الفصل الخامس

من عطارد إلى سحابةِ أُورت

لم يكن المكان الذي تُدَرَّس فيه مادة أساسيات علم الفلك قاعة محاضرات عادية. وإنما كانت واحدة من القاعات المصمَّمة على شكل مسارح مصغرة بها صفوف دائرية من المقاعد تتسع لمائة طالب. كانت جميع المقاعد تقريبًا ممتلئة نزولًا إلى المستوى الذي ضم منصة وكرسيًّا ومحاضرًا لم يبدُ أكبر سنًّا من رانجيت نفسه. كان يُدعى يوريس فورهولست. كان من الواضح أنه ينتمي لطائفة البرجر، وكان من الواضح أيضًا أنه وقع عليه الاختيار لمغادرة الجزيرة لإتمام دراساته العليا.

أثارت الكليات التي التحق بها فورهولست إعجاب رانجيت. كانت أسماؤها محل تقدير علماء الفلك. نال الدكتور فورهولست درجة الماجيستير من جامعة هاواي في مدينة هيلو حيث تلقى تدريبه على تليسكوبات كيك القديمة الضخمة، ثم انتقل لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كالتيك، وعمل إلى جانب ذلك في مختبر الدفع النفاث في باسادينا. وفي مختبر الدفع النفاث، كان واحدًا من أعضاء الفريق الذي أطلق مركبة الفضاء فاراواي التي مرت بجوار بلوتو داخل حزام كايبر — أو بقايا حزام كايبر — مثلما ذكر فورهولست لأنه كان مؤمنًا بالرأي الذي اتفق عليه علماء الفلك قديمًا والذي يستثني بلوتو من مجموعة الكواكب الفعلية، وهكذا لا يعتبره سوى واحد من عدة ملايين من كرات الثلج في حزام كايبر. (أخبر فورهولست الطلاب أن فاراواي كادت تقطع الطريق كاملًا عبر حزام كايبر، وأنها تتجه الآن نحو أقرب أطراف سحابةِ أُورت.)

استطرد فورهولست في تفسير كل تلك الأشياء الغريبة (على الأقل لرانجيت)، وهو ما استحوذ على إعجاب الفتى.

وعندما أوشك الدرس على الانتهاء زفَّ فورهولست إليهم أخبارًا سارة. إذ أعلن أن جميع الطلاب في القاعة سيحظون بإمكانية إلقاء نظرة عبر أفضل تليسكوبات سريلانكا في المرصد الواقع أعلى جبل بيدوروتالاجالا. قال فورهولست: «إنه تليسكوب رائع حقًّا يبلغ طوله مترين.» ثم أضاف: «كان هدية من حكومة اليابان كبديل لتليسكوب أصغر كانت قد أهدتنا إياه فيما مضى.» انطلقت أصوات تصفيق الطلاب، لكن ذلك لم يكن شيئًا مقارنة بما فعلوه عندما قال: «وبالمناسبة كلمة المرور الخاصة بي هي “Faraway”. ومسموح لكم جميعًا باستخدامها للوصول إلى أي مواد خاصة بعلم الفلك على شبكة الويب.» عندها انطلقت أصوات هتاف فعلية كان من أكثرها دويًّا تلك التي أطلقها الفتى السنهالي الجالس إلى جوار رانجيت. عندما نظر فورهولست إلى ساعة الحائط، وقال إنه سيخصص الدقائق العشر المتبقية للأسئلة، كان رانجيت من أوائل الطلاب الذين رفعوا أيديهم. قال فورهولست وهو ينظر إلى اللوحة التي تحمل الاسم على مقعد رانجيت قائلًا: «نعم … رانجيت؟»

وقف رانجيت. وقال: «أتساءل إذا كنت قد سمعت عن بيرسي مولزويرث من قبل.»

