الفصل السابع

الوصول إلى هناك

كانت السنة الدراسية تقترب من نهايتها ببطء. وكانت المحاضرات التي يقضيها رانجيت في دراسة علم الفلك تمر بسرعة ملحوظة في حين تنقضي ساعات الأسبوع الأخرى ببطء شديد.

ولفترة قصيرة راود رانجيت الأمل في العثور على بقعة مشرقة؛ وإن كانت مشرقة إلى حد ما. عندما تذكر المحاضرة التي دارت حول ما أُطْلِق عليه الخطة الشمسية المائية للبحر الميت المطل على إسرائيل، عاد مرة أخرى إلى سلسلة المحاضرات. لكنه وجد أن المُحاضر يتحدث حينئذٍ عن الملوحة المتزايدة لعدد كبير من الآبار المطلة على المحيطات في مختلف أنحاء العالم، وتحدث بعدها عن أن عددًا من أكبر الأنهار في العالم لم تعد تَصُب في البحر، أي بحر؛ إذ نُزِحَت مياهها من أجل الزراعة وتنظيف المراحيض بالمياه الدافقة وري حدائق المنازل في المدن أولًا. كان هذا القدر من التثبيط كافيًا لرانجيت. فتوقف عند هذا الحد.

فكر رانجيت لحظةً في أن يأخذ — أو على الأقل يتظاهر بأخذ — دراسته على محمل الجد. إذ يمكن اعتبار الدراسة لعبة مثلًا، بل ولعبة يسهل الفوز فيها إلى حد بعيد. لم يكن هناك أي وجه للمقارنة بين الدراسة وبين هذا التعطش الهائل للتعلم الذي ميز تكريس نفسه في سن مبكرة لحل نظرية فيرما. كل ما كان يتعين على رانجيت فعله حينئذٍ أن يخمن الأسئلة التي ربما يطرحها مدرسوه في كل اختبار وأن يبحث عن إجاباتها. لم يكن تخمين رانجيت في محله دائمًا، لكنه ما كان في حاجة إلى ذلك إذا أراد الحصول على درجة اجتياز الاختبار فحسب.

وبالطبع، لا شيء من هذا ينطبق على مادة أساسيات علم الفلك.

نجح الدكتور فورهولست في أن يجعل من كل محاضرة مصدرًا للمتعة. مثلما حدث عندما تحدثوا عن فكرة استصلاح الكواكب؛ أي تهيئة أسطح الكواكب بما يتيح حياة البشر عليها. إذا فكرتم في استصلاح الكواكب، فكيف يمكنكم الوصول إلى هناك لعمل ذلك؟

كان رانجيت سيجيب: «بالسفن الصاروخية.» وبينما شرع بالفعل في رفع يده للإجابة عن السؤال، اعترضه المدرس بسؤال آخر. وجه الدكتور فورهولست سؤاله إلى جميع الطلاب — وتحديدًا المجموعة التي كانت ترفع أياديها مثل رانجيت: «ستقولون «بالسفن الصاروخية»، أليس كذلك؟ حسنًا. دعونا نفكر في الأمر قليلًا. لنفترض أننا نود البدء باستصلاح المريخ، لكن كل ما يتوفر لدينا لهذا العمل هو أقل مقدار ممكن من معدات الحفر الثقيلة. لنقل على سبيل المثال جرافة عكسية ضخمة جدًّا. وبلدوزر. وشاحنتين قلابتين متوسطتَي الحجم. ووقودًا يكفي لتشغيل كل هذه المعدات مدة ستة أشهر أو نحو ذلك. فتلك فترة كافية لبدء العمل على أي حال.» توقف فورهولست وعينه على طالب رفع يده للتوِّ في الصف الثاني. وقال: «تفضل، جاناكا أليس كذلك؟»

وقف الفتى الذي يدعى جاناكا متحمسًا. وقال: «لكن الدكتور فورهولست، هناك خطة متكاملة لاستخراج الوقود من مصادر موجودة على كوكب المريخ بالفعل!»

ابتسم له البروفسور. وقال: «أنت محق تمامًا، يا جاناكا. على سبيل المثال، إذا كانت هناك حقًّا كمية كبيرة من الميثان أسفل الأرض الجليدية لكوكب المريخ — مثلما يعتقد الكثيرون — فيمكننا حرق هذا الميثان من أجل الحصول على الوقود على افتراض أننا سنجد بعض الأكسجين لإتمام عملية الحرق. ولكي نقوم بذلك سنحتاج بالطبع إلى الكثير من المعدات الثقيلة التي ستحتاج إلى كميات كبيرة من الوقود إلى أن تعمل معدات استخراج الوقود.» ابتسم فورهولست إلى الفتى ابتسامة ودية. وقال: «وهكذا يا جاناكا أعتقد أنك إذا أردت استصلاح سطح أيٍّ من الكواكب في المستقبل القريب، فستحتاج في الغالب إلى نقل الوقود إلى هذا الكوكب. دعنا إذن نفكر في الأمر.»

