عودة إلى الأرض
شهدت أوضاع رانجيت سوبرامانيان تغيرًا نحو الأفضل؛ ذلك إن تجاهلنا أن جاميني لا يزال على بعد تسعة آلاف كيلومتر، وأن والد رانجيت ربما كان بعيدًا بنفس القدر هو الآخر. كانت الأحداث تتصاعد مجددًا في العراق حيث يحرس قاطعو طرق مسيحيون مفتولو العضلات ببنادقهم الآلية جانبًا من أحد الكباري لا يريدون أن يعبره الإسلاميون؛ بينما يحرس إسلاميون مسلحون على نفس الدرجة من القوة الجانب الآخر من الكوبري ليحولوا دون تلويث المسيحيين جانبهم من النهر.
كان هناك الكثير من هذه الأحداث، لكنها بلا شك لم تكن بالأحداث التي تمنح رانجيت شعورًا مؤقتًا بالسعادة.
غير أن الأشياء التي تُشعره بالسعادة موجودة بالفعل. فهو لم يكن يستمتع بدراسة أساسيات علم الفلك فحسب، وإنما كان يبلي فيها بلاءً حسنًا. حتى إن أسوأ الدرجات التي حصل عليها في اختباراته كانت تقترب من تسعين درجة، وربما قِيس ودُّ أستاذه له (مثلما كان واضحًا من عبارات المديح التي أغدقها على أسئلة رانجيت ومناقشاته) بأعلى من ذلك. بالطبع، وجد الدكتور فورهولست طرقًا مختلفة للإشادة بجميع الطلاب تقريبًا في فصله. واعتبر رانجيت أن ذلك لم يكن من منطلق تساهله أو توانيه. فالأرجح أنه ما من أحد ينضم إلى فرقته دون أن تستهويه فكرة ذهاب البشر لزيارة بعض تلك العوالم الغريبة الأخرى في وقت ما وبصورة ما. وعندما حصل رانجيت على الدرجة النهائية للمرة الثالثة على التوالي في أحد الاختبارات جال بخاطره للمرة الأولى أنه يمتلك مقومات الطالب الذي قد يصبح محل فخر والده.
وعلى سبيل التجربة حاول رانجيت أن يأخذ دروسه الأخرى على محمل الجد قليلًا. راجع رانجيت قائمة الكتب التي حددها أستاذ الفلسفة لمن يرغب في الحصول على درجات إضافية، واختار من بينها كتابًا بدا عنوانه مشوقًا. لكنه عندما أخذ الكتاب الشهير «لفياثان» للفيلسوف توماس هوبز معه إلى غرفته لم يعد الكتاب مشوقًا كما ظنه في البداية. هل كان هوبز يقول إن العقل البشري يشبه الآلة؟ لم يكن رانجيت متأكدًا من ذلك. فضلًا عن أنه لم يستطع استيعاب الفرق بين مفهومَي الإثابة الملزمة والإثابة غير الملزمة. ومع أنه استوعب تمامًا ما قاله توماس هوبز عندما أثنى على «الدولة المسيحية» باعتبارها أسمى أشكال الدول، فلم تكن تلك فكرة تروق الفتى اللاأدري المتشدد ابن كبير كهنة أحد المعابد الهندية. ما من شيء في كتاب هوبز بدا وثيق الصلة بحياة أي شخص يعرفه رانجيت. أعاد رانجيت الكتاب عابسًا إلى المكتبة، ثم توجه إلى غرفته لا يرغب في شيء سوى ساعة قيلولة هادئة.
وجد رانجيت خطابين في انتظاره. كان أحدهما داخل مظروف أصفر مختوم بختم الجامعة الذهبي. ظن رانجيت أن هذا الخطاب في الأغلب إخطار من المسئولين عن الحسابات المصرفية للطلاب يُعلمونه فيه بأن والده قد أرسل إيجار سكنه لمدة ثلاثة أشهر أخرى. لكن الخطاب الآخر كان من لندن ما يعني أنه من جاميني. لذا، فتحه رانجيت على الفور.