رفع فورهولست يده فوق عينه لينظر بوضوح إلى رانجيت، وتساءل: «مولزويرث؟ هل أنت من ترينكومالي؟» أومأ رانجيت برأسه إيجابًا. فقال فورهولست: «نعم، إنه مدفون هناك، أليس كذلك؟ أجل سمعتُ عنه. هل بحثت من قبل عن فوهة البركان التي اكتشفها على سطح القمر؟ هيا انطلق. سوف تمكنك كلمة المرور Faraway من الوصول إلى صفحة مختبر الدفع النفاث.»

وكان هذا ما فعله رانجيت على وجه التحديد فور انتهاء المحاضرة. إذ سرعان ما حدد موقع مختبر الدفع النفاث على شبكة الويب مستخدمًا أحد أجهزة الكمبيوتر الموجودة في الردهة، وحمَّل صورة رائعة لفوهة القمر المسمَّاة باسم مولزويرث.

كانت فوهة رائعة حقًّا بلغ عرضها قرابة المائتي كيلومتر. ومع أنها تكاد تبدو مستوية، فإن باطنها كان مرقَّطًا بعدد كبير من فوهات تكونت بفعل نيازك حقيقية ومن بينها فوهة ذات قبة مركزية رائعة الشكل. تذكر رانجيت زياراته إلى قبر مولزويرث في ترينكومالي مع أبيه. كم سيكون رائعًا أن يخبر والده بأنه شاهد فوهة القمر بنفسه. لكن ذلك بدا مستحيلًا.

•••

لم تكن بقية مقررات رانجيت الدراسية مشوقة على الإطلاق مثل مادة أساسيات علم الفلك. تقدم رانجيت لدراسة علم الإنسان لأنه توقع أنه سيكون من السهل اجتياز هذه المادة دون أن يشغل نفسه بها كثيرًا. ومع تقدمه في الدراسة وجد أن المادة يسيرة بالفعل على الرغم من الحقيقة التي لا يمكن إغفالها وهي أنها رتيبة للغاية. تقدم رانجيت أيضًا لدراسة علم النفس لأنه أراد معرفة المزيد عن متلازمة «جي إس إس إم». لكن أستاذ علم النفس أخبره في أول محاضرة أنه لا يؤمن بهذه المتلازمة — بغض النظر عما قد يقوله بعض الأساتذة الآخرين. (قال له مفسرًا: «لأنه إن كان الانشغال بأكثر من عمل في آنٍ واحد يصيبكم ببلادة الذهن، فكيف سيتمكن أحدكم من التخرج يومًا؟») وأخيرًا درس رانجيت الفلسفة؛ لأنها بدت من المواد التي يمكن النجاح فيها دون الحاجة إلى الكثير من المذاكرة.

لكنه كان مخطئًا بشأن الفلسفة. إذ كان البروفسور دي سيلفا من هواة الاختبارات المفاجئة كل أسبوع تقريبًا. ربما كان يمكن لرانجيت أن يتغاضى عن هذا الأمر، لكنه سرعان ما علم أيضًا أن البروفسور من النوع الذي يُلزم طلابه بحفظ التواريخ.

حاول رانجيت أن يهتم بالفلسفة لبعض الوقت. ورأى أن دراسة أفلاطون وأرسطو لم تكن مضيعة للوقت تمامًا. لكن الأمور زادت سوءًا عندما وصل البروفسور دي سيلفا إلى العصور الوسطى حيث الحديث عن بيتر أبيلارد وتوماس أكويناس وغيرهم من الفلاسفة. لم يكترث رانجيت البتة للفرق بين نظرية المعرفة وما وراء الطبيعة أو ما إن كان هناك إله للكون أم لا أو ما هي «الحقيقة» تحديدًا. لذا فإن جذوة اهتمامه بالفلسفة اشتعلت قليلًا، ثم خبت بعد ذلك.

لكن المثير للدهشة أن متعة استكشاف عوالم الشمس الأخرى ازدادت شيئًا فشيئًا. لا سيما في المحاضرة الثانية عندما تطرق الدكتور فورهولست إلى الحديث عن احتمالات زيارة بعض الكواكب بالفعل؛ أو على الأقل كوكب واحد أو اثنين من بين الكواكب الأقل خطرًا.

