرائع بعد أن يغتسل بمياه حقيقية بالطبع.
كانت تلك نية رانجيت. ولم يكن خطؤه أنه لم يستيقظ إلا على صوت زوجته وهي تهز كتفه برفق وتقول: «رانج؟ أتعلم أنك نمت أربع عشرة ساعة؟ إذا استيقظت الآن فسيكون لديك وقت لتناول إفطار شهي وإلقاء نظرة على القناة قبل أن نذهب إلى السباق.»
•••
شهدت بعض الأحداث الأولمبية حضورًا جماهيريًّا يقدر بمئات الآلاف من المشاهدين. لكن الحضور الجماهيري لهذه المباريات التي تقام للمرة الأولى على القمر كان ضئيلًا للغاية مقارنة بهذه الأحداث. كان عدد الأشخاص يكفي بالكاد لشغل المقاعد الخفيفة الوزن التي بلغ عددها ألفًا وثمانمائة مقعد والتي اصطفَّت على جدران القناة، ومن حسن حظ أسرة سوبرامانيان أنهم حصلوا على مقاعد تبعد عن خط النهاية بأقل من مائة متر.
عندما شقوا الطريق إلى مقاعدهم، شعر رانجيت بسعادة لم يشعر بها من قبل في حياته. فحصوله على قسط وافر من النوم، واستحمامه سريعًا بمياه حقيقية وإن كانت معالَجة (كان مؤقِّت المياه محددًا بثلاثين ثانية فحسب لكنها كانت كافية لغمر الجسد بالماء)، ثم إلقائه نظرة سريعة على المكان كانت كلها أمارات على بداية يوم جيد. وتملَّكته الدهشة عندما اكتشف أن غرف المعيشة ليست داخل القناة العملاقة التي تضم الملعب، وإنما في قناة مجاورة أصغر يربط بينهما نفق أقامه البشر.
لكن ها هو هناك! فوق سطح القمر! مع زوجته الحبيبة وابنه في يوم ربما يكون من أسعد الأيام في حياة ابنته الحبيبة الغالية!
ومع أن الضغط الجوي الذي هيأه البشر داخل الأنفاق بلغ نحو نصف الضغط الجوي فقط عند مستوى سطح البحر على كوكب الأرض، كان الهواء غنيًّا بكميات كبيرة من الأكسجين. ولم يكن ذلك مهمًّا لناتاشا قدر ما كان مهمًّا لخصمها — بايبر دوجان — الذي سيستخدم المنطاد، رغم أنه مع جاذبية القمر التي تعادل سدس جاذبية الأرض يظل بحاجة إلى سعة أقل من ثلاثين مترًا مكعبًا من الهيدروجين لرفعه إلى أعلى. كان بايبر دوجان أسترالي الجنسية. ومع دخوله إلى الملعب — برفقة ثلاثة مساعدين في وضع عصيب يحاولون التأكد من ثبات الآلة — طفت أسطوانة الهيدروجين الانسيابية الخاصة به في الهواء.
مع دخول دوجان إلى الملعب عزفت فرقة موسيقية متوارية عن الأنظار مقطوعة عرف رانجيت من خلال البرنامج أنها النشيد الوطني لأستراليا، «فلتتقدمي يا أستراليا الجميلة»، وتعالى صياح معظم المشاهدين في الجانب البعيد من القناة. همست مايرا في أذني رانجيت: «يا إلهي. لا أظن أن عدد السريلانكيين هنا يكفي لفعل شيء كهذا من أجل تاشي.»
