الفصل الثامن

الصيف

بوجه عام كانت السنة الدراسية مصدر إحباط لرانجيت سوبرامانيان، لكن الصيف بدأ بداية جيدة. لنضرب المثل بدرجاته. عندما أُعْلِنت نتيجة العام الدراسي، لم يندهش رانجيت من تقدير مقبول الذي حصل عليه في الفلسفة (لم يلقِ بالًا للتقدير الذي حصل عليه في مادة علم النفس لأنه أسقطها بسبب شعوره بالملل منها)، ولم يندهش كثيرًا بسبب حصوله على تقدير امتياز في علم الفلك، وإن لم يمنعه ذلك من الشعور بالسعادة. أما حصوله على تقدير امتياز في الإحصاء فكان لغزًا تامًّا. ولم يجد رانجيت تفسيرًا لذلك سوى أن هذا التقدير هو نتيجة قراءته للكتب المتقدمة التي اختارها لنفسه عندما لم يكن يستطيع فهم المزيد من الرسوم الصندوقية أو رسومات التوزيعات التكرارية. وقد أسعفته المكتبة بما فيها من كتب متقدمة تتناول مثل هذه الموضوعات مثل طرق التحليل العشوائي والتحليل البيزي.

ولعلَّ أسوأ ما في نهاية الفصل الدراسي هو انتهاء المقرر الدراسي لعلم الفلك أيضًا. ولكن على الأقل ثمة تنويه عن الحفل الذي سيقام في منزل الدكتور فورهولست.

أخذ رانجيت يعيد التفكير في الأمر وهو يسير من الحافلة إلى العنوان المشار إليه في الدعوة. أولًا كان الحي راقيًا، ومن ثم لم يكن مألوفًا لرانجيت؛ لأنه كان يتفاداه هو وجاميني أثناء تجولهما في المدينة. (فقد كانت أسرة جاميني تسكن هذا الحي أيضًا.) فضلًا عن ذلك لم يكن منزل فورهولست أكبر من أي منزل تسكنه أسرة واحدة فحسب، وإنما كان أيضًا محاطًا بشرفات مزودة بأعمدة غير ضرورية على الإطلاق، فضلًا عن حديقة تحظى بعناية فائقة.

أخذ رانجيت نفسًا عميقًا قبل أن يدفع البوابة ويصعد الدرجتين المؤديتين إلى الشرفة. كان أول شيء لاحظه رانجيت في الداخل هو الهواء البارد الذي يهب من مراوح السقف. وهو ما لاقى الترحيب في ظل ارتفاع الحرارة في كولومبو. وما كان باعثًا على الترحيب أكثر هو رؤية يوريس فورهولست نفسه، واقفًا إلى جوار سيدة ضخمة على نحو لافت إلى النظر مثل المنزل الذي يعيشان فيه. حيَّاه يوريس بغمزة عين وإيماءة. ثم قال وهو يقوده إلى المكان الذي تقف فيه السيدة: «رانجيت، نحن مسرورون كثيرًا لمجيئك. أود أن أعرِّفك بوالدتي ميفراو بيتريكس فورهولست.»

ولأن رانجيت لم يكن متأكدًا من التصرف المناسب عند الترحيب بسيدة — ذات بشرة فاتحة للغاية — تفوقه في الطول بثلاثة أو أربعة سنتيمترات على الأقل وتفوقه وزنًا بعدة كيلوجرامات، انحنى انحناءة بسيطة غير واثق من التحية المناسبة. لم تكتفِ السيدة ميفراو فورهولست بذلك. فسحبت يده وأمسكت بها. وقالت: «عزيزي رانجيت، كم أنا سعيدة بلقائك. لا يختص ابني طلبةً بعينهم بحبه، لكن إن فعل ذلك — وأرجو ألا يعرف أني أخبرتك بهذا — فأنا على يقين أنك واحد من هؤلاء الطلبة. تشرفت بلقاء والدك من قبل. إنه رجل رائع. عملنا معًا في إحدى اللجان المشرفة على الهدنة قديمًا عندما كنا في حاجة إلى هذا النوع من اللجان.»

نظر رانجيت إلى الدكتور فورهولست نظرة سريعة علَّه يستدل منه على ما يُفترض أن يقوله ردًّا على هذه السيدة الحسناء التي تفوح منها رائحة عطرة. ولم يأته العون في هذا الصدد. كان البروفسور يمازح ثلاثة أو أربعة من الضيوف الذين وصلوا لتوهم، لكن السيدة فورهولست مدت يد العون لرانجيت عندما أدركت ما هو فيه من حرج. فقالت له ناصحة إياه: «لا تُضع وقتك مع أرملة عجوز. هناك الكثير من الفتيات الحسناوات في الداخل، فضلًا عن الطعام والشراب. بل إن هناك بعض المشروبات الرياضية الأمريكية المروعة التي اعتاد يوريس تناولها أثناء إقامته في كاليفورنيا، وإن كنت لا أنصح بها.» ربتت السيدة على يد رانجيت مرة أخيرة ثم أفلتتها. قائلة: «لا بد أن ترافقنا على العشاء في أحد الأيام بعد عودة يوريس من نيويورك. سوف يكون محبَطًا. غالبًا ما يكون هذا حاله بعد محاولة الحصول على موافقة الأمم المتحدة لاتخاذ إجراء بشأن مصعد أرتسوتانوف.» ثم أضافت بعد أن استدارت للضيوف القادمين: «لكن بالطبع لا يمكن إلقاء اللوم عليهم بالكامل، أليس كذلك؟ كل ما في الأمر أن البشر لم يتعلموا بعدُ كيفية التعاون بعضهم مع بعض بأسلوب مناسب.»