ألقى فورهولست نظرة سريعة على قائمة الكواكب. عطارد، لا؛ فمن الصعب أن ترغبوا في الذهاب إلى هناك لأنه كوكب شديد الجفاف والحرارة على الرغم من ظهور بعض المياه — أو الجليد بالأحرى — عند أحد قطبيه. يبدو كوكب الزهرة أسوأ؛ إذ إنه محاط بغلاف من ثاني أكسيد الكربون الذي يحتجز الحرارة بداخله. قال فورهولست: «هو نفس الغلاف الذي يسبب الاحتباس الحراري هنا على كوكب الأرض الذي أتمنى أن نهجره يومًا ما. أو نهجر على الأقل أسوأ المناطق فيه.» أضاف فورهولست أن «أسوأ المناطق» هذه على كوكب الزهرة أدت إلى ارتفاع درجة حرارة سطحه إلى الحد الذي ينصهر معه الرصاص.

كان الكوكب التالي في قائمة الكواكب المستثناة هو كوكب الأرض «الذي لسنا في حاجة إلى استيطانه أكثر من هذا» قالها فورهولست مازحًا، وأضاف: «لأنه من الواضح أن شخصًا — أو شيئًا — استوطن الكوكب بالفعل منذ زمن بعيد.» لم يعطِ فورهولست الطلاب فرصة للرد وإنما استطرد على الفور: «لذلك دعونا نلقِ نظرة على كوكب المريخ. هل نود الذهاب إلى المريخ؟ لنطرح السؤال الأكثر تشويقًا، هل ثمة حياة على المريخ؟ دار الجدال حول هذه المسألة سنوات طويلة.» ذكر فورهولست أن عالم الفلك الأمريكي بيرسيفال لويل لم يعتقد في وجود حياة على سطح المريخ فحسب، وإنما قال إنها كانت حياة متمدنة للغاية استُخدمت فيها تقنيات متطورة ساعدت في إنشاء تلك الشبكة الهائلة من القنوات التي لاحظها عالم الفلك جيوفاني سكياباريلي على سطحه. أثبتت التليسكوبات المتطورة — بمساعدة النقيب الراحل بيرسي مولسورث من ترينكومالي — خطأ هذه الفكرة عندما ثبت أن «قنوات» سكياباريلي لم تكن سوى علامات عشوائية خدعته عيناه فظنها خطوطًا مستقيمة. بعد ذلك وضعت البعثات الثلاث الأولى من برنامج مارينر حدًّا لهذا الجدل عن طريق إرسالها صورًا لسطح الكوكب الذي كان يابسًا وباردًا وبه فوهات بركانية. أنهى الدكتور فورهولست حديثه قائلًا: «لكن صورًا أشد وضوحًا لسطح المريخ منذ ذلك الحين أظهرت وجود دلائل على مياه متدفقة فعلًا. بالطبع لم تعد هذه المياه تتدفق الآن، لكن مياهًا حقيقية تدفقت بالقطع على سطح الكوكب في وقت ما في الماضي. لذلك عاود الأمل مؤيدي فكرة وجود حياة على المريخ مرة أخرى.» ثم أضاف: «لكن عاد الرأي الأول إلى الظهور بعدها مرة أخرى. فأيهما صحيح إذن؟» ألقى الدكتور فورهولست نظرة خاطفة على جميع الطلاب، ثم ابتسم. وقال: «أعتقد أن السبيل الوحيد للإجابة عن هذا السؤال هو أن نرسل أشخاصًا إلى المريخ، ويفضل أن يكون معهم الكثير من معدات التنقيب.»