بكل تأكيد كانت هناك أعداد كبيرة من دولة الهند المجاورة وأعداد أكبر من جنسيات أبدت تعاطفها مع فتاة ناشئة أتت من جزيرة صغيرة. وعندما دخلت ناتاشا لتحتل مكانها كانت برفقة مساعد واحد يحمل ما يشبه دراجة بلا عجلات وإنما بأجنحة رقيقة تكاد تشبه نسيج العنكبوت. عُزِفَت الموسيقى من أجل ناتاشا أيضًا — إن كان هذا هو النشيد الوطني لسريلانكا فستكون هذه معلومة جديدة على رانجيت الذي لم يكن يعرف أن هناك واحدًا — لكن كاد صوت الموسيقى يختفي وسط صرخات المشاهدين في الجانب المجاور لها من القناة. استمرت الصيحات أثناء تثبيت المساعدِين لكلا المتسابقين في آلتي السباق حيث بايبر دوجان متدلٍ من خزان الهيدروجين ويداه وقدماه في وضع حر لمساعدته في استعمال الدواسة بينما ناتاشا جالسة بزاوية خمسة وأربعين درجة على مقعد دراجتها الطائرة.
انقطع صوت الموسيقى. وخفتت صيحات الجماهير. وكادت لحظة من الصمت تعم أرجاء المكان … ثم انطلق صوت حاد معلنًا بدء السباق.
في البداية انطلق منطاد دوجان إلى الأمام في خط أفقي بينما هبطت دراجة ناتاشا مسافة ستة أمتار قبل أن تتمكن من الوصول بها إلى السرعة المطلوبة.
حينئذٍ بدأت ناتاشا تلحق بمنافسها.
كان سباقًا متكافئًا بين الطيارَين حتى نهاية الملعب وكلاهما يتلقى هتافات مدوية من الجميع؛ ليس فقط من هذا العدد الضئيل من المتفرجين داخل القناة وإنما من عشرات ومئات الملايين الذين يتابعون الحدث في أي مكان به شاشة تليفزيون داخل المجموعة الشمسية.
وعلى بعد عشرين مترًا من خط النهاية تقدمت ناتاشا على خصمها. واجتازت خط النهاية بمسافة ليست بالقصيرة، وكانت صرخات وصيحات وهتافات المشاهدين الذين بلغ عددهم ألفًا وثمانمائة مشاهد داخل القناة هي أعلى صوت سُمع على القمر طيلة سنوات عدَّة.
•••
كانت رحلة العودة إلى كوكب الأرض طويلة ومعقدة تمامًا كرحلة الذهاب، لكن ناتاشا برفقتهم هذه المرة ومعها ما حصدته من جوائز.
كانت هذه الجوائز مجتمعةً مثيرة للإعجاب الشديد. لم تتوقف شاشة ناتاشا الشخصية عن تلقي رسائل التهنئة من جميع الأشخاص الذين تعرفهم ومن عدد كبير للغاية من أشخاص لا تعرفهم. كان رؤساء كل من روسيا والصين والولايات المتحدة من بين من تمنوا لها دوام النجاح، بالإضافة إلى قادة جميع الدول الأخرى في الأمم المتحدة. تلقت ناتاشا تهنئة من الدكتور داتوسينا باندارا نيابة عن منظمة السلام عن طريق الشفافية، ومن جميع أساتذتها القدامى وأصدقائها وآباء أصدقائها. وتلقت تهنئة أيضًا من أولئك الذين كانت تهتم لأمرهم حقًّا مثل بيتريكس فورهولست وجميع العاملين في منزلها. كل هذا بالإضافة إلى الأشخاص الذين كانوا يريدون منها شيئًا مثل البرامج الإخبارية التي تسعى لإجراء مقابلات تليفزيونية معها وممثلين عن عشرات الحركات والجمعيات الخيرية الذين كانوا يستجدون تأييدها لهم. وجدير بالذكر أيضًا أن اللجنة الأولمبية الدولية وعدت بطلتها الجديدة بمكان ضمن سباق سفن الفضاء ذات الشُّرُع الشمسية الذي تخطط له والذي من المقرر عقده حالما يتوفر عدد كافٍ من سفن الفضاء التي تصلح للسباق في مدار أرضي منخفض. قالت مايرا لباقي أفراد الأسرة: «إنهم يقومون بذلك بسبب زيادة الضغوط المفروضة عليهم من جانب الدول الثلاث الكبرى، أنا واثقة من هذا. فهم يريدون بدء العمل في كل شيء على الفور من أجل تحقيق مآربهم الخاصة.»