•••

لاحظ رانجيت عند دخوله بهو المنزل الواسع أن هناك بعض الفتيات الحسناوات حقًّا، وإن كن معظمهن مشغولات بالفعل مع شاب أو أكثر. تبادل رانجيت الإيماءات مع ثلاثة أو أربعة من زملائه في الصف، لكن أكثر ما جذب انتباهه في تلك اللحظة هو المنزل نفسه. كان المنزل بعيدًا كل البعد عن بيت والده المتواضع في ترينكومالي. فالأرضية مصقولة بالجصِّ الأبيض، وفي الجدران أبواب مفتوحة تؤدي إلى الحديقة الواسعة بما فيها من أشجار النخيل والفرانجيباني وحوض السباحة الخلاب. كان رانجيت قد تناول غداءه على سبيل الحيطة قبل القدوم إلى الحفل؛ لذا لم يكن يرى حاجة إلى تلك الكميات الهائلة من الطعام التي أعدها آل فورهولست. ولم يلقِ رانجيت بالًا للمشروبات الرياضية الأمريكية التي تحدثت عنها السيدة فورهولست، لكنه سَعِد بالعثور على كمية من مشروبات الكولا التقليدية. وعندما بحث عن فتَّاحة، ظهر أمامه خادم في الحال، وأخذ الزجاجة من يده بسرعة، ونزع عنها الغطاء، ثم سكب ما فيها من مياه غازية في كأس طويلة تحتوي على قطع من الثلج لا يدري رانجيت من أين جاء به.

ابتعد الخادم تاركًا رانجيت لدهشته إلى أن أتاه من الجانب الآخر صوت أنثوي يقول: «كدتَ تُفقده وظيفته. إذا فتح الضيوف زجاجات الكولا بأنفسهم، فلن يجد الخادم المسئول عن المشروبات عملًا يقوم به. كيف حالك يا رانجيت؟»

عندما استدار رانجيت تذكَّر فتاة البرجر التي كانت تدرس علم الاجتماع معه في عامه الدراسي الأول البائس؛ إنها ماري … مارثا … كلا، أردفت الفتاة قائلة: «مايرا دو سويزا. التقينا في صف علم الاجتماع العام الماضي، ومن دواعي سروري أن أراك مجددًا. سمعت أنك كنت تعمل على نظرية فيرما. كيف تسير الأمور؟»

لم يتوقع رانجيت أن يُسأل سؤالًا كهذا، خصوصًا من فتاة جميلة كهذه الفتاة. لم يعطها ردًّا محددًا. وإنما قال: «أخشى القول بأنها تسير ببطء إلى حد ما. لم أكن أعرف أنك تهتمين بنظرية فيرما.»

اصطبغت وجنتا الفتاة بشيء من الخجل. وقالت: «حسنًا، أظن أن عليَّ الاعتراف بأنك من أثرت اهتمامي بها. بعد أن سمعنا أنك استوليت على كلمة المرور الخاصة بأستاذ الرياضيات … هل أنت مندهش لسماع هذا؟ لا شك أن جميع طلابه سمعوا بذلك. أعتقد أنه لو لم يكن الفصل الدراسي قد انتهى حينئذٍ، لظهرت إحدى الحركات التي تؤيد انتخابك رائدًا للصف.» ابتسمت له ابتسامة ودودة. وأضافت: «على أي حال، لم أجد بدًّا من التساؤل عن هذا الهوس الذي يتملَّكك … هل أبالغ عندما أستخدم كلمة «هوس»؟» هز رانجيت كتفيه لأنه تأقلم منذ وقت طويل مع هذا التوصيف الفني لمَسْعَاه الذي لم يحالفه النجاح إلى الآن. واستطردت مايرا: «حسنًا، لنقل إني لم أجد بدًّا من التساؤل عن سبب اهتمامك الشديد بمحاولة العثور على برهان لنظرية فيرما. بالقطع لم يكن برهان وايلز هو البرهان الذي تحدث عنه فيرما، أليس كذلك؟ لأن كل خطوة استعان بها وايلز هي نتاج أعمال قام بها أشخاص آخرون بعد وفاة فيرما بوقت طويل، ومن غير المعقول أن فيرما كان يعرف … أوه، رانجيت، حاذر لمشروبك!»

نظر رانجيت فرأى ما كانت تتحدث عنه مايرا. لقد أذهله المنحى الذي اتخذه الحوار حتى إنه ترك كأس الكولا تميل من يده بشدة. عدل وضع الكوب، وأخذ منه رشفة سريعة ليستعيد بها تركيزه. ثم سألها متخطيًا مرحلة الاكتراث لكياسته في الحديث معها: «ما الذي تعرفينه عن برهان وايلز؟»

لم يبدُ أن مايرا دو سويزا تبالي بأسلوبه. وأجابته: «الواقع أني لا أعرف الكثير. لا أعرف سوى قدر يكفي لتكوين فكرة بشأن الموضوع الذي يدور حوله البرهان. ومن المؤكد أن هذا القدر لا يتساوى مع ما يعرفه عالم رياضيات متخصص. أتعرف الدكتور ويلكينسون؟ من منتدى الرياضيات في جامعة دريكسيل؟ أظن أنه خرج بأفضل وأبسط تفسير يوضح حقيقة برهان وايلز.»

