أربعون يومًا من هطول البيانات
على مدار الأسابيع الستة المتبقية قبل بدء العام الدراسي الجديد وجد رانجيت نفسه للمرة الأولى في حياته غارقًا في شلالات من المعلومات الدقيقة التي طالما تاق إليها.
في البداية كانت هناك المجلات الخاصة بنظرية الأعداد. ومن بينها مجلتان رئيسيتان باللغة الإنجليزية ومجلة أو اثنتان باللغات الفرنسية والألمانية بل والصينية أيضًا (لكن رانجيت كان قد قرر ألا يلقي بالًا لأي مادة تحتاج إلى ترجمة.) هذا فضلًا عن الأعداد الهائلة من الكتب — الأعداد الهائلة جدًّا! صارت جميعها في متناول يده الآن بفضل نظام إعارة الكتب بين المكتبات! من بين الكتب التي بدت مشوِّقة — وإن لم تكن مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بموضوع بحثه — كتاب «من فيرما إلى مينكوفسكي» لشارلو وأوبولكا، و«مبادئ نظرية الأعداد» لأندريه ويل، الذي لم يكن — بحسب الكتابات النقدية التي أُعِدَّت حوله — يتناول مبادئ النظرية وإنما كان كتابًا متقدمًا للغاية حتى لشخص مثل رانجيت. ومن بين الكتب التي بدت أقل نفعًا — لأن ظاهرها يوحي بأنها تخاطب جمهورًا من القراء ليس على قدر اطلاع رانجيت — «أحجية فيرما» لسيمون سينج، و«دعوة إلى رياضيات فيرما-وايلز» لإيف إيليجورا، و«الصيغ المقياسية ونظرية فيرما الأخيرة» لكورنيل وسيلفرمان وستيفنز. كانت القائمة طويلة وتلك قائمة الكتب وحدها! فماذا عن الأبحاث، مئات أو ربما آلاف الأبحاث التي كُتبت حول واحدة من أشهر المسائل الرياضية التي نُشرت في كل مكان: في مجلة «نيتشر» في إنجلترا، ومجلة «ساينس» في أمريكا، وفي المجلات الرياضية التي تصدر عن جامعات مغمورة في أماكن مثل نيبال وتشيلي ودوقية لوكسمبورج التي ربما لا يكترث لأمرها أحد على الإطلاق.
على نحو محزن قليلًا استمر رانجيت في اكتشاف بضعة أمور غريبة كان يود أن يتحدث إلى أبيه بشأنها. بدا الأمر وكأن هناك تقليدًا قويًّا لتضمين عناصر نظرية الأعداد في الكتابات الهندية التي يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي وربما قبل ذلك، وليس أدل على هذا مما جاء في كتابات براهماجوبتا وفاراهاميهيرا وبينجالا وأيضًا باسكارا في كتابه الشهير «ليلافاتي». كل هذا بالإضافة إلى تلك الشخصية العربية المؤثِّرة أبو الفتح عمر بن إبراهيم الخيام الذي يشتهر بين من سمعوا عنه من قبل — والذين لم يكن من بينهم رانجيت سوبرامانيان — باسم عمر الخيام صاحب القصائد الشعرية المعروفة باسم «الرباعيات».
لم يكن أيٌّ من تلك المعلومات على وجه التحديد مفيدًا في سعي رانجيت الدءوب لحل نظرية فيرما. حتى مبرهنة براهماجوبتا الشهيرة لم تفده في شيء؛ لأنه لم يكن يعنيه في شيء أن رسم خط عمودي معين في نوع محدد من رباعيات الأضلاع سوف يقسم الضلع المقابل إلى نصفين متساويين في الطول. غير أنه عندما ورد أمام رانجيت ذكر مثلث باسكال وحساب الجذور مرتبطًا باسم الخيام للمرة الرابعة أو الخامسة جلس وكتب بريدًا إلكترونيًّا إلى والده يخبره بما توصل إليه من اكتشافات. ثم جلس بعدها فترة وإصبعه مستعد للضغط على زر الإرسال قبل أن يتنهد ويضغط زر الإلغاء. إذا أراد جانيش سوبرامانيان أن يبقى على اتصال بابنه فمن باب أولى أن تأتي المبادرة منه وليس من ابنه.