التفت فورهولست إلى السبورة البيضاء وبدأ يكتب. وقال بصوت عالٍ: «لنقل ستة أو ثمانية أطنان من الوقود كبداية. ثم تأتي آلات الحفر نفسها … ماذا تظنون عشرين أو ثلاثين طنًّا أخرى على الأقل؟ ولكي ننقل شحنة حمولتها ثمانية وعشرون طنًّا كهذه من مدار أرضي منخفض إلى المريخ، فسنحتاج إلى وضعها في إحدى سفن الفضاء. لا أدري كم ستزن كتلة السفينة، لكن لنقل إن السفينة نفسها تستهلك خمسين أو ستين طنًّا إضافة إلى الوقود الذي سيعمل على انطلاقها من المدار الأرضي المنخفض إلى المريخ.» تراجع فورهولست ليلقي نظرة على الأرقام المكتوبة على السبورة وقطب جبينه. ثم التفت برأسه إلى الطلاب وقال: «يؤسفني أن لدينا مشكلة. لن تبدأ كل هذه الأشياء رحلتها في مدار أرضي منخفض، أليس كذلك؟ قبل أن تتجه السفينة نحو المريخ سنحتاج إلى إدخالها في مدار أرضي منخفض. وللأسف سيكون ذلك مكلفًا للغاية.»

توقف فورهولست وهو ينظر بأسًى إلى طلابه. كان ينتظر خروج بعضهم بحل لهذه المعضلة، وهو ما فعلته إحدى الفتيات بعد قليل. إذ قالت: «ذلك لأنها لا بد من أن تتخلص من الجاذبية الأرضية تمامًا، أليس كذلك الدكتور فورهولست؟»

ابتسم لها فورهولست ابتسامة عريضة. وقال وهو ينظر إلى المؤقِّت الذي تحول لتوِّه إلى اللون الأصفر: «تمامًا روشيني. وهكذا نرى أن الخطوة الأولى هي المعضلة الكبرى. أهناك ما يمكننا فعله لتيسير هذه الخطوة؟ هذا ما سنحاول اكتشافه في المرة القادمة. لكن إذا كنتم لا تطيقون انتظار الإجابة، فعليكم باستخدام محركات البحث.»

وبينما يهم الجميع بالوقوف، قال فورهولست: «ثمة أمر آخر. أنتم مدعوون جميعًا لحضور حفل انتهاء الفصل الدراسي في منزلي. لا ترتدوا شيئًا سوى الملابس التي تحضرون بها إلى الجامعة، ولا تحضروا معكم أي هدايا إنما يكفي حضوركم. لكن لا بد أن تحضروا. فإذا لم تفعلوا، فستغضب والدتي.»

•••

من بين الأمور التي أعجبت رانجيت كثيرًا في أستاذ علم الفلك — بعيدًا عن مثل هذه المفاجآت المذهلة وغير المتوقعة كحفلات انتهاء الفصل الدراسي — أن الدكتور فورهولست لم يكن يقضي الكثير من الوقت في اتباع طرق التدريس التقليدية. فعندما يخبر فورهولست الطلاب — في نهاية كل محاضرة — بموضوع المحاضرة التالية يكون على يقين من أن المائة طالب شديدي الولع بفكرة السفر إلى الفضاء سوف يبحثون في هذا الموضوع قبل موعد المحاضرة التالية بوقت طويل. (أما القلة التي لم تبدأ الدراسة بهذا القدر من الحماس — وهم هؤلاء الذين توهموا أنهم سيدرسون مادة سهلة يحصلون فيها على أعلى تقدير دون جهد — إما توقفوا عن دراسة علم الفلك أو أصيبوا بعدوى الحماسة من أصدقائهم.) وهكذا كان الدكتور فورهولست يُمسك في كل محاضرة بزمام المحاضرة التي تليها.

غير أن رانجيت لم يتمكن هذه المرة من إجراء بحثه على الفور. كانت لديه التزامات أخرى. فعليه أن ينتهي أولًا من محاضرة الفلسفة الرتيبة التي تستغرق ساعة وخمسين دقيقة. ثم يعقبها وجبة الغداء التي تتكون من ساندويتش مثير للاشمئزاز وتشكيلة من العصائر الفاترة رديئة النوعية التي يزدردها رانجيت على عجل ليلحق بحافلة الساعة الثانية التي تقلُّه إلى المكتبة.

خارج حجرة الطعام كان الطالب الجالس إلى جوار رانجيت في محاضرة أساسيات علم الفلك واقفًا مع بعض أصدقائه يحمل له بعض الأخبار. «ألم تسمع ما وعد به الدكتور فورهولست من أجل المحاضرة القادمة؟ كنت أخبر أصدقائي للتوِّ عن هذه الأخبار. إنه مشروع أرتسوتانوف. يقول فورهولست إنه يمكننا بناء المشروع هنا! في سريلانكا! لأن البنك الدولي أعلن لتوِّه أنه تلقى طلبًا بتمويل دراسة لبناء محطة طرفية في سريلانكا!»

همَّ رانجيت بالسؤال عن معنى كل هذا عندما قال أحد الطلاب: «لكنك قلت إن هذا الأمر قد لا يفلح يا جود.»

ارتسمت ملامح الأسى على وجه جود فجأة. وأقر قائلًا: «أجل، هذا صحيح. إنهم هؤلاء الملاعين من الأمريكيين والروس والصينيين الذي يمتلكون كل النفوذ؛ والمال أيضًا. من المرجح أنهم سيعرقلون تحقيق هذا الأمر؛ لأنه ما إن يجري تشغيل مصعد أرتسوتانوف حتى يكون بوسع أي دولة ضئيلة الشأن في العالم امتلاك برنامج فضاء خاص بها. حتى نحن في سريلانكا! لكنهم يعتبرون هذا الأمر حكرًا عليهم! ألا تتفقون معي؟»

عندما استبد الجوع بمجموعة الطلبة السنهاليين اعتبر رانجيت ذلك مخرجًا من المأزق الذي وجد نفسه فيه؛ لأنه لم يكن لديه رد على السؤال؛ بل لم تكن لديه فكرة عما كان يتحدث عنه جود من الأساس. وفي المكتبة — حيث محركات البحث — أخذ رانجيت ينهل من المعلومات بسرعة فائقة. وكلما زادت معرفته زادت مشاركته لما كان يشعر به جود من إثارة. أهذه هي الخطوة الأولى الصعبة للخروج من سطح الأرض إلى مدار أرضي منخفض؟ مع وجود مصعد الفضاء أرتسوتانوف، لن يكون هذا مشكلة على الإطلاق!

