الفصل التاسع

أيام الخمول

خالج رانجيت شعور ببعض الرضا عن عطلة الصيف بوجه عام. فالوظيفة التي يعمل فيها سهلة، ويبدو أن أحدًا لم يكن يمانع في اصطحابه للأطفال الأربعة إلى العمل. لكنه كان ينزعج من الاعتناء بالصغار، مع إصرار دوت على ذلك في الأيام التي تضطر فيها للابتعاد تمامًا عن المنزل. وهو ما كان يتكرر كثيرًا. في بعض الأحيان يكون ذلك بسبب حاجتها إلى البحث عن عمل، على الرغم من أن الحظ لم يحالفها كثيرًا في هذا الشأن. وفي معظم الأحيان كانت تضطر لبيع بعض من مقتنياتهم لتتمكن من توفير الطعام والكساء لأطفالها.

لاحظ رانجيت أن غياب دوت عن المنزل صار أكثر تكرارًا. وظن أنه ربما أصبح موضع ثقتها. ولكنه لم يكترث لذلك. من الواضح أن الأطفال مبهورون بقصصه وحيله الرياضية سواء أكان ذلك من باب التشويق أم من باب التأدب معه فحسب. لم تذهب السنوات التي قضاها رانجيت في التفكير في نظرية الأعداد سدًى كليةً. لقد تعلَّم مع زملائه طرقًا للتلاعب بالأرقام لم يسمع بها رجل الشارع العادي من قبل.

على سبيل المثال، كانت هناك طريقة تسمى «طريقة الضرب الروسية». في البداية فكَّر رانجيت أن تيفاني وحدها هي التي قطعت شوطًا كبيرًا في تعلُّم الضرب في المدرسة. فقال للبقية: «لا تخجلوا إذا كنتم لا تعرفون كيفية ضرب عددين. فقديمًا كان هناك الكثيرون من الكبار — خاصةً في أماكن مثل روسيا — لا يعرفون كيفية فعل ذلك أيضًا. لذا ابتكروا حيلة. وأطلقوا عليها «طريقة الضرب الروسية»، وهي كالآتي. أولًا، نكتب العددين أحدهما بجوار الآخر هكذا. لنقل إنكم تودون ضرب واحد وعشرين في سبعة وثلاثين.»

أخرج رانجيت من جيبه مفكرة صغيرة كان قد عزم على إحضارها من قبل وكتب فيها بسرعة، ثم عرض الصفحة أمامهم:

«الآن، هل تعرفون مضاعفة أحد الأعداد؟ رائع. ضاعفوا إذن العدد الأيمن وهو واحد وعشرون، واقسموا العدد الأيسر على اثنين واكتبوا الناتج أسفل الأعداد الأولى؛ وهكذا تحصلون على …»

«يتبقى واحد بعد قسمة العدد الأيسر على اثنين، لكن لا تُلقوا له بالًا. أهملوا هذا الواحد المتبقي فحسب. ثم كرروا نفس عملية القسمة والمضاعفة على الأعداد التالية وعلى الأعداد التي تليها حتى تحصلوا على الرقم واحد في العمود الأيسر.»

«وحيثما كان الرقم في العمود الأيسر زوجيًّا، احذفوا السطر بأكمله.»

«ثم اجمعوا الأرقام الموجودة في العمود الأيمن.»

وكتب رانجيت: «٢١ × ٣٧ = ٧٧٧»، وقال: «وتلك هي الإجابة!»

ترقب رانجيت رد فعل من الأطفال. والواقع أنه تلقى أربعة ردود أفعال مختلفة. إذ صفَّقت بيتسي الصغيرة في إشادة بنجاح رانجيت. وبدت روزي سعيدة لكن متحيرة، بينما اكفهرَّ وجه هارولد، وسألت تيفاني بأدب ما إذا كانت تستطيع استعارة القلم والورقة من رانجيت. أمعن رانجيت النظر فيما تكتب:

قالت تيفاني: «نعم، هذا صحيح. أعطني عددين آخرين من فضلك يا رانجيت.»

أعطاها رانجيت مسألة سهلة — ثمانية في تسعة — ثم مسألة أكثر سهولة، وإذا بهارولد يطلب فرصته هو الآخر. وحصل عليها، وبدا أنه سيكون سعيدًا بإجراء طريقة الضرب الروسية على المزيد من الأعداد البسيطة، لكن الفتاتان الصغريان بدأتا تعترضان. أرجأ رانجيت فكرة إخبارهم بالسبب الذي يجعل ضرب الأعداد على الطريقة الروسية مثالًا للحساب الثنائي إلى وقت آخر. قال رانجيت وهو سعيد للغاية بنجاح هجمته الأولى على نظرية الأعداد مع الأطفال: «كان هذا أمرًا ممتعًا. دعونا الآن نصطاد المزيد من السلاحف.»