وتوقف فورهولست قليلًا. ثم قال: «أظن أن سؤالكم التالي سيكون: «عن أي شيء سينقبون؟» لكن قبل أن أجيب عن هذا السؤال هل يعرف أحد منكم مكانًا في المجموعة الشمسية لم نُشِر إليه حتى الآن؟»

ساد الصمت هنيهة بينما مائة طالب يعدُّون على أصابعهم — عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ — إلى أن رفعت فتاة في الصف الأمامي صوتها متسائلة: «هل تقصد القمر يا دكتور فورهولست؟»

ألقى فورهولست نظرة على قائمة الأسماء لمعرفة اسمها، ثم أثنى عليها. قائلًا: «أحسنتِ روشيني. لكن قبل أن ننتقل إلى الحديث عن القمر دعوني أعرض عليكم بعض الصور لمكان ذهبت إليه من قبل يُدعى هاواي.»

استدار إلى شاشة العرض خلفه التي بدأت تعرض لقطة أُخذت أثناء الليل لجانب تل مظلم يمتد حتى يصل إلى البحر. كان المنحدر مرقَّطًا بكتل من النيران الحمراء كأنه معسكر لأحد الجيوش، وعندما تصل هذه الكتل إلى الشاطئ يحدث انفجار مدوٍّ كأنها ألعاب نارية فضلًا عن تطاير شهب نارية فوق سطح المياه.

قال فورهولست: «إنها هاواي. تلك الجزيرة الكبيرة. يثور بركان كيلويا، وما ترونه هو حمم البركان تتدفق إلى البحر. وبينما تتدفق هذه الحمم، تهدأ حرارة الجزء الخارجي لكل مجرى صغير من هذه الحمم، وهكذا تتشكل قناة من الأحجار المتصلدة تتدفق بداخلها الحمم السائلة. وقد يحدث في بعض الأحيان أن تخترق الحمم القناة. ثم تشاهدون أيضًا هذه القطع المتفرقة من الحمم الملتهبة وهي تتوهج.» أتاح فورهولست وقتًا للطلاب يتساءلون فيه عن السبب الذي يجعلهم يتحدثون عن هاواي في حين أن موضوعهم كان يدور حول القمر. ثم ضغط جهاز التحكم مرة أخرى لتعرض الشاشة صورة لدكتور فورهولست نفسه إلى جوار فتاة حسناء ترتدي رداءً ضيقًا قصيرًا. كانا يقفان أمام مدخل مكان يبدو ككهف مكسو بالحشائش وسط غابة استوائية مطيرة.

قال فورهولست لطلابه: «إنها آني شكودا التي تظهر معي في الصورة. كانت المشرفة على رسالة الماجيستير الخاصة بي في هيلو؛ ولا تظنوا بي الظنون لأنها تزوجت شخصًا آخر بعد التقاط هذه الصورة بنحو شهر. كنا حينئذٍ على وشك الدخول إلى ما يسميه الأمريكيون قناة حمم ثيرستون. وإن كنت أفضل الاسم الهاوايي وهو ناهوكو لأن الرجل الذي يدعى ثيرستون والذي اشتق منه الاسم لا علاقة له بالقناة. فهو لم يكن سوى ناشر صحفي أطلق حملة لإنشاء منتزه فولكينوز الوطني. على أي حال يمكن تلخيص ما حدث في أنه منذ أربعمائة أو خمسمائة عام ثار بركان كيلويا؛ أو ربما البركان الأقدم منه عهدًا وهو مونا لوا. انطلقت من البركان حمم تشكلت منها قنوات. وعندما توقفت الحمم عن التدفق، نفدت المادة السائلة الموجودة داخل القنوات. لكن هذه القنوات استمرت كقنوات ضخمة من الصخور. وبمرور الوقت اكتست هذه القنوات بالطين والأوساخ وغيرها من المواد الأخرى، لكنها لا تزال مكانها هناك.» توقف فورهولست، وأخذ ينظر إلى صفوف الطلاب. ثم تساءل: «أيمكن لأحد منكم أن يخمن علاقة ذلك بالقمر؟» رفع عشرون طالبًا أيديهم في الحال. فأشار فورهولست إلى الطالب الذي يجلس بجوار رانجيت. «تفضل، جود، أليس كذلك؟»

وقف الفتى متحمسًا. وقال: «كانت توجد براكين على سطح القمر أيضًا.»