صحيح أن دراسات الجدوى ما زالت بعيدة كل البعد عن وجود عربة حقيقية يقفز المرء بداخلها ويُسحَب بسرعة عالية إلى مدار أرضي منخفض دون الحاجة إلى ملايين اللترات من وقود الدفع السائل المتفجر. لكنه أمر وارد الحدوث. ربما يحدث ذلك عاجلًا أو آجلًا، وقد يصبح رانجيت سوبرامانيان عندئذٍ واحدًا من المحظوظين الذين يدورون حول القمر، ويتجولون بين أقمار كوكب المشتري، وربما يتنزهون في صحاري المريخ القاحلة.

وحسبما أوضحت محركات البحث لرانجيت فإنه في عام ١٨٩٥ ألقى قسطنطين تسيولكوفسكي — أول روسي يفكر في السفر إلى الفضاء — نظرة على برج إيفيل وبعدها اختمرت الفكرة في ذهنه. فقال إن من بين السبل الجيدة لإدخال إحدى سفن الفضاء إلى المدار بناء برج عالي الارتفاع مزود بمصعد مدمج بداخله ورفع السفينة إلى قمة البرج قبل تشغيلها وتركها تجول في الفضاء.

غير أنه في عام ١٩٦٠ قرأ مهندس من لينينجراد يُدعى يوري أرتسوتانوف كتاب قسطنطين تسيولكوفسكي، وسرعان ما أدرك أن هذه الخطة لن تنجح. كان ذلك درسًا تعلمه قدماء المصريين منذ زمن بعيد — وكذلك شعب المايا — بعد مرور بضعة آلاف من السنين في الجانب الآخر من العالم. والدرس هو أن هناك حدًّا أقصى للارتفاع عند بناء برج أو هرم، وأنه يتحدد بواسطة الانضغاط.

في البناء المرتكز على الانضغاط — وهو أي بناء يبدأ من الأرض إلى أعلى — لا بد أن يدعم كل طابق وزن جميع الطوابق التي تعلوه. ومعنى ذلك أننا سنحتاج إلى مئات الكيلومترات من الطوابق حتى نصل إلى مدار أرضي منخفض، وليست هناك على الإطلاق مادة بناء تدعم هذا الوزن دون أن تتعرض للانهيار.

كانت فكرة أرتسوتانوف تقوم على إدراك أن الانضغاط ليس سوى واحد من الطرق الممكنة لتشييد أحد المباني. وتوجد بالمثل طريقة أخرى يمكن تطبيقها وهي التوتر.

البناء المرتكز على التوتر — الذي يتكون من كابلات متصلة بجسم دائر على سبيل المثال — فكرة جيدة من الناحية النظرية، وإن كان تطبيقها صعبًا عمليًّا إذا نظرنا إليها من منظور مهندس ليس لديه سوى الأدوات التي كانت متاحة في منتصف القرن العشرين لتصنيع الكابلات. لكن، حسبما زعم أرتسوتانوف، من قال إن المواد المتطورة لتصنيع الكابلات التي ربما تظهر بعد بضعة عقود لن تصلح لهذا الغرض؟

عندما سنحت لرانجيت فرصة الخلود إلى النوم أخيرًا في تلك الليلة كانت الابتسامة تعلو وجهه — وظلت هكذا حتى أثناء نومه — لأنه للمرة الأولى منذ وقت طويل وجد شيئًا يستحق ابتسامته حقًّا.

***

في الصباح التالي كانت البسمة لا تزال تعلو وجهه وهو يتناول طعام الإفطار ويحصي الساعات المتبقية (التي كادت تصل إلى مائة وأربعين ساعة) على موعد محاضرة أساسيات علم الفلك القادمة. لم يخالج رانجيت أدنى شك في أن محاضرات علم الفلك هي أكثر البقع المشرقة في عامه الدراسي …

وما دام الأمر كذلك، لِمَ لا يغير رانجيت تخصصه العام من الرياضيات إلى علم الفلك؟

توقف رانجيت عن مضغ الطعام ليمعن النظر في هذا الأمر، لكنه لم يصل إلى نتيجة حاسمة. فثمة شيء في عقله لن يدعه يتخذ قرارًا رسميًّا بالشعور باليأس تجاه علم الرياضيات. وهذا يعني إلى حد بعيد — سواء أكان ذلك صوابًا أم خطأً — أنه يئِس من حل نظرية فيرما.

من ناحية أخرى، كان تخصص رانجيت في الرياضيات دون دراسة أي مقررات خاصة بعلم الرياضيات أمرًا غريبًا تمامًا مثلما ذكرت المرشدة الأكاديمية في المحاضرة الوحيدة التي حضرها رانجيت لها.