انعقد لسان رانجيت لأن تحليل الدكتور ويلكينسون هذا قد نال استحسانه هو الآخر عندما بدأ سعيه نحو فهم برهان وايلز.

أدرك رانجيت أنه يجدر به الحديث لأن مايرا كانت تنظر إليه في تساؤل. فقال: «هل تقصدين أن بإمكانكِ فهم تحليل ويلكينسون؟»

أجابته برقة: «بالطبع، يمكنني ذلك. فقد كان واضحًا للغاية. كل ما كان عليَّ فعله هو قراءة تفسيره … حسنًا»، ثم اعترفت: «خمس مرات في الواقع. وكان عليَّ العودة كثيرًا إلى كتب المراجع. ليس لديَّ شك في أنه فاتني الكثير، لكني أظن أني فزت بفهم تقريبي.» نظرت إليه في صمت هنيهة قبل أن تسأل: «أتعرف ماذا سأفعل لو أني مكانك؟»

قال رانجيت بلهجة صادقة: «ليست لديَّ أدنى فكرة.»

«حسنًا، لن أهدر وقتي وجهدي على أيٍّ من أجزاء برهان وايلز. سأنظر إلى ما فعله علماء الرياضيات الآخرون في الثلاثين أو الأربعين عامًا التي أعقبت وفاة فيرما. كما تعلم. أعني الأعمال التي ربما يكون فيرما قد سمع بعض التوقعات بشأنها. أو ربما يكون قد استخدمها بنفسه. و…» وفجأةً غيَّرت مايرا موضوع الحوار فقالت وهي تنظر إلى الجانب الأيمن من المكان الذي يقف فيه رانجيت: «وها هو عزيزي براين هاريجان الذي طال غيابه وقد أحضر لي الشامبانيا التي تأخرت كثيرًا.»

كان براين هاريجان واحدًا من هؤلاء الأمريكيين البدناء، وقد جاء بصحبة فتاة جميلة في العشرين من عمرها تقريبًا. نظر براين إلى رانجيت نظرة خاطفة. ثم تحدث إلى مايرا دو سويزا وكأن رانجيت لا يقف بينهما: «عذرًا يا عزيزتي، لكني كنت أتحدث مع … ديفيكا؟ قضت وقتًا طويلًا من حياتها في هذا المنزل، وقد وعدَتْني أن تجول بي في المكان. هذا المنزل يحظى بمزايا تصميم رائعة … هل لاحظتِ الأرضيات المغطاة بالجص؟ لذا إن كنت لا تمانعين …»

قالت مايرا: «يمكنك الذهاب. فقط أعطني الشمبانيا إن كانت لا تزال باردة، ثم اذهب.» ذهب براين ويده في يد الفتاة التي لم تنبس ببنت شفة لرانجيت أو مايرا دو سويزا.

•••

أفضل شيء في رحيل براين هاريجان أن رانجيت أصبح وحيدًا برفقة فتاة مذهلة ومحيرة وغريبة تمامًا. (وإن كان رانجيت على يقين أنها ليست صغيرة السن إلى هذا الحد. خمَّن رانجيت أنها تكبره بعامين أو ثلاثة أعوام على الأقل. وربما أكثر من ذلك.) ولم ينظر رانجيت إلى حواره مع الفتاة على أنه حدث رومانسي. فخبرته في المواعدة بين فتًى وفتاة تكاد تكون معدومة لا تؤهله للتفكير هكذا، وعلى أي حال هناك موضوع براين هاريجان هذا الذي اعتاد مخاطبتها بقوله: «عزيزتي». وعندما استشعرت دو سويزا بما يجول في خاطر رانجيت، أكملت له الصورة التي كونها عن براين هاريجان. اتضح أنه ليس أمريكيًّا. وإنما كندي. وأنه يعمل لحساب إحدى سلاسل الفنادق التي تنتشر في كافة أنحاء العالم والتي تخطط في الوقت الراهن لإقامة فندق فخم على أحد شواطئ ترينكومالي. لكنها لم تخبره أي شيء عن المعلومة المحددة التي تثير فضوله. ولذا فكَّر بينه وبين نفسه أنه لا دخل له بمعرفة ما إن كانت هناك علاقة بين مايرا وهاريجان أم لا.