أومأ البروفسور. وقال: «بكل تأكيد. لكن ليس منذ زمن قريب لأن حجم القمر ضئيل جدًّا؛ ولذا فقد هدأت حرارته منذ زمن بعيد. لكن ما زلنا نستطيع رؤية المواقع التي وجدت بها براكين هائلة حيث لا تزال تدفقات الحمم البازلتية تغطي مئات الكيلومترات المربعة، وهناك الكثير من النتوءات على سطح القمر — على الأسطح المستوية أو داخل إحدى الفوهات — التي يرجح أن تكون بركانية في الأصل. وإذا كانت هناك تدفقات ونتوءات فلا بد من وجود حمم؛ وإذا كانت هناك حمم فلا بد من وجود ماذا؟»

أجاب عدد من الطلاب في الحال: «قنوات حمم!» كان رانجيت من المجيبين.

وافقهم فورهولست: «بالضبط، قنوات الحمم. على كوكب الأرض، نادرًا ما يزيد قطر قنوات مثل ناهوكو عن مترين، لكن الأمر يختلف على سطح القمر. فبسبب الجاذبية الضئيلة على سطح القمر قد يزداد حجم هذه القنوات بمقدار عشرة أضعاف؛ قد يزداد حجمها ليصبح في حجم القناة التي تربط بين إنجلترا وفرنسا. وهذه القنوات موجودة هناك تنتظر وصول بعض البشر ليحفروا واحدة منها، ويحكموا سد ثغراتها تمامًا، ويملئوها بالهواء … ثم يؤجروا أماكن للنوم بها للمهاجرين من كوكب الأرض.» نظر فورهولست إلى ضوء المؤقِّت أعلى الشاشة الذي تحول من اللون الأخضر إلى الأصفر ثم بدأ يومض باللون الأحمر. وقال: «وتلك نهاية محاضرة اليوم.»

•••

لكن الواقع أن المحاضرة لم تكن قد انتهت بعد لأن العديد من الطلاب ما زالوا يرفعون أيديهم. ألقى الدكتور فورهولست نظرة يرثى لها على ضوء المؤقِّت الذي استقر على اللون الأحمر، ولكنه استسلم لهم. وقال: «حسنًا. سؤال واحد. ما هو؟»

خفض الكثير من الطلاب أياديهم، والتفتوا متحمسين إلى فتًى سبق أن رآه رانجيت بصحبة جود الذي يجلس إلى جواره. تحدث الفتى على الفور كأنه كان يتحين فرصته. وقال: «دكتور فورهولست، يود بعضنا أن يعرف رأيك في أمر ما. فما تقوله دائمًا يعطي انطباعًا أنك تعتقد في وجود حياة في المجرة بعيدًا عن كوكب الأرض. أتعتقد أن هذا الأمر صحيح؟»

نظر فورهولست إلى الفتى نظرة ملؤها الدهشة. وقال: «مهلًا أيها الفِتيان! كيف لي أن أعرف أنه ليس من بين أقاربكم من يعمل مراسلًا صحفيًّا؟ إذا أخبرتكم بما ترغبون في سماعه، فكيف سيجري تداول الخبر: هل سيكون العنوان «عالم فلك في الجامعة يدعي أن أجناسًا غريبة لا حصر لها ستتنافس مع البشر»؟»

أصر الفتى على موقفه. وقال: «أتعتقد في ذلك؟»

تنهد فورهولست. وقال: «حسنًا. إنه سؤال منطقي، وسأعطيك جوابًا منطقيًّا. ليس لديَّ سبب علمي يجعلني لا أومن بأن هناك عددًا — ربما عددًا كبيرًا — من الكواكب التي تصلح للحياة داخل مجرتنا، ولا أي سبب علمي يبرر عدم قيام حضارات متقدمة علميًّا على بعض هذه الكواكب. تلك هي الحقيقة. ولم أنكرها من قبل قط.» ثم أضاف: «بالطبع، أنا لا أتحدث عن كائناتكم الخارقة الغريبة التي تقرءون عنها في المجلات المصورة والتي تريد استعبادنا نحن البشر أو ربما إبادتنا كليةً. مثل … ماذا يُطلق عليهم؟ أعداء سوبرمان الذين أسرهم والده قبل انفجار كوكبهم ووضعهم داخل سجن عائم في الفضاء يشبه كتلة مكعبة الشكل ليقع أمر ما وينجو الجميع؟»

علا صوت من الصف الخلفي قائلًا: «أتقصد الجنرال زود؟» وقال صوت آخر: «والفتاة إيرنا.» ثم أضاف عدد من الطلاب: «ونون أيضًا!»