فطن رانجيت إلى حل لتلك المشكلة، وها هي فترة الصباح بالكامل شاغرة أمامه لتنفيذ ما فكر فيه. ما إن وصلت المرشدة إلى مكتبها حتى تبعها رانجيت ليحسم أمره في هذا الشأن، وبحلول الظهيرة كان رانجيت قد سجل اسمه رسميًّا وعلى نحو متأخر ضمن الدارسين لمادة أساسيات الإحصاء. ولماذا الإحصاء؟ حسنًا، إنها فرع من فروع الرياضيات على أي حال. لكن ماذا عن الانضمام إلى صفوف الدارسين متأخرًا هكذا، كيف سينجح ذلك؟ أكد رانجيت لها أنه لا توجد لديه مشكلة في ذلك؛ فلا توجد مادة من مواد الرياضيات في الجامعة يعجز رانجيت عن فهمها في وقت قصير على أية حال. وهكذا فإنه بحلول وقت الغداء كان رانجيت قد توصل إلى حل إحدى مشكلاته على الأقل، على الرغم من أنها في رأيه لم تكن على قدر من الأهمية يجعلها تستحق الحل. وبوجه عام بدأ رانجيت غداءه الممل وهو يشعر بابتهاج شديد.

بعدئذٍ ساءت الأوضاع.

ترك بعض الحمقى صوت الراديو عاليًا على الأخبار بدلًا من همس الموسيقى الذي كان طلبة الجامعة يرغبون في سماعه أثناء تناول وجباتهم. ولم يدرِ أحد كيف يطفئ الراديو.

لا بد أن الأخبار الرئيسية في هذا اليوم هي نفس الأخبار التي لا يرغب رانجيت في سماعها؛ لأن جميع أخبار العالم تكاد تكون كذلك.

ومع هذا أنصت رانجيت باهتمام؛ فالأخبار تذاع بالفعل. كانت الأخبار سيئة كما توقع، فما زالت كل الحروب الصغرى تزداد حدة إلى جانب تهديدات بشن حروب جديدة كالمعتاد دائمًا. بعدها انتقلت الأخبار لإذاعة الأخبار المحلية في كولومبو. لم تكن مثل هذه الأخبار محل اهتمام رانجيت إلى أن لفتت إحدى الكلمات انتباهه. كانت الكلمة هي «ترينكومالي».

أعار رانجيت الأخبار أذنًا صاغية. يبدو أن رجلًا من ترينكومالي أُوقِف لأنه لم يفسح الطريق بشاحنته القديمة أمام سيارة شرطة كانت تطلق صافرة الإنذار. (الواقع أن الشرطي الذي كان يستقل السيارة كان متوجهًا إلى أحد الأماكن لتناول الغداء). وعندما أوقف الشرطي شاحنة الرجل إلى جانب الطريق، وألقى نظرة عليها كالمتبع في هذه الحالات. وجد حمولة من مِحْمَصات الخبز الكهربائية والخلاطات وغيرها من الأجهزة المنزلية الصغيرة دون أن يتلقى تفسيرًا واضحًا من الرجل حول كيفية وصول هذه الأجهزة لحوزته.

ما إن سمع رانجيت قارئ النشرة الإخبارية يذكر اسم المتهم حتى توقف عن تناول الطعام وملعقة الأرز في الطريق إلى فمه. كان الاسم هو كيرثيس كاناكاراتنام.

ساءت حالة رانجيت عن ذي قبل. لم يستطع تذكر الموضع الذي سمع به هذا الاسم. بدا الاسم مألوفًا إلى حد ما، لكن من أين؟ المدرسة؟ معبد والده؟ ربما يكون من أي مكان، حاول رانجيت قدر المستطاع لكنه لم يتذكر صاحب الاسم. وفي الأخبار التي أذيعت لاحقًا — بعد الغداء بوقت طويل وبعد أن كفَّ رانجيت عن التفكير في صاحب الاسم — ذُكر أن المتهم ترك وراءه زوجة وأربعة أطفال صغار.

قال رانجيت لنفسه إن الأمر لا يعنيه في شيء. لكنه أخفق في إقناع نفسه بذلك؛ لأنه إذا لم يكن يعرف من هو كيرثيس كاناكاراتنام هذا تحديدًا، فكيف له أن يعرف أنه ليس صديقًا تعرف عليه في فترة ما؟

ولهذا السبب أجرى رانجيت اتصالًا هاتفيًّا بالشرطة. اتصل رانجيت برقم مقر الشرطة الرئيسي من هاتف في مكان قلَّما يذهب إليه في الحرم الجامعي. أجابته امرأة يبدو أنها ليست صغيرة في السن وليست من النوع الذي يفصح عن المعلومات أيضًا. سجين يُدعى كيرثيس كاناكاراتنام؟ نعم، ربما. يوجد عدد كبير من الأشخاص المحتجزين في سجون كولومبو، وهؤلاء لا يذكرون أسماءهم الصحيحة دائمًا. أيمكن للمتصل أن يذكر المزيد من المعلومات عن هذا الشخص؟ أسماء عدد من رفاقه على سبيل المثال؟ وهل للمتصل نفسه علاقة به؟ أو ربما يكون شريكه في عمل ما؟ أو …

وضع رانجيت سماعة الهاتف بهدوء وغادر المكان. لم يفكر رانجيت حقيقةً أن فرقة تابعة لشرطة كولومبو ربما تتجه بسرعة إلى رواق المبنى في أي لحظة. لكنه لم يكن متأكدًا تمامًا أن ذلك لن يحدث، ولم يرَ سببًا للبقاء في المكان ومعرفة ما سيسفر عنه هذا الاتصال.