وعندما انتبه رانجيت عند ذكر ترينكومالي بدا الإحراج على وجه دو سويزا. وقالت: «أرجو المعذرة. لم أكن أعرف. إنها موطنك. هل تعرف الفندق الذي أخبرني عنه براين؟»

ذكر رانجيت أن كل ما يعرفه عن الفنادق السياحية في ترينكو هو أنها باهظة الثمن للغاية. لكن بعدها سألته عن معبد والده الذي بدا أنها تعرف عنه الكثير ما أثار دهشة رانجيت للمرة الثانية. كانت تعرف أن المعبد بُني على مكان يسمى تل شيفا المقدس وأنه — أو على الأقل المعبد الكبير الذي نهبه البرتغاليون عام ١٦٢٤ — كان واحدًا من أكثر دور العبادة ثراءً في جنوب شرق آسيا بما يحتويه من كميات هائلة من الذهب والحرير والمجوهرات وكل الأشياء الأخرى التي جمعها الرهبان طوال تاريخه الذي امتد ألف عام. وكانت تعرف عن ذلك اليوم العصيب من عام ١٦٢٤ عندما وجه القائد البرتغالي كونستانتين دو سا دو مينزيس أمرًا لكبير كهنة المعبد بأن يجرد المعبد من كل شيء ذي قيمة، وأن يسلم الكنوز إلى السفن البرتغالية في الميناء؛ لأنه إذا لم يفعل فسوف يوجه دو سا مدفع سفينته إلى المعبد. وهكذا لم يكن أمام كبير الكهنة خيار آخر. ففعل ما أمر به … وبعدها قصف دو سا المعبد وحوَّله إلى كومة من الأنقاض.

قال رانجيت عندما توقفت: «مدهش. إنك تعرفين الكثير عن هذه الحِقبة، أليس كذلك؟»

بدا عليها الحرج. ثم قالت: «أظن ذلك، لكني أعتقد أن ما أعرفه يختلف إلى حدٍّ ما عما تعرفه أنت. الواقع أن أسلافي كانوا من المشاركين في عملية النهب.»

لم يجد رانجيت جوابًا أفضل من: «هكذا إذن.» تجول الاثنان في الحديقة بما فيها من أشجار الفرانجيباني والزنجبيل المزهرة، وجلسا متجاورين أسفل مجموعة من أشجار النخيل. ومن مكانهما استطاعا رؤية حوض السباحة الواسع في منزل فورهولست حيث يلعب بعض زملاء رانجيت — الذين حصلوا على ملابس السباحة من منزل فورهولست — الكرة الطائرة المائية. ملأ أحد الخدم كأسَي مايرا ورانجيت بالشمبانيا والكولا مرة أخرى. وألقى بعض الضيوف التحية على مايرا دو سويزا أثناء سيرهم بجوارهما، وألقى واحد أو اثنان التحية على رانجيت. ولم يبدُ على مايرا أنها تريد إنهاء الحوار مع رانجيت. كان هذا حال رانجيت أيضًا. وهو ما أثار دهشته قليلًا؛ لأنه نادرًا ما كان يرغب في إطالة أي حوار مع إحدى الفتيات.

عرف رانجيت أن مايرا زارت جميع الأماكن على جزيرة سريلانكا مع والديها، وأنها أحبت كل شِبر فيها. وقد بدت عليها الدهشة حين علمت أن رانجيت نادرًا ما كان يبتعد عن ترينكومالي، باستثناء إقامته الحالية في كولومبو واشتراكه في بضع الرحلات المدرسية. سألت: «لكن ألم تذهب إلى مدينة كاندي من قبل؟ ألم ترَ كيف يتسلقون الأشجار للحصول على نبيذ النخيل وتصنيع شراب التودي منه؟» وأجابها رانجيت بالنفي على كلا السؤالين. كلا، لم يذهب.

وفي هذه اللحظة مرت السيدة فورهولست بجوارهما؛ إذ كانت تتفقد المكان للتأكد من أن ضيوفها لا يحتاجون شيئًا. نظرت إليهما بإمعان، وقالت: «تبدوان على ما يرام. أهناك شيء يمكنني إحضاره لكما؟»

قالت دو سويزا: «شكرًا يا خالة بيا. إنه حفل رائع.» وعندما ابتعدت السيدة فورهولست، أجابت مايرا عن السؤال الذي أطل من عينَي رانجيت. وقالت: «حسنًا. جميعنا نحن البرجر يعرف بعضنا بعضًا، وفي الواقع الخالة بيا واحدة من أقاربنا. وعندما كنت صغيرة كنت أقضي هنا قدرًا من الوقت كالذي أقضيه في منزلنا، وكان يوريس بمنزلة أخي الأكبر الذي لم أحظَ به قط في الواقع. فكان يحرص على ألا أتعرض للغرق عندما يصطحبني إلى الشاطئ، وكان يعيدني إلى البيت عندما يحين وقت قيلولتي.» لاحظت مايرا علامات الدهشة على وجه رانجيت. فقالت: «أهناك خطب ما؟»

قال رانجيت بلهجة اعتذارية: «أنا متحير قليلًا. فأنت تسمينها بيا، بينما أعتقد أن اسمها … ما هو؟ … ميفراو.»

كانت مايرا على قدر من الكياسة منعها من المبالغة في ابتسامتها. وهي تقول: «ميفراو تعني «سيدة» باللغة الهولندية. أما هي فاسمها بيتريكس.» ثم ألقت نظرة على ساعتها، وبدا عليها الاهتمام. فأردفت قائلة: «لا أقصد إبعادك عن أصدقائك. أواثق أنك لا ترغب في السباحة؟ فآل فورهولست يقتنون مجموعة مختارة من ملابس السباحة في غرف تغيير الملابس …»

•••

لم يكن لدى رانجيت شك في أنه لا يرغب في ذلك. ولم يستطع أن يحدد كم من الوقت مضى منذ بدآ حديثهما. كان واضحًا أن مايرا دو سويزا ليست في عجلة من أمرها لإنهاء الحوار، لكن تكفَّل براين هاريجان الذي كاد يُنسى بهذا في وقت لاحق. وذكرهما بوجوده عندما أطل براين بنظره عليهما ثم دخل حديقة النخيل الصغيرة التي كانا يجلسان فيها. وبدا حانقًا. وهو يقول لمايرا: «بحثت عنكِ في كل مكان.»