ابتسم البروفيسور ابتسامة عريضة لهم جميعًا. وقال: «أنا سعيد لأن الكثيرين منكم ملمُّون إلى هذا الحد بالأعمال الكلاسيكية. على أي حال ثقوا فيما سأقوله لكم. ليس هناك وجود لهذه الكائنات. ولن تعزم كائنات فضائية بشعة على أن تبيدنا، والآن دعونا نخرج من هنا قبل أن يستدعوا لنا شرطة الحرم الجامعي.»

•••

مع أن دكتور يوريس فورهولست لم يسمع من قبل عن «عظماء المجرة» أو أيٍّ من الأجناس التابعة لهم — ومن المرجح أن إجابته كانت ستختلف تمامًا لو أنه سمع عنهم — فإن ما قاله كان صحيحًا حرفيًّا. فلن تعزم كائنات فضائية على إبادة البشر. فالكائنات الفضائية الوحيدة المهتمة بفعل هذا قد عقدت العزم بالفعل، وانتقلت إلى أمور أكثر تشويقًا.

لم يكن «عظماء المجرة» مهتمين بالحفاظ على منطقتهم خالية من الأجناس المعادية من منطلق أفكار تتعلق بالعيش في سلام ووئام. فالغاية التي أرادوها — وحققوها — هي أن يحيوا حياة لا يصرفهم فيها شيء عن اهتماماتهم الرئيسية. كان بعض هذه الاهتمامات يتعلق بخططهم لصنع بيئة مجرِّية مثالية؛ تلك الخطط التي تمنوا تحقيقها في غضون عشرة أو عشرين مليار سنة أخرى. كانت لديهم أيضًا اهتمامات أخرى تتشابه مع ما يسميه البشر تقدير الجَمال.

وجد «عظماء المجرة» أن الكثير من الأشياء «جميل» ومن بينها ما يسميه البشر الترقيم، والنوويات، وعلم الكون، ونظرية الأوتار (وغيرها من النظريات)، وعلاقة السببية، وغير ذلك من المجالات الأخرى. قد يقضي «عظماء المجرة» قرونًا — أو آلاف السنين إن شاءوا — في تأمل التغيرات الطيفية الوفيرة التي تحدث أثناء فقد بعض الذرات المفردة — واحدة تلو الأخرى — لإلكتروناتها المدارية، وذلك من منطلق سعيهم للاستمتاع بمظاهر الطبيعة الأساسية. أو ربما يدرسون توزيع الأعداد الأولية التي تزيد عن ١٠٥٠، أو التطور البطيء لأحد النجوم من مجرد خيط رفيع من الغاز والجزئيات المتناثرة من بدء عملية احتراق نووي وصولًا إلى حالته النهائية نجمًا صغيرًا أبيض باردًا أو سحابة من الخيوط الرفيعة والجزيئات.

ولكن كانت لديهم اهتمامات أخرى. من بينها — على سبيل المثال — مشروعهم الخاص بزيادة مقدار العناصر الثقيلة نسبة إلى الهيدروجين الأولي في التركيب الكيميائي للمجرة. (كان لديهم سبب وجيه لتنفيذ هذا البرنامج، لكنه ليس بالسبب الذي يمكن للبشر المعاصرين فهم أبعاده.) إضافة إلى ذلك كان استيعاب اهتماماتهم الأخرى أكثر صعوبة مقارنة باهتمامات البشر. لكنهم اعتبروا أن قمع الشعوب التي من المحتمل أن تمثل خطرًا عليهم أمرًا يستحق التنفيذ.