ربَّت زوجها على كتفها. وسألها مترفقًا: «وما تلك المآرب؟ إنهم يمتلكون كل شيء بالفعل حسبما ذكرتِ.»
قطبت مايرا وجهها. وقالت: «سوف ترى»، لكنها لم توضح ما الذي سيراه رانجيت تحديدًا.
كانت أسرة رانجيت تقترب كثيرًا من حزام فان ألين العلوي قبل أن تقل المكالمات الهاتفية إلى الحد الذي يتيح لرفاقهم في الرحلة إجراء عدد من المكالمات التي أخفقوا في إجرائها من قبل مع ذويهم في أرض الوطن. شارك آل سوبرامانيان ستة عشر شخصًا في الكبسولة هذه المرة، بينهم أسرتان ثريتان من بلغاريا — وإن لم يستطع رانجيت معرفة مصدر هذا الثراء تحديدًا — وعدد قليل من الكنديين الذين كادوا يكونون على نفس الدرجة من الثراء. (كان البترول المستخرج من رمال القطران في مدينة أثاباسكا هو مصدر ثراء هؤلاء الكنديين.) شعر رانجيت بضرورة الاعتذار لرفاقهم في السفر بسبب استحواذ ناتاشا على النصيب الأكبر من دوائر الاتصالات. لكنهم لم يكونوا في حاجة إلى هذا الاعتذار. قالت أكبر النساء الكنديات سنًّا: «فليباركها الرب. إن أحداثًا كهذه لا تتكرر كثيرًا في حياة فتاة شابة. وعلى أية حال ما زالت القنوات الإخبارية تبث أخر الأخبار. وتركز أغلبها على تلك الموجة من الشائعات الجديدة حول رؤية طبق طائر، لكن هل تناهت إلى أسماعكم أخبار مصر وكينيا؟»
لم يكن آل سوبرامانيان قد عرفوا شيئًا من هذه الأخبار، وعندما أُخْبِروا بها تملَّكتهم حالة من السعادة شأنهم في ذلك شأن أي شخص آخر. لم توافق كينيا ومصر على الاقتسام العادل لمياه نهر النيل فحسب، وإنما صوتت كلتا الدولتين — وفق استفتاء عام دُعِيَ إليه فجأة — على الانضمام طواعيةً إلى اتفاق الشفافية.
قال رانجيت: «تلك أخبار رائعة!»
حينئذٍ انطلقت الصافرات المدوية للتحذير من الإشعاعات معلنة أن الوقت قد حان لدخولهم إلى المأوى مجددًا.
تنهد رانجيت، وتَقَدَّم الطريق تتبعه ناتاشا وهي تتحدث إلى إحدى الفتيات الكنديات وخلفهما زوجته ممسكةً بيد روبرت.
مرت عدة دقائق تَفَقَّد خلالها العشرون شخصًا أسِرَّتهم بينما صوت صافرات التحذير يتردد طوال الوقت. فجأة توقفت مايرا وألقت نظرة على المكان، ثم تساءلت: «أين روبرت؟»
جاءت الإجابة على لسان إحدى الكنديات. إذ قالت: «كان واقفًا عند الباب منذ قليل.»
لم تكن السيدة في حاجة إلى قول المزيد. فقد خرج رانجيت من الباب مناديًا على روبرت بصوت علا عن أصوات التحذيرات المدوية. لم يستغرق رانجيت وقتًا طويلًا في العثور على ابنه الذي كان يحدق باهتمام خارج النافذة في المشهد الضبابي متعدد الألوان الذي يمثل حزام فان ألين، ولم يستغرق وقتًا أطول في سحبه إلى داخل المأوى وغلق الباب بقوة وراءهما. طمأن رانجيت أسرته وبقية المسافرين الذين تجمعوا في قلق حول الباب قائلًا: «إنه بخير. سألته عما كان يفعل، ولم يقل شيئًا سوى «سمكة».»