وقفت مايرا وابتسمت له. ثم قالت: «بدا لي أنك لم تكن وحيدًا.»

– «تقصدين الفتاة التي كانت تريني المكان؟ لقد أفادتني كثيرًا. إنه منزل قديم واسع. يبلغ سمك جدرانه نحو متر، ومع وجود كل هذه الرمال والمرجان والجص، فيمَ يحتاجون إلى تكييف الهواء إذن؟ لكن أنسيتِ أن لدينا حجزًا على العشاء؟»

كانت مايرا قد نسيت بالفعل، واعتذرت عن ذلك، ثم قالت لرانجيت إنها استمتعت بحديثها معه كثيرًا، وذهبت.

لم يغادر رانجيت الحفل. لكن من الواضح أنه لم يعد ممتعًا كما كان. فكر رانجيت في السباحة لكنه طرد الفكرة من عقله، وقضى قليلًا من الوقت بصحبة مجموعة من الطلاب تجمعوا حول يوريس فورهولست وكانوا يتحدثون في الأمور التي تحدثوا عنها داخل الصف من قبل، ثم جلس مع عدد من الضيوف كانوا يشاهدون ويحللون برامج الأخبار على شاشة تليفزيون في خيمة بجوار سور الحديقة. بالطبع، لم تكن الأخبار مسلية. ففي كوريا، أطلق بعض الكوريين الشماليين المزعجين — عمدًا على ما يبدو — مجموعة من الكلاب الشرسة وربما المصابة بالسعار قرب الحدود بين الشمال والجنوب. لم يتعرض أحد للعض. إذ لقي ثلاثة من الكلاب حتفهم عندما وطئ أحدهم لغمًا أرضيًّا، أما البقية فسرعان ما أصيبوا بالمدافع الرشاشة لوحدة عسكرية تابعة لجمهورية كوريا الجنوبية، واتفق الجميع على أنه لا بد من اتخاذ إجراء ضد كوريا الشمالية.

في الواقع، وجد رانجيت سهولة أثارت دهشته في الحديث مع هؤلاء الغرباء حول الشأن العالمي المحفوف بالمخاطر، والحاجة إلى إنشاء مصاعد فضاء تبعث الأمل في نفوس الأشخاص العاديين بشأن السفر إلى الفضاء، ومودة آل فورهولست، وموضوعات أخرى كثيرة. انتهت تلك الحوارات عندما بدأ عدد الضيوف في التناقص. واعتبر رانجيت ذلك إشارة إلى ضرورة انصرافه هو الآخر.

قضى رانجيت وقتًا ممتعًا في الحفل خصوصًا في الجزء الأول منه، ولم يكن لديه شك في أن لقاءه بمايرا دو سويزا هو السبب وراء استمتاعه بالحفل.

وفي طريق العودة إلى السكن الجامعي، وجد نفسه يفكر في تلك الشخصية الرائعة التي تتمتع بها مايرا دو سويزا، وبالطبع لم يفكر في الأمر من منظور علاقة بين شاب وفتاة. وتساءل في نفسه عن أفضل طريقة للتخلص من براين هاريجان.

•••

رغم ذلك شعر رانجيت بالسعادة عندما عاد إلى ترينكومالي لقضاء الصيف. ظن جانيش سوبرامانيان أن ابنه سيقضي وقته في التفكير مجددًا في لغز فيرما المحير. وكان محقًّا جزئيًّا فحسب. فلم ينسَ رانجيت نظرية فيرما. فقد ظلت تخطر بباله في غير وقتها، وزاد هذا عن أي وقت آخر منذ أن جددت مايرا دو سويزا ذكرياته. لكن عندما كانت النظرية تخطر ببال رانجيت، كان يفعل كل ما في وسعه ليكف عن التفكير فيها. وكان يعرف عندما يخفق في ذلك.

على أي حال كانت هناك أشياء أخرى تشغل تفكير رانجيت. أخبره أحد الرهبان أنه يمكن لطلبة الجامعة الذين يقضون عطلة الصيف الحصول على وظائف سهلة وبأجر مناسب حيث يُرَمَّم أحد الفنادق السياحية القديمة في ترينكومالي. تحقق رانجيت من الأمر. ووجد وظائف متاحة. وحصل على إحداها، وللمرة الأولى في سنوات عمره الثماني عشرة يصبح رانجيت قادرًا على التكفل بنفقاته.

لم تكن الوظيفة صعبة على الإطلاق مثلما وعده صاحب العمل. كان اسم هذه الوظيفة «مساعد توريد». ومهامها هي: أولًا، إعداد بيان بمحتويات كل شحنة تصل إلى المكان؛ ثانيًا، الإسراع بإخبار رئيس العمال في الحال إذا حاولت إحدى الشاحنات مغادرة المكان وبها بعض البضائع؛ ثالثًا، تفقُّد جميع أكوام مواد البناء بسرعة فور الوصول إلى مكان العمل كل صباح للتأكد من عدم اختفاء شيء منها أثناء الليل. ووُجِّهت أوامر إلى أفراد الأمن الخاص الذين استأجرهم الفندق بمساعدة رانجيت حيثما كانت هناك ضرورة لذلك. وتحفز أفراد الأمن بشدة لإتقان العمل المنوط بهم بعد أن علموا أن أي خسائر ناتجة عن عمليات السرقة ستخصم من رواتبهم.