•••

عندما عاد رانجيت إلى سكنه تلك الليلة وجد بانتظاره أفضل شيء بعد وجود جاميني الفعلي معه وهو خطاب إلكتروني من لندن. (كانت هناك أيضًا رسالة بأن والد رانجيت اتصل، ويرغب في أن يعاود رانجيت الاتصال به — فكر رانجيت أن تلك أخبار سارة للغاية؛ إذ يبدو أن والده لديه رغبة في الحديث إليه مرة أخرى … ومع ذلك فإن خطاب جاميني هو الذي حظي باهتمام رانجيت أولًا.)

من الواضح أن جاميني يقضي وقتًا رائعًا في لندن. كتب جاميني أنه ذهب سيرًا على الأقدام بالأمس إلى حرم جامعة لندن؛ لأن مادج أخبرته أنها تود أن تريه شيئًا. كان الأمر ممتعًا — على افتراض أنك تحب النظر إلى الجثث — لأننا شاهدنا الجثة المحنطة والمحفوظة بالشمع لفيلسوف مذهب النفعية البريطاني جيرمي بنثام الذي مر على وفاته مائتا عام. قال جاميني إن الجثمان موجود هناك دائمًا، لكنه موضوع داخل صندوق خشبي مغلق يعرف باسم «أوتو آيكون». أسدى أحد طلاب الدراسات العليا بالجامعة خدمة خاصة لمادج — التي كان مفتونًا بها — بأن فتح لها الصندوق. واستطرد جاميني قائلًا إن بنثام كان من المفكرين السابقين لعصورهم أوائل القرن التاسع عشر حتى إنه كتب ذات مرة دعوى مُعَدَّة بعناية يطالب فيها بالتجاوز — أو ببعض التجاوز على أي حال — عن المثليِّين. أضاف جاميني أن بنثام كان ثوريًّا، لكنه اتسم بالحذر أيضًا. فلم ينشر الدعوى. وإنما احتفظ بها في مكان آمن، وظلت هكذا طوال قرن ونصف من الزمان حتى نشرها أحد الأشخاص عام ١٩٧٨.

هنا كان رانجيت قد ملَّ الحديث عن جيرمي بنثام، وتملَّكه شيء من الفضول لمعرفة السبب الذي يجعل جاميني يخبره بكل هذا. ربما لأن بنثام واحد من أوائل الشخصيات البارزة التي تتعاطف مع المثليِّين في كتاباتها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يريد جاميني من رانجيت أن يفهمه بشأن هذا الموضوع؟ بالقطع لم يكن سبب ذلك أن أيًّا من الفتيَين يعتبر نفسه مثليًّا؛ لأنهما ليسا كذلك بالتأكيد.

وجد رانجيت أن التفكير في هذا الأمر يثير حيرته واستأنف قراءة الخطاب. فلم يتبقَّ الكثير على أي حال. قضت مجموعة من رفاق جاميني في الجامعة — لم يكن بينهم اسم مادج هذه، لكن رانجيت كان شبه واثق من وجودها معهم — يومًا كاملًا في مدينة ستراتفورد أبون إفون. وحملت نهاية الخطاب الخبر الهام الذي ورد كفكرة عابرة تذكرها جاميني قبل إنهاء خطابه: «اسمع يا رانجيت، لديَّ بعض المقررات التي أحتاج إلى دراستها في الصيف، لكن والدي يريدني أن أعود إلى المنزل بضعة أيام هذا الصيف حتى يتسنى لي رؤية جدتي مرة قبل أن تفارق الحياة. يقول إن حالتها الصحية متدهورة. لذلك سأعود إلى سريلانكا فترة قصيرة. أين ستكون؟ لا أدري إن كنت سأجد وقتًا للذهاب إلى ترينكو … لكن أيمكننا أن نلتقي في مكان ما؟»

أليست هذه أخبار مهمة؟ بلى، إنها كذلك. السبب الوحيد الذي جعل رانجيت يتريث في ابتهاجه أن عليه معاودة الاتصال بوالده.

ما إن دق الجرس حتى رفع العجوز سماعة الهاتف. كان صوته مبتهجًا وهو يقول في عطف وسرور: «آه، رانجيت، لِمَ تُخفي الأسرار عن والدك؟ إنك لَمْ تخبرني أن جاميني باندارا سافر إلى إنجلترا!»

قلَّب رانجيت عينيه في ضيق على الرغم من أنه لم يكن هناك أحد بجواره. فإذا لم يكن قد أخبر والده عن سفر جاميني فهذا لثقته في أن عيون والده في المكان سيفعلون. الأمر الوحيد الذي تعجب له رانجيت هو أنهم استغرقوا وقتًا طويلًا في نقل الخبر. فكر جاميني للحظة هل يخبر والده أن جاميني سوف يعود عما قريب، لكنه قرر أن يترك هذه المهمة لمن يعملون لحساب والده في السكن الطلابي. أجاب رانجيت بحذر: «نعم، إنه يرتاد إحدى الكليات هناك. كلية لندن للاقتصاد. يعتقد والده أنها أفضل كلية في العالم حسبما أظن.»

وافقه والده الرأي قائلًا: «وأنا واثق من أنها كذلك بالفعل، على الأقل في دراسات معينة. أعلم أنك تفتقده يا رانجيت، لكن لا بد أن أصرح بأن هذا الأمر أفادني كثيرًا في حل مشكلة كبرى كنت أواجهها. فلن ينزعج أحد من صداقتك مع فتًى سنهالي ما دامت تفصل بينكما تلك المسافة.»