انطلقت أصوات ارتياح ممزوجة بالضحك من الجميع، بينما زمت الجدة الكندية شفتيها. وتساءلت: «هل قال إنه شاهد سمكة؟ ورد في الأخبار أن أشخاصًا آخرين شاهدوا أشياء من مصعد الفضاء وصفوها بأنها أشياء لامعة مستدقة الطرفين. أعتقد أنه يمكن القول إن هذا الوصف يشبه السمكة.»
أكد زوج ابنتها قائلًا: «نفس الأشياء التي زعموا أن الناس شاهدوها في كل مكان. كنت أظن أن هذا واحد من تلك الأشياء الغريبة التي يخدع الناس أنفسهم بها، لكن لا أعرف الآن. أعتقد أنه من الممكن أن تكون هذه الأشياء حقيقية.»
•••
في غضون ذلك كان ثمة جدال كبير بين «تساعيي الأطراف» الحقيقيين تمامًا داخل طائراتهم التي تتخذ شكل الزوارق.
القرار الذي اتُّخِذ بإيقاف تشغيل دروع انحراف الرؤية ليصبح بوسع هؤلاء البدائيين على كوكب الأرض رؤيتهم فعلًا بدا قرارًا صائبًا في وقته. وبعد أن وُضع القرار موضع التنفيذ بدأ «تساعيو الأطراف» على الفور النقاش عبر شبكة الأشعة الدقيقة التي تمكنهم من الاتصال بعضهم ببعض دون أن يسترق البشر السمع لما يقولون. طرح «تساعيو الأطراف» موضوعًا واحدًا فحسب للنقاش وهو: هل اتخذوا القرار الصائب؟
ولمحاولة الإجابة عن هذا السؤال نُشِّطَت الأوامر السارية، وخضعت لدراسة الجميع. أنعم خبراء الاتصالات بين «تساعيي الأطراف» و«عظماء المجرة» النظر في الأمر لفترات طويلة قبل الإعلان عن رأيهم. ولأنهم تدربوا منذ ولادتهم على استيعاب أي فارق بسيط في جميع الأوامر التي سبق أن أقرها عظماء المجرة، فقد استُمِع إلى آرائهم بإنصات، وكاد يكون هناك إجماع على ما توصلوا إليه.
صاغ هؤلاء الخبراء آراءهم مستخدمين نوعًا من المصطلحات التي قد يستخدمها أحد المحامين من البشر: حرَّم «عظماء المجرة» على «تساعيي الأطراف» التورط في أي اتصال مع ذلك الجنس البشري الخبيث تحريمًا قاطعًا. لكنهم لم يطلبوا منهم الاكتراث لمسألة التحقق من أن البشر لا يشكُّون في وجودهم.
وبناءً على ذلك فقد خلص الخبراء إلى أن عدالة «عظماء المجرة» ستمنعهم من إنزال العقاب الأليم بجنس «تساعيي الأطراف» لما بدر منهم. واتفقوا جميعًا على أن تاريخ «عظماء المجرة» يشهد بأن لديهم حسًّا من العدالة أو من شيء يشبهها. ولذلك ربما يكتفون بتوبيخهم. وربما يصل الأمر إلى حد العقاب. لكن من المستبعد تمامًا أن يردوا على ذلك بإبادة «تساعيي الأطراف» جميعًا.
لم تكن الأجناس الأخرى التي تتبع «عظماء المجرة» لتُقْدِمَ أبدًا على مخاطرة كهذه من الأساس. ما كانت كائنات «واحد فاصل خمسة» لتفعل ذلك. وما كانت كائنات «المخزنين في الآلات» لتفعل الشيء ذاته أيضًا. ولم يكن هناك من بين تلك الأجناس التابعة ﻟ «عظماء المجرة» من يمتلك حس دعابة كهذا أو من يجرؤ على خرق الأوامر على هذا النحو. كان هذا هو الوضع القائم حتى اللحظة الراهنة.