•••
بعد مرور أربعة أسابيع كان رانجيت قد قرأ جزءًا من السبعة عشر كتابًا ونحو مائة وثمانين بحثًا من قائمة المراجع. لكنه لم يخرج بفائدة. تمنى رانجيت أن يصادف فكرة شاردة توضح له جميع الأمور الأخرى. لكن ذلك لم يحدث. وجد رانجيت نفسه مدفوعًا إلى عدة طرق كانت مسدودة على اختلافها، وهو ما حدث مرارًا وتكرارًا لأن الكثيرين من مؤلفي الكتب المتخصصين في الرياضيات كانوا يتبعون نفس الأدلة الموثقة التي كان يتبعها. أعاد رانجيت النظر خمسًا أو ست مرات في الأسس الأولية نسبيًّا لآرثر فيفريش، وفي أعمال صوفي جيرما المتعلقة بالأعداد الأولية الفردية، ونظرية كومر للأعداد المثالية، وبالطبع نظرية أويلر، ونظريات كل علماء الرياضيات الآخرين الذين ساروا في تمهل وبراءة نحو شرك فيرما المغري والفتاك ولم يستطيعوا الخلاص منه أبدًا.
لم تكن الخطة تؤتي ثمارها المرجوة. فقبل بدء العام الدراسي الجديد بأقل من أسبوع واجه رانجيت حقيقة أنه كان يحاول العمل على العديد من المحاور في آنٍ واحد. كان الأمر شبيهًا تمامًا بمتلازمة «جي إس إس إم» التي حذره جاميني منها.
لذلك قرر رانجيت أن يُبَسِّط هجومه على نظرية فيرما. ولأننا نتحدث عن رانجيت سوبرامانيان فإن تبسيط الهجوم يعني شن هجوم مباشر على برهان وايلز المقيت والمطول؛ ذلك البرهان الذي تجرأت قلة من الرياضيين البارزين في العالم على القول إنهم قد استوعبوه.
كزَّ رانجيت على أسنانه، وشرع في العمل.
كانت الخطوات الأولى سهلة. لكنه توغل بعد ذلك في سلسلة الاستنتاجات الرتيبة التي قام بها وايلز، وهنا ظهرت الصعوبة، أو على الأقل — ما دمنا نتحدث عن رانجيت سوبرامانيان — ظهرت الحاجة إلى مزيد من التركيز في كل سطر من سطور البرهان. هذا لأن وايلز بدأ عندئذٍ يتناول المعادلات الخاصة بالمنحنيات في المستوى س-ص والمنحنيات الناقصة والحلول العديدة للمعادلة المعيارية. وكان ذلك عندما استطاع وايلز — للمرة الأولى — إثبات صحة ما يسمى بفرضية «تانياما-شيمورا-فاي» التي تقول إن أي مجموعة غير محدودة من المنحنيات الناقصة هي معيارية. ومع أن جيرهارد فراي وكينيث ريبيت برهنا على أن المنحنى الناقص لا يمكن أن يكون معياريًّا، استطاع وايلز إثبات أن نفس المنحنى لا بد وأن يكون معياريًّا …
ها هي ذي! وجدها! ها هي نقطة التناقض المؤكدة!
التناقض هو كنز الرياضيات الذي يوجد — في بعض الأحيان! — في نهاية طريق رياضي طويل. إنه الشيء الذي كرَّس علماء الرياضيات حياتهم للوصول إليه عن طيب خاطر؛ لأنه إذا كانت الاستنتاجات المنطقية التي خرجتَ بها من معادلتك الأولى تنتهي بنتيجتين تناقض كل منهما الأخرى، فلا بد أن معادلتك الأولى نفسها خاطئة!
وهكذا ثبت — أو ثبت إلى حدٍّ ما — أن فيرما كان محقًّا. فالعدد التربيعي هو أقصى أس تنطبق عليه النظرية. ولا يمكن أن يكون مجموع عددين مكعبين عددًا مكعبًا آخر، وهكذا الحال مع جميع الأسس الأعلى رتبة. لكن رانجيت لم يكن قريبًا من إيجاد برهانه الأقل تعقيدًا الذي يثبت ما ذكره فيرما عرَضًا منذ زمن طويل.