وكان لرانجيت أيضًا أربعة مساعدين شخصيين صغار لكنهم مفعمون بالنشاط.

لم يكن هؤلاء الأربعة مدرجين في كشف رواتب الشركة القائمة على بناء الفندق، ولم يكونوا هم أو والدتهم جزءًا من خطة رانجيت لهذا الصيف. والواقع أن رانجيت تعرف عليهم في أحد الأيام عندما أعطاه جانيش سوبرامانيان كيسين من الطعام قال الطاهي إنه سيفسد إذا لم يُؤكل بسرعة. قال جانيش: «خذ هذا الطعام إلى السيدة كاناكاراتنام. زوجة كيرثيس كاناكاراتنام، كما تعرف. هل تذكر كيرثيس؟ ذلك الرجل الذي ألقي القبض عليه في كولومبو بتهمة حيازة بضائع مسروقة؟» تذكره رانجيت فأومأ برأسه. استطرد الأب: «للأسف تمر الأسرة بأوقات عصيبة. سمحتُ لهم باستخدام منزل الضيوف القديم الذي أمتلكه. بالطبع تذكر مكانه، أليس كذلك؟ اذهب وأعطهم هذه الأشياء بالنيابة عني.»

لم يعترض رانجيت. ولم يجد صعوبة في العثور على المكان أيضًا. كان أحد رفاق رانجيت في اللعب — ابن مهندس السكة الحديد الذي كان يقوم ببعض الأعمال من أجل المعبد — يعيش هناك عندما كان رانجيت صغيرًا؛ ولذا تذكر رانجيت المنزل جيدًا.

لم يتغير المنزل عما كان عليه كثيرًا. فالحديقة الصغيرة التي كانت تعتني بها زوجة رجل السكة الحديد في الفناء الأمامي صار جزء منها الآن يستخدم لزراعة الخضروات بينما نمت الحشائش من جديد في الجزء الآخر. فكر رانجيت أن المبنى يحتاج إلى طلاء جديد. ومع ذلك فإنه كان أصغر مما تذكر رانجيت إذ ضم ثلاث حجرات صغيرة وحمامًا منفصلًا في الفناء الخلفي ومضخة مياه بعيدة عن المنزل.

لكن المنزل كان خاليًا. فكر رانجيت إن كان من اللياقة دخول المنزل في ظل عدم وجود أحد بالداخل، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع ترك الطعام على الأرض. طرق رانجيت الباب الذي لم يكن موصدًا وألقى التحية، ثم دخل.

كانت أول حجرة رآها رانجيت هي المطبخ وفيه موقد يعمل بغاز البروبان، وحوض بلا صنابير لكنه مزود بماسورة لصرف المياه وإبريق ماء بلاستيكي كبير يكاد يكون فارغًا، وطاولة وكراسي؛ ولا شيء آخر. وبجوار المطبخ وجد رانجيت حجرة أصغر، من الواضح أنها غرفة نوم أحد الأشخاص لأن بها أريكة ووسائد وكومة من الملاءات المطوية على أحد طرفَي الأريكة. ثم تأتي الحجرة الثالثة الأشد اتساعًا والأشد ازدحامًا أيضًا؛ ففيها مهدان وسريران نقالان وثلاثة أو أربع خِزانات وكرسيان …

ثمة شيء آخر.

هناك شيء يجعل المنزل مختلفًا عما كان عليه عندما كان يحضر إليه في صغره. رأى رانجيت أنه في زاوية غرفة الأطفال يوجد أثر لشيء ما على الحائط، وعندما دقق النظر رأى أنه ملصق ديني يكاد يكون ممحوًّا وأنه مكتوب باللغة السنسكريتية.

هكذا، اقتضت طبيعة الحال! تلك هي الزاوية الشمالية الشرقية للمنزل، وكانت في يوم من الأيام زاوية البوجا في هذا المنزل؛ وهو مكان مقدس ومخصص للعبادة والصلاة وتحرص جميع الأسر الهندوسية التي تخشى الآلهة على وجوده في بيتها. لكن ماذا حل به الآن؟ أين تمثال شيفا أو غيره من تماثيل الآلهة الأخرى؟ أين وعاء البخور، أو الإناء المخصص لحمل الزهور وتقديمها، أو أي من اللوازم الأخرى لإقامة طقوس العبادة؟ لم يكن هناك شيء من هذا! مرت سنوات عديدة دون أن يفكر رانجيت في نفسه من منظور ديني، لكنه شعر بشيء من النفور عندما نظر إلى كومة ملابس الأطفال المغسولة وغير المطوية في المكان الطاهر المقدس الذي كان من قبل مخصصًا لطقوس البوجا. فهذا ليس أسلوب حياة لائقًا لأي أسرة هندوسية ملتزمة سواء أكانت تؤمن بوجود إله أم لا.