لم يدرِ رانجيت ما يقول، فتعقَّل في الأمر، ولم يحر جوابًا. وواصل والده الحديث. فقال: «المهم في الأمر أني افتقدتك كثيرًا يا رانجيت. أيمكنك أن تسامحني، يا رانجيت؟»

لم يكن رانجيت في حاجة إلى أن يفكر في رد على هذا السؤال. فأجاب في الحال: «إنني أحبك يا أبي، وليس هناك شيء أسامحك عليه. إنني أتَفَهَّم اضطرارك لما فعلت.»

قال والده: «إذن سوف تأتي لقضاء عطلة الصيف هنا في ترينكو؟»

أكد رانجيت أن هذا هو أكثر شيء قد يرغب فيه، لكنه بدأ يشعر بعدم الارتياح. اتخذ الحوار منحًى مربكًا. وسُرَّ رانجيت عندما تذكر السؤال الذي ربما يستطيع والده الإجابة عنه. «أبي؟ هناك رجل من ترينكو أُلقي القبض عليه هنا في كولومبو، ويدعى كيرثيس كاناكاراتنام، أظن أني أعرف هذا الرجل. أتعرف من هو؟»

تنهد جانيش سوبرامانيان بحرارة، ولم يستطع رانجيت أن يتبين أكان ذلك بسبب وقع السؤال عليه، أم لأن تغيير الموضوع صادف هوًى في نفسه هو الآخر. «نعم بالطبع. كيرثيس. ألا تذكره يا رانجيت؟ المستأجر لديَّ؟ الرجل الذي لديه عدة أطفال صغار وزوجة في حالة صحية سيئة؟ كان يعمل سائق حافلات لدى أحد الفنادق المطلة على الشاطئ. اعتاد والده القيام بأعمال متنوعة حول المعبد إلى أن وافته المنية …»

قال رانجيت وقد تذكره فعلًا: «الآن تذكرت.» كان الرجل الذي يتحدثان عنه قصيرًا أسود البشرة مثل رانجيت. عاش هو وأسرته في منزل صغير تابع لأملاك جانيش سوبرامانيان، وكان المنزل يشتمل على ثلاث حجرات يسكنها زوجان وأربعة أطفال صغار، ولم يكن مزودًا بالمرافق الصحية. كان أوضح الصور التي استحضرتها ذاكرة رانجيت عن هذه الأسرة هي صورة الأم وهي تغسل ملابس أطفالها في وعاء كبير من القصدير وقد اكتسى وجهها بتعبيرات القنوط … بينما ينتحب الأطفال عند قدميها ممعنين في تغطية ثيابهم وأجسادهم بالأوساخ.

وعندما أنهى رانجيت مكالمته استعد للنوم وقد خالجه شعور بالرضا. إذ بدأت الأمور تسير على ما يرام. فقد تصالح مع والده. وسيلتقي بجاميني على الأقل لفترة وجيزة. إضافة إلى أنه وجد حلًّا للغز الخاص بهوية كيرثيس كاناكاراتنام هذا، ولن يفكر في الرجل مرة أخرى أبدًا حسب ظنه.

•••

لم تكن مادة الإحصاء مُمِلَّة مثلما ظن رانجيت. لكنها لم تكن مصدر متعة أيضًا. كان رانجيت على دراية جيدة — قبل الالتحاق بصف الإحصاء بوقت طويل — بالفرق بين المتوسط والوسيط والمنوال، وكان على دراية أيضًا بمعنى الانحراف المعياري، ولم يستغرق وقتًا طويلًا في التعرف على كيفية رسم أي نوع من المخططات الإحصائية تطلبه أستاذة المادة. لكن ما أثار دهشة رانجيت أن الأستاذة كانت تتسم بخفة الظل، وفي الأوقات التي لا تتحدث فيها عن مخطط الساق والأوراق وغيرها من المخططات الإحصائية، كان الاستماع إليها — في بعض الأحيان — متعة كما هي الحال مع يوريس فورهولست نفسه.

لكن رانجيت عدل عن رأيه هذا عندما فكر في الأمر مرة أخرى. إذ رأى فيه شيئًا من المبالغة. كانت مدَرِّسة الإحصاء دمثة لكنها كانت تفتقر إلى مادة تعليمية كمادة أساسيات علم الفلك. وما اشتمله علم الفلك من موضوعات مثل مصعد الفضاء وغير ذلك من الأشياء المذهلة.

•••

لم يكن مصعد أرتسوتانوف المتعة الوحيدة في المادة. ماذا عن شيء مثل حلقة لوفستروم (الذي سأل عنها أحد الطلاب ذات يوم في محاضرة علم الفلك)؟ فمعها لن تحتاج إلى وضع قمر صناعي ضخم في مدار حول الأرض؛ لأنها تستقر على سطح الأرض لتُقذَف منه كبسولات الفضاء إلى المدار.

عندئذٍ بدأ الدكتور فورهولست يكبح طلابه عن إطلاق العنان لخيالهم. فقال في إيجاز: «الاحتكاك. لا تنسوا الاحتكاك. تذكروا ما حدث لكثير من سفن الفضاء قديمًا عند عودتها إلى الغلاف الجوي للأرض. إذا استخدمتم حلقة لوفستروم فستحتاجون إلى زيادة سرعة كبسولة الفضاء بحيث تصل سرعة الإفلات من الجاذبية الأرضية إلى سبعة أميال في الثانية — وهو ما حدثتكم عنه في اليوم السابق — قبل إطلاق الكبسولة، وحينئذٍ سوف تحترق على الفور بفعل الاحتكاك الهوائي.»