لم يكن رانجيت يدري أن أحدًا يلتقط صورته حينئذٍ.
•••
كانت الكائنات التي تتولى مهمة التقاط الصور نوعًا من الأجناس التي تتبع عظماء المجرة. عُرفوا باسم «المخزنين في الآلات»، وبالطبع لم يرهم رانجيت قط. كانوا يتعمدون الاختفاء. أيضًا لم تكن رؤيتهم ممكنة بوجه عام، على الرغم من أن بعض البشر شاهدوا عددًا قليلًا منهم عندما كان يحدث تداخل نادر ومعين بين ضوء الشمس وضوء القمر والوهج المقابل. وعند الإبلاغ عن هذه المشاهدات كان البشر يشيرون إليها على أنها أطباق طائرة، ومن ثم كانت تضاف إلى القائمة الطويلة من الخدع والأقوال المغلوطة والأكاذيب المحضة التي جعلت عدم اكتراث أي عالم جدير بالاحترام لها على الإطلاق أمرًا شبه مؤكد.
أما ما كان يفعله المخزنون في الآلات على كوكب الأرض في ذلك الوقت فهو استباق لإحدى رغبات «عظماء المجرة» الذين كانت رغباتهم ومطالبهم محل اهتمام دائم لدى المخزنين في الآلات. لم يأمر «عظماء المجرة» بمثل هذا العمل، لكن المخزنين في الآلات كان مسموحًا لهم إعمال عقولهم في بعض الحالات النادرة. السمة الخاصة التي ميزت «المخزنين في الآلات» هي أنهم دمَّروا كوكبهم بصورة تفوق ما فعلته كائنات «واحد فاصل خمسة» حتى إن الحياة على سطح الكوكب باتت من المستحيلات. تعاملت كائنات «واحد فاصل خمسة» مع هذه المشكلة بأن زودوا أجسادهم الهزيلة بعدد لا حصر له من الأطراف الصناعية. بينما سلك المخزنون في الآلات مسلكًا آخر. إذ هجروا كوكبهم المادي، بل وهجروا كل شيء مادي. ثم أعادوا تشكيل أنفسهم في صورة تشبه برامج الكمبيوتر، وتركوا أجسادهم الواهنة العليلة تتمتع بمَزِيَّة الموت ليواصلوا الحياة في العالم الافتراضي. (ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر في هذا الكوكب الفاسد بوادر لعودة الحياة من جديد. فلم تكن كل مياهه السائلة آنذاك سامة، مثلًا، لكنه ظل مكانًا منفِّرًا لأي كائن حي.)
وماذا عن حياة «المخزنين في الآلات» بعد ذلك؟
عجبًا، لقد حولوا أنفسهم إلى كائنات نافعة. ففي بعض الأحيان، عندما يرغب «عظماء المجرة» في نقل مقدار معين من الأشياء أو الكائنات من مجموعة نجمية إلى أخرى، يُكَلَّف المخزنون في الآلات بإتمام عملية النقل هذه. وعندما اكتشف «المخزنون في الآلات» تلك الموجات الصغرى الأولى وبعدها النبضات النووية القادمة من كوكب الأرض أدركوا أن «عظماء المجرة» سيكترثون لهذا الأمر. لم ينتظروا تلقي الأوامر. وإنما بدءوا معاينة الكوكب وكل ما على سطحه في الحال، ونقل ما يتوصلون إليه من معلومات أولًا بأول إلى تلك الزاوية من المجرة حيث يسبح «عظماء المجرة» في جداول الطاقة المظلمة.