•••

وصل جاميني باندارا إلى سريلانكا في الوقت المحدد تمامًا، لكنه تحدث بلهجة اعتذارية عندما اتصل برانجيت. فوقته مشغول أكثر مما كان يظن. ولن يتمكن من زيارة ترينكومالي في هذا الوقت تحديدًا؛ لذلك هل يمانع رانجيت في القدوم إلى كولومبو من أجل هذه الزيارة بدلًا من ذلك؟

الواقع أن رانجيت شعر بالضيق، ولم يفلح في إخفاء مشاعره. فقال: «حسنًا، لا أدري إن كنت أستطيع ترك العمل.» لكن جاميني أقنعه أن يفعل، ولم يكن لدى كبير العمال في موقع البناء أي مانع في تغيب رانجيت عن العمل لأي أجل يشاء (لأن صهرَ كبير العمال سيرحب بأن يحل محل رانجيت ويحصل على راتبه أيضًا أثناء غيابه). بذل جانيش سوبرامانيان قصارى جهده في مساعدته. كان رانجيت يخشى انزعاج والده إزاء عودة ظهور جاميني مرة أخرى في الصورة. لكن ذلك لم يحدث. من الواضح أن زيارة قصيرة — خاصة تلك التي تحدث على مسافة بعيدة جدًّا — لن تسبب مشكلة. يسَّرَ جانيش الأمر على ابنه قدر المستطاع. قال جانيش بلهجة مستنكرة: «الحافلة؟ لن تستقل الحافلة بكل تأكيد. فهناك شاحنة مخصصة لي ولا أستخدمها. خذها يا رانجيت. واحتفظ بها إلى ما تشاء. فربما تكون شارة المعبد على أبواب الشاحنة رادعًا لبعض المؤذين عن تفريغ إطاراتها من الهواء.»

وهكذا وصل رانجيت إلى كولومبو ومعه حقيبة في مؤخرة الشاحنة تحتوي على ملابس تكفيه عدة أيام. تحير رانجيت لأن جاميني أخبره أنه سيقيم في فندق بدلًا من الإقامة في منزل والده. وتفهَّم سر اختيار جاميني لهذا الفندق تحديدًا — ففيه حانة زارها الفَتَيان عدة مرات خلال استكشافهما للمدينة — لكنه تعجب من أن والد جاميني سمح له بالابتعاد عنه ولو لليلة واحدة.

عندما طلب رانجيت من موظف الاستقبال أن يُعلم جاميني بحضوره، هز الموظف رأسه مشيرًا إلى الحانة. وهناك وجد جاميني لكن ليس بمفرده. فعن يمينه ويساره جلست فتاتان وأمامهم على الطاولة زجاجة خمر تكاد تكون فارغة.

وقف الثلاثة لتحية رانجيت. كانت الفتاة شقراء الشعر تدعى برو، أما الأخرى — واسمها ماجي — فكان شعرها كلون أحمر شفاه غريب جدًّا لدرجة أنه ما من جينات بشرية كانت لتنتجه أبدًا. قال جاميني بعد أن انتهى من تعريف رانجيت بهما: «قابلتهما على متن الطائرة. هما أمريكيتان. إنهما تدرسان في لندن، على حد قولهما، لكن الكلية التي تذهبان إليها هي كلية الفنون؛ وهي الكلية التي لا تتعلم فيها شيئًا سوى الظهور بمظهر لائق. آه!»

كانت صيحته المتأوهة الأخيرة بسبب أن ماجي — الفتاة ذات الشعر الأحمر العجيب — قرصت أذنه بأصابعها. ثم أردفت مخاطبة رانجيت: «لا تلقِ بالًا لهذا الأفَّاك. فأنا وبرو ندرس في كامبرويل. وهي كلية للفنون يكلفك فيها الأساتذة بمهام شاقة. وجاميني لن يتحمل هناك أسبوعًا واحدًا.»

مدَّ رانجيت يده. فصافحته الفتاتان بحرارة واحدة تلو الأخرى. وقال: «أنا رانجيت سوبرامانيان.»

تحدثت الفتاة التي تدعى ماجي. وأخبرته قائلة: «نحن نعرف من تكون. أخبرنا جاميني بكل ما يمكن معرفته عنك. فأنت شخص قصير القامة ذو اسم طويل، وتقضي كل وقتك في حل مسألة رياضية واحدة. قال جاميني إنه إذا تمكن أي شخص من حل هذه المسألة، فستكون أنت هذا الشخص.»

لم يدرِ رانجيت — الذي لا يزال يعاني الشعور بالذنب بين الحين والحين لتجاهله نظرية فيرما — بمَ يرد على ذلك. ونظر إلى جاميني طلبًا للمساعدة، لكن الواقع أن تعبيرات وجه جاميني شابها شيء من الندم. وقال جاميني بلهجة تنم عن ندم أكبر مما كان يرتسم على وجهه: «اسمع يا رانجيت، من الأفضل أن أخبرك الآن بما لديَّ من أخبار سيئة. عندما كتبت لك كنت آمل أننا سنستطيع قضاء بضعة أيام على الأقل معًا.» ثم هز رأسه. وقال: «لكن ذلك لن يحدث. فأنا وأبي لدينا التزامات كثيرة سنبدؤها من الغد. إنها التزامات عائلية كما تعرف.»