توقف فورهولست وأخذ ينظر إلى طلابه وهو طلق المحيا كعادته، لكن عيناه كانتا تلمعان قليلًا ما جعل رانجيت يتوقع مفاجأة وشيكة. قال المدرس في مودة: «وهكذا، هل توصل أيٌّ منكم أيها الفضائيون الصغار إلى نوع وسيلة الدفع التي ستعتمد عليها سفينتكم؟»

لم يفكر رانجيت في إجابة سوى الوقود الممزوج بمادة مؤكسدة الذي عادةً ما يستخدم لهذا الغرض. لكنه ظل صامتًا لأنه أدرك أن الدكتور فورهولست يفكر في شيء آخر ما دام قد طرح عليهم هذا السؤال.

أدرك الطالب الذي يشارك رانجيت المقعد نفس الشيء، لكن رد فعله جاء مختلفًا. فرفع يده. وقال: «أنت لا تتحدث عن الصاروخ الكيميائي، أليس كذلك يا دكتور فورهولست؟ إذن فيمَ تفكر؟ ربما في صاروخ يعمل بالطاقة النووية، أليس كذلك؟»

قال المدرس: «تخمين جيد، لكن ليس هذا ما أفكر فيه، لا أظن أن الصاروخ الذي يعمل بالطاقة النووية هو أفضل الخيارات الممكنة؛ على الأقل ليست الطاقة النووية التي تعنيها. توجد نماذج كثيرة لصواريخ دُفِعَت إلى الفضاء عن طريق تفجير قنابل ذرية الواحدة تلو الأخرى. يمكننا الحديث عن ذلك إذا أردتم، لكن أمامنا خيارين أفضل بكثير للانتقال من مدار أرضي منخفض إلى المريخ. وكلاهما مصمَّم بحيث يستخدم مع مصعد فضاء يرفعه إلى مدار أرضي منخفض؛ لأن كليهما ضعيف إلى حد لا يقوى معه على رفع أي شيء عن سطح الأرض وإلى الفضاء. أحد هذين الخيارين هو الشراع الشمسي. والآخر هو الصاروخ الكهربائي.»

•••

بعد مرور عشر دقائق كان الدكتور فورهولست قد انتهى من عرض أسباب موجزة ومقنعة لتلافي الاستعانة بالانفجارات النووية كعوامل دفع للصواريخ، ومنها الحاجة إلى دروع عالية التحمل لحماية رواد الفضاء من الإشعاعات الفتاكة، وعلى أي حال من سيرغب في إطلاق بضع مئات من القنابل الذرية في الفضاء؟ أقر فورهولست أن الشُّرُع الشمسية تحظى بالعديد من المزايا، لكنها بطيئة للغاية، ولا تتمتع بقدرة كبيرة على المناورة. غير أن الصاروخ الكهربائي لا يتطلب مخزونًا من الوقود ولا تنتج عنه مواد ضارة، وإن كان يستغرق وقتًا طويلًا جدًّا حتى تزداد سرعته. ومن أين نحصل على الكهرباء؟ قال فورهولست إنها قد تُستمد من مفاعل طاقة نووية على متن السفينة، وإنه يمكن الحصول عليها أيضًا بنفس السهولة من الطاقة الشمسية في الفضاء حيث لا مكان لِلَيْل أو طقس غائم، مما يجعل الشمس مشرقة دائمًا. «وفيمَ ستُستخدم هذه الكهرباء؟ سوف تستخدم في تأيين سائل التشغيل — غاز الزينون على سبيل المثال — لينطلق الغاز من فوهات الصاروخ بسرعة فائقة، وهكذا ينطلق الصاروخ.»

توقف فورهولست لالتقاط أنفاسه. ثم قال: «حسنًا، لن تزداد سرعة الصاروخ الكهربائي في وقت وجيز.» لكنه قد يستمر في الإسراع إلى ما لا نهاية، وكلما طالت مدة التسارع زادت سرعة الصاروخ. يمكنك الاستمرار في زيادة السرعة حتى تقطع نصف الطريق. ثم تبدأ في تقليل السرعة حتى تصل إلى وجهتك. أيدرك أحدكم ما يعنيه هذا؟

منح فورهولست طلابه بضع دقائق للتفكير في الإجابة، لكن لم يتوصل أحدهم إلى شيء. فقال: «معناه أنه كلما بَعُدَت الرحلة، زادت السرعة التي ستحصلون عليها. لن تحتاجوا إلى صاروخ كهربائي للذهاب إلى القمر. فتلك رحلة قصيرة؛ ولن تملكوا معها الوقت اللازم للانطلاق بسرعة كبيرة. غير أنه سوف يكون مثاليًّا في حالة الذهاب إلى المريخ. أما عند الذهاب إلى الكواكب الخارجية — مثل أورانوس أو نبتون — فلن تستغرق الرحلة وقتًا أطول من وقت الذهاب إلى المريخ! وإذا فكرتم في الذهاب إلى مكان أبعد — كسحابةِ أُورت على سبيل المثال — فستزداد السرعة تدريجيًّا مع زيادة التسارع حتى إن هذه الرحلة البعيدة جدًّا تصير ممكنة!»