وهكذا اقتضت البيانات الخاصة بكوكب الأرض اتخاذ إجراء ما. وأمرهم بالكف والتوقف الذي بُثَّ لاسلكيًّا إلى كوكب البشر لا تزال أمامه سنوات قبل الوصول إلى هدفه وفقًا لحركة الضوء البطيئة. لن يكون ذلك كافيًا. بل إنه لن يشكل فارقًا على الإطلاق؛ لأن المطلوب في حقيقة الأمر هو اتخاذ إجراء عاجل. فتلك المخلوقات الفقارية ذات القدمين المعتدة بنفسها لا تمتلك تكنولوجيا الانشطار والاندماج النووي إلى الحد الذي يمكِّنها من إنتاج أسلحة مثيرة للقلاقل فحسب، وإنما لديها بالفعل صناعة أسلحة تنتشر في الكوكب بأكمله ويمكنهم الاعتماد عليها. كان الموقف أكثر خطورة مما ظن عظماء المجرة، وهم لا يتساهلون في التعامل مع ما يثير قلقهم.

عقد «عظماء المجرة» العزم على القضاء على مصدر القلق هذا تحديدًا.

يوجد العديد من وسائل الاتصال المتاحة لدى «عظماء المجرة» عندما يرغبون في نقل أمر ما إلى أحد الأجناس التابعة لهم. وكان من بينها — على سبيل المثال — الراديو البسيط الذي يتميز بالكفاءة لكنه بطيء إلى أبعد الحدود. لا يمكن لأي إشارة كهرومغناطيسية — ضوءًا كانت أو رادارًا أو أي نوع آخر — أن تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء التي توصل إليها أينشتاين ورمز لها بالرمز (c) وهي السرعة القصوى المطلقة وتساوي نحو ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية. ابتكر «عظماء المجرة» آلات أسرع — متسللين عبر ثغرات النسبية — بمعدل أربع أو خمس مرات على أكثر تقدير.

غير أن «عظماء المجرة» أنفسهم — أو أي جزء صغير يمكن فصله منهم — لم يعانوا من مثل هذه العوائق نظرًا إلى كونهم كائنات غير باريونية عظيمة الشأن. ولأسباب تتعلق بهندسة الزمكان ذي الأبعاد العشرة، فإن انتقالهم كان يتكون من عدد من الدورات؛ من (أ) إلى (ب)، ومن (ب) إلى (ﺟ)، وربما ينطلقون من (ﺟ) إلى الجهة التي يقصدونها مباشرة. ومع ذلك فإن وقت الانتقال لكل دورة دائمًا ما يكون صفرًا سواء أكان الانتقال عبر قطر أحد البروتونات أم كان من قلب المجرة إلى أبعد ذراع حلزونية فيها.

وهكذا اتخذ «عظماء المجرة» الخطوة المزعجة المتمثلة في فصل مجموعة صغيرة منهم لتنقل الأمر إلى كائنات «واحد فاصل خمسة»؛ وهكذا فإن كائنات «واحد فاصل خمسة» تتلقى أوامر الانطلاق في نفس الوقت الذي يقرر فيه «عظماء المجرة» إصدارها لهم. ولما كانت كائنات «واحد فاصل خمسة» قد توقعت القرار مقدَّمًا، فقد كانوا على أهبة الاستعداد عندما وصلتهم الأوامر.

لم ترَ كائنات «واحد فاصل خمسة» سببًا للتأخير. فأسطول الغزو الهائل الذي يمتلكونه جاهز للانطلاق تمامًا. وقد أطلقوه.

وبالطبع، كانت كائنات «واحد فاصل خمسة» كائنات مادية تمامًا؛ ولذا فإنها لم تكن بمنأى عن الخضوع لقاعدة سرعة الضوء. فربما ينقضي عمر جيل من البشر تقريبًا قبل أن يصل الأسطول إلى وجهته ويبيد الجنس البشري البغيض. لكنه أصبح في طريقه بالفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