عندما سمع رانجيت أصواتًا تقترب من الخارج، وخرج لتقديم نفسه، زاد شكه في كون هذه الأسرة أسرة هندوسية ملتزمة. فعائل الأسرة — زوجة كيرثيس كاناكاراتنام — لا ترتدي الثياب التي يفترض أن يرتديها نساء الهندوس. وإنما ترتدي ثياب عمل خاصة بالرجال وحذاءً رجاليًّا برقبة طويلة أيضًا، وكانت تجر عربة أطفال بها وعاءان كبيران من البلاستيك مملوءان بالماء وطفلة صغيرة وبعض الأشياء الأخرى. رأى رانجيت ثلاثة أطفال آخرين إحداهم طفلة تبلغ من العمر عشرة أعوام أو اثني عشر عامًا وتحمل الطفلة الصغرى على ظهرها، بالإضافة إلى فتًى يحمل على كتفه في شجاعة حقيبة قنب تحتوي شيئًا ما. تحدث رانجيت إلى الجميع قائلًا: «مرحبًا. أنا رانجيت سوبرامانيان؛ ابن جانيش سوبرامانيان، أرسلني أبي ببعض الأشياء لكم. وقد وضعتها على الطاولة في الداخل. لا بد أنك السيدة كاناكاراتنام.»

لم تنكر المرأة هذه التهمة. تركت زوجة كاناكاراتنام يد العربة، وألقت نظرة على الطفلة النائمة بها لتتأكد أنها لا تزال نائمة. ثم مدت يدها لمصافحة رانجيت. وقالت: «أنا زوجة كاناكاراتنام، شكرًا لك. يجود والدك علينا كثيرًا. أيمكنني أن أقدم لك بعض الماء؟ ليس لدينا ثلج، لكن لا بد أنك تشعر بالظمأ بعد حمل هذه الأشياء إلى هنا.»

كان رانجيت ظمآن بالفعل فشرب الكأس التي ملأتها له من أحد الوعاءين شاكرًا إياها. (أوضحَتْ أنهم يضطرون لجلب مياه الشرب من مكان آخر. فموجة تسونامي التي ضربت البلاد منذ زمن بعيد غمرت مياه البئر بالملح القادم من الخليج، ولم تعد المياه إلى حالها قط. صحيح أنها مناسبة لغسل الملابس وبعض أنواع الطهي، لكنها لا تصلح للشرب.)

لاحظ رانجيت أن السيدة كاناكاراتنام في العقد الرابع من عمرها، وبدا أنها تتمتع بصحة جيدة، ولم تكن قبيحة الشكل أو حمقاء، لكن يبدو أنها على خلاف حاد مع عالم أدار ظهره لها. ومن الأمور الأخرى التي عرفها رانجيت أنها لم تكن تحب أن يناديها أحد باسم السيدة كاناكاراتنام. أخبرت رانجيت أنها هي وزوجها لم يرغبا في البقاء في هذا اللامكان الاستوائي الذي يسمى سريلانكا. وإنهما كانا يرغبان في العيش في بؤرة الأحداث — ربما في أمريكا على سبيل المثال. لكنهما اضطرا للاستقرار في بلد آخر لأن السفارة الأمريكية رفضت طلبهما الحصول على تأشيرات السفر. هاجر الزوجان إلى بلد مختلف كلية — وهو بولندا — لكن لم يرُقهما هذا المكان أيضًا. وقالت بلهجة أقرب إلى التحدي: «ولذا فعلنا أقصى ما نستطيع. فحصلنا على أسماء أمريكية. ولم يكن زوجي يوافق على أن أناديه باسم كيرثيس. فاسمه صار جورج واسمي دوروثي. أو دوت اختصارًا.»

قال رانجيت: «اسم جميل.» والواقع أنه لم يكن لديه رأي معين حول هذا الاسم. لكنه أراد أن يخفف نبرة العداء التي شابت صوتها.

وعلى ما يبدو أنه نجح في ذلك؛ لأنها بدأت تتحدث حديثًا عذبًا، موضحة أنهما سمَّيَا الأطفال بأسماء مماثلة، حين رُزقوا بهم. من الواضح أن دوت كاناكاراتنام ظلت طوال فترة تضع مولودًا كل عامين. فالابنة الكبرى تيفاني كانت في الحادية عشرة من عمرها، يليها الولد الوحيد هارولد ذو الأعوام التسعة، ثم روزي وبيتسي في السابعة والخامسة من عمريهما. وبأسلوب ارتجالي تمامًا قالت إن زوجها في السجن الآن؛ قالت هذا بأسلوب جعل رانجيت يظن أن من الأفضل ألا يصدر حكمًا حينئذٍ.

وعندما أتيحت لرانجيت فرصة إصدار حكم، رأى أنهم أطفال لطفاء إلى حد بعيد، وأنهم يتَّسمون بالود في بعض الأحيان وبالتطاول المُسلِّي في أحيان أخرى، ويشقون طريقهم بجهد جهيد، وإن كان ممتعًا، نحو النمو والنضوج. ومن جانبه تعلق رانجيت بالأطفال كثيرًا. حتى إنه قبل مغادرة منزل كاناكاراتنام عرض أن يصطحبهم إلى الشاطئ في يوم عطلته القادم.