بالطبع، لم يكن المخزنون في الآلات على علم تام بما سينتهي إليه الجنس البشري من جرَّاء الأنشطة المختلفة التي يقومون بها. ومن ثمَّ، كانوا في حاجة إلى فهم لغات البشر. لكن ذلك لم يحدث. آثر «عظماء المجرة» أن تجهل الأجناس التابعة لهم جميع اللغات سوى لغتهم؛ لأنه إذا استطاعت هذه الأجناس الحديث بحرية بعضها إلى بعض، فمن يدري ماذا سيقولون؟
ربما أصيب رانجيت بالذهول إن تناهى إلى علمه أن صورته التُقِطت عبر الفضاء الواقع بين النجوم على هذا النحو. لكن هذا ما حدث حقًّا. وهكذا كان حال جميع الأشخاص — بل وجميع الأشياء تقريبًا — على سطح الأرض؛ لأن «المخزنين في الآلات» كانوا يتحلَّون بالمثابرة، وإن لم يتمتعوا بالقدرة على القيام بكل شيء.
تمنى «المخزنون في الآلات» أن يقدِّر «عظماء المجرة» هذه المثابرة، أو ألا يضيقوا بها ذرعًا على الأقل.
•••
عندما استيقظ رانجيت على صوت المذياع في أول أيام الفصل الدراسي الجديد هبَّ من فراشه مسرعًا ليطفئه. كانت المحاضرة الأولى — «أساسيات علم الفلك: جغرافية المجموعة الشمسية» — وثيقة الصلة إلى حد بعيد بآخر آماله في أن يدرس شيئًا مشوقًا بالجامعة خلال السنوات الثلاث المقبلة. كان هذا ما جعله يشعر بشيء من السعادة. وبينما كان يغادر المبنى، سلمه الحارس خطابًا — من لندن؛ أي من جاميني — وشعر رانجيت بالابتهاج إلى حد ما.
تدْخُل من الشارع وتصعد الدَّرَج. وبذلك تجد نفسك في غرفة الجلوس (يسميها البريطانيون «غرفة الاستقبال»). بجوار هذه الغرفة يوجد مطبخ صغير جدًّا، وهو كل ما تجده في هذا الطابق. هناك دَرَج منفصل يهبط من غرفة الاستقبال متجهًا إلى الخلف حيث توجد غرفة شاغرة تطل على بضعة أمتار مربعة من أرض طينية يُفترض أنها حديقة. أظن أنني سأسميها غرفة الضيوف، لكني لا أنوي استضافة أحد للمبيت فيها. (إلا إذا كنت تريد، يا صديقي، المجيء يومًا ما لقضاء عطلة أسبوعية!) عودةً إلى الحديث عن طابق الاستقبال، يوجد درج آخر يقودك للأعلى حيث غرفة النوم والحمام. وليس من المريح لأي شخص المبيت في غرفة الضيوف في حالة إذا ما أراد قضاء حاجته أثناء الليل. لنعد إلى المطبخ. حيث تجد أي شيء تريده في مطبخ عصري ولكن بأحجام ضئيلة للغاية؛ ففيه ثلاجة بالغة الصغر وموقد بالغ الصغر وحوض بالغ الصغر وأصغر غسالة ملابس رأيتها على الإطلاق. قلتُ إن حجم الغسالة يتسع بالكاد لزوج من الجوارب، لكن مادج قالت إن هذا ممكن في حالة غسل كل جورب على حدة.
على أي حال هذا المكان ملك لي على ما هو عليه! حتى وإن كان جميع الأثاث به من أرخص ما يكون. عليَّ أن أسرع الآن لأن مجموعة منا ستذهب لمشاهدة عرض لمسرحية ستوبارد الجديدة، ونرغب في تناول العشاء قبل ذلك.
ابتسم رانجيت على مضض عندما فكر في أن جاميني يغسل ملابسه بنفسه بعد أن كان غسل الملابس عنده يتلخص في أخذها إلى المنزل وإعطائها للخدم الذين يعيدونها إليه في الصباح التالي بعد الانتهاء من تنظيفها وكيِّها وطيِّها.
لكن ذلك لم يمنعه من أن يتساءل عمَّن تكون مادج هذه.
وهكذا وصل رانجيت إلى محاضرته الأولى ونفسه مهيأة لما ستتلقى من الإحباط …
وعلى نحو رائع ومثير للدهشة لم تجرِ الأمور كما كان يتوقع رانجيت على الإطلاق!