منخفَض مميَّز
عندما نزلت كائنات «واحد فاصل خمسة» أخيرًا على سطح كوكب الأرض، صاحب نزولهم عرض ألعاب نارية هائل. لكن عرض الألعاب النارية هذا لم يحدث لنفس الأسباب التي يحدث من أجلها العرض المماثل الذي يصاحب عودة المركبات التابعة للبشر من الفضاء. فجميع كبسولات ميركوري ومركبات الفضاء سويوز والمكاكيك التي صنعها البشر قديمًا تصطدم بالغلاف الجوي للأرض عند عودتها إلى الأرض محدثة وهجًا ناريًّا مجهدًا للعين لسبب بسيط. وهو أنه ليس لها حيلة في الأمر. كان يتعين عليها خفض السرعة حتى يتسنى لها العودة للدخول إلى الغلاف الجوي للأرض، ولم يكن هناك سبيل لتقليل سرعة الهبوط بما يكفي لضمان هبوط آمن على الأرض سوى الاحتكاك بالغلاف الجوي.
أما مركبات الفضاء التابعة لكائنات «واحد فاصل خمسة» فلم تكن بحاجة إلى الاحتكاك بالهواء. إذ تقل سرعة هبوطها وفق آلية مختلفة تمامًا. فهم يطلقون صواريخهم الأيونية في اتجاه أمامي بأقصى قوة لتؤدي دور المكابح. وهي طريقة أيسر في الهبوط فضلًا عن أنها توفر تحكمًا أكثر دقة في موقع الهبوط.
تطلبت هذه الآلية استخدام كميات هائلة من الطاقة، لكن توفير الطاقة لم يكن من أولويات كائنات «واحد فاصل خمسة».
واجه المراقبون من البشر مشكلة في تحديد المكان الذي عقد الأسطول عزمه على الهبوط فيه. توصل التخمين الأولي إلى أنهم سيهبطون في مكان ما في صحراء ليبيا؛ ربما على السواحل المتاخمة للبحر المتوسط. وبسرعة تغير هذا التخمين ليتجه إلى مكان أبعد قليلًا ناحيتَي الشرق والشمال؛ ربما في مكان ما داخل الأقاليم الصحراوية الشاغرة شمال غرب مصر.
لم يستغرق خبراء القنوات الإخبارية وقتًا طويلًا في التوصل إلى المكان الذي يُدعي «منخفض القطارة».
بعدها استغرق رانجيت ومايرا وقتًا أقل في تشغيل محركات البحث. قالت مايرا وهي تقرأ من شاشتها: «هذا المنخفض هو خامس منخفضات العالم من حيث العمق. ويبلغ عمقه ١٣٣ مترًا تحت مستوى سطح البحر.»
أضاف رانجيت وعيناه على شاشته: «ويبعد عن البحر مسافة خمسة وستين كيلومترًا فقط. و… انتظري لحظة! إنه أكبر منخفضات العالم فوق اليابسة على سطح الأرض، بأكثر من أربعين ألف كيلومتر مربع تحت مستوى سطح البحر.» وفي الحال علم رانجيت ومايرا أن هذا المكان غير مأهول بالسكان إلا من بعض قبائل البدو المتجولة وقطعان من الحيوانات يرعونها، وأنه لا يحمل قيمة واضحة لدى أي شخص من البشر على الأقل. الأمر الوحيد الذي يبدو أنه ساهم في اهتمام البشر بأمر هذا المكان هو احتلاله مكانة كبرى على مدار بضعة أسابيع في واحدة من الحروب التي نشبت في القرن العشرين، وهي الحرب بين الألمان والإنجليز. آنذاك حوصر الألمان في منخفض القطارة الذي يتعذر اجتيازه وتمكن الإنجليز من إلحاق خسائر فادحة بهم في معركة عرفت باسم «معركة العلمين».
عند هذه النقطة توقف رانجيت ومايرا عن البحث بعد أن وجداه بلا جدوى. قال رانجيت في النهاية: «لا أظن أن هذا هو سبب اختيار كائنات الفضاء لهذا المكان. أقصد إمكانية الدفاع عنه بسهولة ضد أي جيش.»
سألته مايرا: «وما السبب إذن؟»
قطب رانجيت جبينه، لكنه لم يجب عن سؤالها. وقضى كلاهما ربع الساعة التالي يفكران في أسباب أخرى كانت تتزايد درجة استبعادها إلى أن تدخلت شاشة الأخبار. ذكر مذيع الأخبار أن أول احتجاج رسمي صدر للتوِّ من القاهرة. وهو بيان شديد اللهجة.
لم يكن نقل الخبر على هذه الصورة دقيقًا تمامًا. صحيح أن البث كان من القاهرة، لكنه لم يرد على لسان شخص مصري. كان المتحدث السفير الأمريكي. أخبر العالم بأن الحكومة المصرية طلبت منه الإدلاء بتصريح يوضح ردها الرسمي. قال السفير إن المنطقة المعروفة باسم «منخفض القطارة» جزء لا يتجزأ من جمهورية مصر العربية. وهي دولة ذات سيادة، وإنه لا يحق للدخلاء الوجود فيها. وإنه صدرت إليهم أوامر بمغادرة الأراضي المصرية على الفور أو مواجهة تبعات هذا الموقف.