كان هذا قبل يوم العطلة بثماني وأربعين ساعة. وقضى رانجيت جزءًا طويلًا من هذا الوقت يفكر هل سيستطيع تحمل المسئوليات المصاحبة لهذا العرض. على سبيل المثال، ماذا سيفعل إذا أراد أحد الأطفال قضاء حاجته؟

وفي يوم العطلة تولت تيفاني هذه المسئولية دون طلب من أحد. فعندما أرادت روزي أن تتبول، وجهتها تيفاني نحو الأمواج المتكسرة على الشاطئ حيث تتولى المياه الكثيرة القادمة من خليج البنغال تنظيف المكان. وعندما أراد هارولد أن يتغوط، وجهته تيفاني بيدها إلى أحد الحمامات المتنقلة الخاصة بعمال البناء دون أن تشغل بال رانجيت بهذا الأمر على الإطلاق. ومن وقت لآخر كانوا يلهون بالمياه معًا في الأماكن الضحلة؛ يتقدمهم رانجيت كأنه ذكر الإوز وهم صغاره. وفي الغداء تناولوا الساندويتشات التي حصلوا عليها من مقصف العمال. (من الواضح أن العمال لم يمانعوا في ذلك. هذا لأنهم أحبوا الأطفال أيضًا.) وفي ساعات النهار التي تشتد فيها الحرارة كان الأطفال يأخذون سنة من النوم أسفل أشجار النخيل، وعندما تعلن تيفاني عن وقت للراحة، كانوا يجلسون ويستمعون إلى رانجيت وهو يخبرهم بالقصص الرائعة حول المريخ والقمر وأقمار جوفيان الهائلة.

لا شك أن الأوضاع لم تكن هادئة هكذا في المناطق الأخرى من العالم.

في أفنية المدارس الإسرائيلية كانت فتيات فلسطينيات يبلغن من العمر عشرة أعوام يفجِّرن أنفسهن والمحيطين بهن كافة. وفي باريس عبَّر أربعة رجال أشدَّاء من شمال أفريقيا عن مشاعرهم تجاه السياسات الفرنسية عن طريق قتل اثنين من حراس برج إيفيل وإلقاء أحد عشر سائحًا من أعلى البرج. وكانت فينيسيا في إيطاليا وبلجراد في صربيا تشهدان أحداثًا كهذه، بينما ريكيافيك في أيسلندا تشهد أحداثًا أسوأ … وسيطر القلق على هذه القلة من قادة العالم الذين كانت بلادهم بمنأى عن العنف وهم يحاولون إيجاد مخرج للتعامل مع هذه الأحداث.

لكن رانجيت لم يكن يكترث كثيرًا …

حسنًا، كلا. كان يكترث كثيرًا لهذه الأمور عندما يفكر فيها فحسب، لكنه بذل قصارى جهده كي لا يفكر فيها.

وهو في ذلك يشبه الحمقى الطائشين في قصة «حفلة الموت الأحمر التنكرية» للكاتب إدجار آلان بو. فعالَمه بائس كعالمهم. لكن في غضون ذلك كانت الشمس دافئة، وفرح الأطفال كثيرًا عندما علَّمهم رانجيت كيفية الإمساك بالسلاحف النجمية وإجراء سباق فيما بينها، وأيضًا عندما حكى لهم بعض القصص. استمتع الصغار بسماع قصص رانجيت مثلما استمتع هو بإخبارهم إياها.

•••

من الغريب أنه في الوقت نفسه كان بعض — أو كل (إذ نادرًا ما يمكن التحديد) — عظماء المجرة يحاولون تعليم فصيلة مختلفة تمامًا من الكائنات الحية درسًا يكاد يكون مشابهًا.

بالطبع لم تكن هذه الكائنات الأخرى سلاحف، مع أن أجسامها كانت مغطاة بأصداف صلبة مثل السلاحف، ومعدلات ذكائها منخفضة كالسلاحف أيضًا. كان «عظماء المجرة» يعلِّمونهم كيفية استخدام الآلات.

كان هذا واحدًا من بين عدد لا حصر له من الاهتمامات التي يفرضها «عظماء المجرة» على أنفسهم. ربما يفكر أحد البشر في ذلك على أنه محاولة لرفع كفاءة الكائنات الحية في المجرة.

قامت فكرتهم على أنه إذا تعلمت الأصداف الصلبة استخدام رافعة وخطاف وحَجَر، فربما تخطو هذه الكائنات أولى خطواتها نحو الذكاء. وإذا نجح هذا فربما يصلون إلى ما هو أبعد من ذلك في ظل الإشراف الدقيق من جانب عظماء المجرة. وربما يصلون إلى أفضل التقنيات دون المرور بما قد يشتت انتباههم من أمور لا داعي لها مثل الاستعباد والاستغلال والحروب.

قد يستغرق هذا البرنامج وقتًا طويلًا جدًّا. لكن «عظماء المجرة» لديهم الكثير من الوقت، وقد ظنوا أن الفكرة جديرة بالمحاولة. فكَّر «عظماء المجرة» أن الأمر ربما يستحق العناء إذا تمكنت فصيلة واحدة فقط — في التاريخ المستقبلي للكون — من الوصول إلى أقصى مراحل التطور حيث نقل المادة واستعمار الفضاء دون تعلُّم فن القتال أثناء حدوث هذا التطور. من المؤكد أن «عظماء المجرة» كانوا يتسمون بالذكاء والقوة. لكنهم في بعض الأحيان كانوا يتسمون بالسذاجة أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