عندها توقف فورهولست وقد علت وجهه ابتسامة عريضة. ثم قال: «حسنًا، لا أود أن أسرف في الثناء على الصاروخ الكهربائي؛ لأن به عيبًا خطيرًا. وهو أننا لا نمتلك واحدًا.» ووضع فورهولست حدًّا لهمهمات الإحباط التي سرت بين الطلاب. إذ قال: «حسنًا، إنه ممكن من حيث المبدأ. لكنه لم يدخل حيز التنفيذ بعدُ؛ لأنكم إذا أردتم بدء الرحلة من على سطح الأرض فلن يعمل الصاروخ. إذ يحتاج إلى شيء يرفعه إلى مدار أرضي منخفض أولًا ليستعرض مهاراته بعد ذلك. سيحتاج الصاروخ إلى شيء كمصعد أرتسوتانوف الفضائي، وكما تعلمون لا يوجد مصعد كهذا في أي مكان.»

ابتسم فورهولست لطلابه ابتسامة ممزوجة بالأسى. ولكن بشَّرهم قائلًا: «حسنًا، سوف نمتلك واحدًا في يوم من الأيام. وستكون لدينا أعداد هائلة من الصواريخ الكهربائية، وأنا واثق أن بعضًا منكم سيذهبون إلى كل هذه الأماكن الغريبة والمذهلة. لكن ليس الآن؛ فهذه الصواريخ ليست موجودة بعد.»

عندما نفكر في الأمر فإن هذا صحيح إلى حد بعيد، على الأقل فيما يتعلق بالمساحة الضئيلة من الفضاء القريبة من الأرض، مع أن الأمر لن يستمر هكذا وقتًا طويلًا.

•••

الواقع أنه على مسافة بعيدة قليلًا كان ١٥٤ صاروخًا من هذه الصواريخ الكهربائية تتجه مباشرة نحو كوكب الأرض دون أن تفكر الكائنات التي كانت على متنها في أنها أشياء غريبة على الإطلاق.

كانت هذه الكائنات هي «واحد فاصل خمسة»، وكانوا معتادين (هم أو أسلافهم) على الانتقال من نجم إلى آخر على متن سفن فضاء كهذه منذ أجيال عديدة. وكان هذا من أجل أداء المهمة نفسها غالبًا. والواقع أن كائنات «واحد فاصل خمسة» احتلت مكانة فريدة بين الأجناس التابعة لعقلاء المجرة.

هم في الأساس قتلة مأجورون يعملون لحساب «عظماء المجرة».

قد تبدو كائنات «واحد فاصل خمسة» غير أهلٍ لمثل هذا العمل من وجهة نظر المشاهد العادي. فعندما يتجردون من دروعهم وأطرافهم الصناعية فإن حجم الواحد منهم لا يتعدى حجم قِطٍّ برِّي. مع أنه لم يكن واردًا أن يراهم المشاهد العادي على هذه الحال. كانت كتلة الأجهزة الوقائية اللازمة لبقاء كائنات «واحد فاصل خمسة» تصل إلى نصف كتلة جسد الواحد منهم (من هنا أُطلق عليهم اسم «واحد فاصل خمسة»)، ولم يكن هناك غنًى عن أي جزء صغير من هذه الأجهزة. استُخدم بعض هذه الأجهزة لوقاية الكائنات العليلة الموجودة داخلها من الإشعاع — سواء من التسريبات المتأينة من مفاعلات الطاقة النووية التابعة لهم، أو من مخلفات حروبهم النووية العديدة التي خاضوا غمارها منذ زمن بعيد. أو حتى لوقايتهم من الأشعة فوق البنفسجية الفتاكة التي تنبعث من نجمهم والتي لم تعد تحجبها طبقة الأوزون في كوكبهم لأن ما كانوا يقومون به من أنشطة في السابق أسفر عن اختفاء طبقة الأوزون. استُخدم بعض المعالِجات الكيميائية في التخلص من السموم المنتشرة في الهواء الذي يتنفسونه أو في الطعام والماء اللذين يتناولونهما. وبعضها حال دون إصابتهم بالجنون بسبب الجلبة التي لا يمكن تحملها والتي غمرت عالَمهم بالكامل (الذي قام بتركيب أجهزة كاتمة وحاجبة للصوت مدعومة بأجهزة لتخفيف حدة التردد). بينما ساعدت معالِجات أخرى في التخفيف من حدة الومضات والأضواء الساطعة المثيرة للجنون والناجمة عن أنشطتهم الصناعية.

كانت هناك بضعة أماكن معزولة على سطح الكوكب يمكن لكائنات «واحد فاصل خمسة» أن يتجردوا فيها من دروعهم ويظلوا على قيد الحياة. وهذه الأماكن هي غرف التزاوج وغرف التناسل، بالإضافة إلى بضعة أماكن متفرقة تُجرى فيها العمليات الطبية والجراحية. لم يكن هناك عدد كبير منها. ولم تكن هذه الأماكن نادرة الوجود فحسب، بل كانت مكلِّفة أيضًا، وذلك بسبب حجم الدمار والخراب الهائل في هذا العالَم المنكوب.

وما دام الأمر كذلك، فربما يتعجب المرء من أن أجناسًا على هذا القدر من التقدم التكنولوجي ككائنات «واحد فاصل خمسة» لم تُقْدِم على بناء أسطول خاص بها من سفن الفضاء وبدء حياة جديدة على كوكب لم يطله التلوث بعد في مكان آخر في الفضاء.

والواقع أنهم فعلوا ذلك … ذات مرة.

غير أن النجاح لم يحالف مشروعهم. صُمِّمت السفن، وبُنِيَت، ووقع الاختيار على كوكب يصلح للحياة. لكن «عظماء المجرة» تدَخلوا. أثبت هذا المشروع فشلًا ذريعًا حتى إن كائنات «واحد فاصل خمسة» لم تفكر أبدًا في تجربته مرة أخرى على الرغم من مرور عدة آلاف من السنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