ظن رانجيت أن تلقيه أخبارًا من جاميني سيضفي بهجة على هذا اليوم الكئيب، لكن خاب أمله فور قراءة الخطاب. لم يضف الخطاب أية بهجة. كان الخطاب مقتضبًا، ولم يشر في أي موضع إلى أن جاميني يفتقد رانجيت. كان الخطاب يتركز حول حضور عرض لواحدة من أقل مسرحيات شكسبير الكوميدية متعة في مكان يسمى «باربيكان». ذكر جاميني أنه لسبب ما طلب المخرج من جميع شخصيات العمل ارتداء ملابس بيضاء مجردة من التفاصيل، ولذا لم يستطع هو أو مادج تمييز الشخصية التي تتحدث في كثير من الأحيان.
الرجاء الحضور إلى مكتب العميد في الساعة الثانية ظهرًا يوم الثلاثاء المقبل. ثمة ادعاء بأنك استوليت على كلمة المرور الخاصة بأحد أعضاء هيئة التدريس خلال السنة الدراسية الماضية. عليك إحضار أي مستندات أو أوراق أخرى تعتبرها ذات صلة بهذه التهمة.
وكان الخطاب موقعًا باسم عميد شئون الطلبة.
•••
عرف رانجيت أن السيدة الجالسة في مكتب استقبال العميد تاميلية الأصل من اللوحة التي طُبِع عليها اسمها، وهو ما بث في نفسه شيئًا من الطمأنينة، لكنها كانت في سن والده. أطلت من عينيها نظرة فاترة. وأبلغته: «نحن في انتظارك. يمكنك الدخول إلى مكتب العميد.»
لم تُتح لرانجيت فرصة زيارة مكتب عميد شئون الطلبة من قبل. ومع ذلك فقد عرف كيف يبدو الرجل — لأن ملف أعضاء هيئة التدريس على الصفحة الرئيسية لموقع الجامعة يعرض صورًا شخصية لهم — وعرف أيضًا أن الرجل المسن الذي يقرأ الجريدة على المكتب الماهوجاني الكبير لم يكن العميد قطعًا. غير أن الرجل وضع جريدته وقام من مكانه، صحيح أن وجهه لم تعْلُه ابتسامة واضحة، لكن بالقطع لم تطل منه نظرة الجلاد التي توقعها رانجيت. دعاه قائلًا: «تَقدَّم سيد سوبرامانيان. تفضل بالجلوس. أنا الدكتور دينزيل دافودبوي رئيس قسم الرياضيات، ولأنه من الواضح أن للمسائل الرياضية دورًا مهمًّا هنا، فقد طلب مني العميد أن أجري هذه المقابلة نيابة عنه.»
لم يكن ذلك سؤالًا، ولم يدرِ رانجيت أي جواب سيكون ملائمًا. فاكتفى بمواصلة النظر إلى أستاذ الرياضيات بينما يرتسم على وجهه تعبير يوحي بالاهتمام الشديد لكن دون إقرار بالذنب.
بدا أن دكتور دافودبوي لم يبالِ بذلك. وأردف قائلًا: «أولًا، ثمة سؤالان رسميان لا بد أن أطرحهما عليك. هل استخدمت كلمة المرور الخاصة بدكتور داباري للاستيلاء على أموال ليست من حقك؟»
أجاب رانجيت على الفور: «بالقطع، لا يا سيدي!»
سأل دكتور دافودبوي: «أو لتغيير درجاتك في مادة الرياضيات؟»
غضب رانجيت هذه المرة. وأجاب: «كلَّا! أعني لا يا سيدي، ما كنت لأفعل شيئًا كهذا!»
أومأ دكتور دافودبوي كأنه توقع كلتا الإجابتين. ثم قال: «يمكنني أن أخبرك بأنه ما من دليل يؤكد تورطك في أيٍّ من التهمتين. وأخيرًا، كيف حصلت بالضبط على كلمة المرور؟»
رأى رانجيت أنه لا يبدو أن هناك داعيًا لمحاولة إخفاء أي شيء. وأملًا في تفهُّم حسن نواياه، فقد بدأ الاعتراف باكتشافه أن أستاذه سيكون خارج البلاد لمدة طويلة، وانتهى بعودته إلى كمبيوتر المكتبة عندما وجد الحل على الشاشة.
وعندما انتهى رانجيت، حدق دافودبوي في وجهه هنيهة ساد خلالها الصمت. ثم قال: «أتدري يا سوبرامانيان، قد يكون لك مستقبل في علم التشفير. سيكون ذلك أفضل من قضاء حياتك في محاولة إثبات النظرية الأخيرة لفيرما.»