بدا واضحًا أن اجتماعات سرية كانت تُجرى، ثم جاءت كلمات السفير التالية لتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك ما كانت تدور حوله هذه الاجتماعات. صرح السفير: «جمهورية مصر العربية واحدة من أقدم الحلفاء لأمريكا وأقربهم. وعلى المعتدين أن يواجهوا الجيش المصري وجيش الولايات المتحدة أيضًا.»
همهم رانجيت: «يا إلهي. أشعر بأن تي أوريون بليدسو له دخل بهذا.»
قالت مايرا الملحدة لزوجها الأقل منها تدينًا: «فليساعدنا الرب الآن.»
•••
ربما هدأت حدة الوضع إذا اقتطعت الكائنات الفضائية التي هبطت على الأرض جزءًا من وقتهم للإعلان عن خططهم على المدى البعيد. لكنهم لم يقدموا تفسيرًا لما يحدث. ربما لا تستطيع هذه الكائنات القيام بأكثر من عمل في آنٍ واحد، أو ربما ظنوا أن هؤلاء البشر البدائيين على كوكب الأرض هم الذين لا يستطيعون ذلك؛ لأنهم استمروا في الحفاظ على وعدهم بعرض جميع أجناس الكائنات الحية المختلفة في المجرة على البشر مرارًا وتكرارًا.
كان هذا العرض مشوقًا تمامًا فيما مضى. لكنه لم يعد الآن كذلك. المشاهدون الوحيدون الذين واصلوا توجيه اهتمامهم لهذا العرض هم منتجو أفلام الرعب ذات الميزانيات المنخفضة الذين تحمسوا للبحث عن أفكار ينقلونها إلى فنيي التجميل الذين يعملون لديهم، فضلًا عن القلة المتبقية من علماء التصنيف في العالم حيث تحمس كل واحد منهم لفكرة مؤثرة ومفاجئة مفادها أنه ربما يصبح نموذجًا آخر من كارولوس لينيوس — مؤسس علم التصنيف — في القرن الحادي والعشرين.
لا شك أن أيًّا من ذلك لم يكن يمثل مشكلة للجنس البشري. لكن كانت هناك مشكلة أخرى ظهرت في شقين.
الشق الأول هو ذلك البث الذي تجاوز حدود المعقول والذي أذيع على النطاقات الترددية لوسائل الاتصال في العالم. لم يكن بث قائمة بالكائنات المجرِّية العاقلة ذا تأثير في حد ذاته على هذه النطاقات الترددية. المشكلة كانت في تلك العادة الكيِّسة التي بمقتضاها تذيع الكائنات الفضائية كل شيء يرغبون في قوله بعدد كبير من لغات العالم التي يربو عددها عن ٦٩٠٠ لغة.
وحتى هذه المشكلة لم تزعج سوى مجموعة قليلة من الأشخاص الذين مُنِعت برامج المسابقات التي يفضلونها من العرض على التليفزيون. أما الجانب الأكثر خطورة فهو التشويش على الاتصالات خاصة المفاوضات التي تجري وراء الكواليس بين عدد كبير من القوى العسكرية في العالم.
•••
أجرى رانجيت اتصالًا هاتفيًّا سريعًا بجاميني باندارا الذي أكد له صحة ظنونه. لم يكن قرار الحكومة المصرية بخروج السفير الأمريكي بهذه التصريحات الملوحة باستخدام القوة قرارًا طوعيًّا. أوضح صديق داتوسينا باندارا المصري القديم حميد العصر — الذي يشغل الآن منصب السفير المصري لدى سريلانكا — الأمر برمته في مكالمة هاتفية لوالد جاميني. قال جاميني: «أجرى مكالمة هاتفية مع والدي. قال فيها إن الحكومة المصرية تعرضت لضغوط أمريكية لم تستطع الصمود أمامها. ذكر والدي أنه كان هناك أحد العملاء السريين من الأمريكيين …»
قال رانجيت: «لا شك أنه هو. صديقك القديم كولونيل بليدسو، أنا واثق من ذلك.»
بدت الدهشة على جاميني وهو يقول: «قد تكون محقًّا. على أي حال ذكر حميد العصر أن مصر تعي التزاماتها فيما يتعلق بمنظمة السلام عن طريق الشفافية، لكنها لا تزال في مرحلة تنفيذها. كذلك لم تكتمل المرحلة الانتقالية بعد، ومصر دولة فقيرة لا تقوى على الوقوف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بالنظر إلى المساعدات الأمريكية التي تبلغ مليارات الدولارات.»
قال رانجيت: «اللعنة.» وعندما أخبر مايرا بهذا الحوار، أجابت بنفس الرد تقريبًا.
قالت مايرا: «كان ينبغي أن نخمن هذا. دعنا نأمل ألا يسوء الوضع أكثر.»