نظر دافودبوي إلى رانجيت كأنما ينتظر ردًّا. لكن رانجيت لم يُحِرْ جوابًا ما جعل دافودبوي يستطرد: «لست الوحيد الذي يفعل ذلك. فعندما كنت في مثل سنك — وكأي دارس متخصص في الرياضيات في العالم — أثارت النظرية الأخيرة اهتمامي. إنها مثيرة للاهتمام، أليس كذلك؟ لكن بعدها — عندما تقدم بي السن قليلًا — توقفت عن التفكير فيها لأنه … أنت تعرف ذلك، أليس كذلك؟ لأن ثمة احتمالًا كبيرًا جدًّا ألا يكون فيرما قد عثر على البرهان الذي ادعى وجوده.»
ولما لم تكن لدى رانجيت رغبة في أن يستدرجه دافودبوي للحديث عن هذه النقطة، فقد ظل مصغيًا بأدب ولم ينطق بشيء. أضاف دافودبوي: «أقصد فكر في الأمر على النحو التالي. أظن أنك تعلم أن فيرما قضى معظم حياته — إلى أن وافته المنيَّة — محاولًا إثبات صحة نظريته على القيم المرفوعة إلى الأسس ثلاثة وأربعة وخمسة. فكِّرْ في هذا الأمر. هل هناك مغزى على الإطلاق من وراء ذلك؟ أقصد إن كان الرجل قد وجد بالفعل برهانًا عامًّا يثبت صحة القاعدة فيما يتعلق بجميع الأسس الأعلى من الأس التربيعي، فلماذا بذل جهدًا في إثبات بضعة أمثلة متفرقة؟»
كزَّ رانجيت على أسنانه. فقد سبق أن طرح على نفسه هذا السؤال مرارًا وتكرارًا خلال الليالي الحالكة والأيام الموحشة. غير أنه لم يجد جوابًا مُرضيًا أيضًا. أجاب رانجيت بالجواب الذي لم يكن مُرضيًا تمامًا والذي دائمًا ما كان يحاول إقناع نفسه به: «من يدري؟ كيف يمكن لشخص مثلك أو مثلي أن يخمن السبب الذي من أجله سلك عقل كعقل فيرما هذا المسلك أو ذاك؟»
لم تتبدل تعبيرات وجه رانجيت. وعلق قائلًا: «تلك نظرية معقولة تمامًا. لكنني لا أظن أن ذلك ما حدث.»
ضحك دافودبوي. وقال: «حسنًا سوبرامانيان. دعنا نتوقف هنا. لا تكرر ما فعلته مجددًا.» ثم قلَّب بين الأوراق الموضوعة أمامه، وأومأ برأسه، وأغلق الملف. وتابع قوله: «الآن يمكنك العودة إلى محاضراتك.»
«حسنًا، سيدي.» قالها رانجيت وتلكأ بعض الوقت بعد حمل حقيبته، ثم تساءل: «لكن هل سأتعرض للفصل من الجامعة؟»
بدا أستاذ الرياضيات مندهشًا. وتساءل: «تتعرض للفصل؟ كلَّا، لا شيء من هذا القبيل. إنها المرة الأولى التي تخرق فيها القانون، كما تعرف. نحن لا نفصل الطلاب لأسباب كهذه ما لم يكن الأمر أشد سوءًا من الاستيلاء على كلمة مرور؛ وعلى كل حال تلقى العميد بعض خطابات التأييد التي تثني عليك كثيرًا.» وأعاد دافودبوي فتح ملف رانجيت مرة أخرى، وقلَّب بين الأوراق. ثم قال: «حسنًا. ها هي الخطابات. أحدها من والدك. إنه واثق تمامًا من أنك تتمتع بشخصية جيدة. لا شك أن رأي الأب في ابنه الوحيد قد لا يكون في حد ذاته ذا أهمية كبيرة، لكن ها هو خطاب آخر. يكاد يشبه خطاب والدك في الإشادة بك لكنه من شخص لا أظن أنه على علاقة وطيدة بك غير أنه يحظى بالكثير من التقدير في الجامعة. إنه محامي الجامعة السيد داتوسينا باندارا.»
حينئذٍ صار لدى رانجيت لغز آخر يمعن في التفكير فيه. فمن كان يتوقع أن يجهد والد جاميني نفسه لإنقاذ صديق ابنه؟