كان رانجيت يعلم ما يقصده جاميني، وتذكر تلك الأيام التي سبقت رحيل جاميني إلى لندن. بدت خيبة الأمل على وجه رانجيت. وأردف قائلًا: «لديَّ أسبوع إجازة وسيارة وكل شيء.»

هز جاميني كتفيه ممعنًا في رفضه. وقال: «لن يفيد ذلك في شيء. لقد كان يريدني أن أتناول معه العشاء الليلة، لكني رفضت تمامًا.» وحدق جاميني في وجه رانجيت هنيهة، ثم ابتسم. وقال: «لكني سعيد برؤيتك! فلتعانقني!»

في البداية أراد رانجيت معانقة جاميني فقط كي لا يسبب له حرجًا أمام الفتاتين، لكن مع التقاء جسد جاميني الممشوق الدافئ بجسد رانجيت بادله العناق بمشاعر حب حقيقية. قال جاميني: «على أي حال، أنت لم تشرب شيئًا بعد. أيمكنكِ أن تتولي هذا الأمر نيابة عني يا برو؟»

ولمعرفة رانجيت أن الفتاتين تدرسان شيئًا ذا علاقة بالفن، حاول رانجيت فتح حوار معهما. فسأل ماجي قائلًا: «تودين أن تصبحي فنانة إذن؟»

نظرت إليه نظرة مرتابة. وأجابت: «ماذا، وأتضور جوعًا؟ مستحيل! أنا على يقين من أنني سأتجه لتدريس الفنون في إحدى كليات المجتمع القريبة من ترينتون أو نيو جيرسي حيث تعيش أسرتي. أو في المكان الذي يعمل فيه زوجي عندما أتزوج.»

تحدثت برو ذات الشعر الأشقر. وقالت: «أوه، أتمنى أن أصبح فنانة يا رانجيت. مع أني لن أستطيع تحقيق ذلك. فلست أحظى بأي موهبة فنية، ولا أرغب في العودة إلى أسرتي في مدينة شاكير هايتس. أتمنى أن أعمل خبيرة مزادات في مكان مثل دار ساذبيز. هناك يتسنى لي الحصول على عائد جيد، والتعامل مع أشخاص رائعين، فضلًا عن أني سأكون قريبة من الفن حتى وإن لم أشارك في إبداعه.»

أعطت ماجي رانجيت مشروب العَرَق والكولا وهي تضحك وتقول: «إنه احتمال معدوم.»

مدت برو إحدى قدميها بالقرب من قدمي جاميني، وركلت ماجي بها. ثم قالت: «أيتها الحمقاء. لا أعني أنني سأبدأ هكذا على الفور. يمكنني البدء كمتدربة، وربما يكون أول ما يكلفونني به الحصول على الأرقام من شارات المزايدة التي يرفعها المزايدون في الجزء الخلفي من القاعة حيث لا ينظر منادي المزاد الفعلي. رانجيت؟ ألا تحب العَرَق والكولا؟»

لم يجد رانجيت ردًّا مناسبًا لسؤالها. فالواقع أنه أحبه كثيرًا عندما كان يستكشف المدينة مع جاميني، لكنه لم يذق هذا المشروب تحديدًا منذ أن سافر جاميني. غير أنه عندما شرب منه ووجده حلو المذاق. والمشروب التالي كان كذلك أيضًا.

•••

مع أن الأمسية لم تكن مثلما توقع رانجيت، فإنها لم تكن سيئة على الإطلاق. وفي لحظة ما قامت الفتاة التي تدعى برو من مكانها بجوار جاميني، وجلست إلى جوار رانجيت. وعلى الفور انتبه رانجيت إلى ثلاثة أشياء. فالفتاة كانت ودودة ورقيقة وتفوح منها رائحة عطرة. لم تكن رائحتها عطرة مثل مايرا دو سويزا أو بيتريكس فورهولست، لكنها كانت رائحة طيبة.

ولم يكن رانجيت ساذجًا، فقد كان يعرف أن الرائحة التي تفوح من النساء هي في الأساس منتج يشترينه من أي صيدلية. وبغض النظر عن هذا. فإن رائحة برو عطرة، فضلًا عن أنها تتمتع بميزات أخرى أيضًا، ومن بينها أنها لم تكن تجد غضاضة في أن تمسها ذراع رانجيت إضافة إلى أن حديثها كان مسلِّيًا. وبوجه عام رأى رانجيت أنه كان يقضي وقتًا ممتعًا.

لكن مع مُضِيِّ الوقت أدرك رانجيت أن هناك عددًا من الأسئلة يدور في عقله بلا جواب. وعندما ذهبت الفتاتان إلى حمام السيدات، وجد فرصة لطرح بعض هذه الأسئلة. وكبداية سأل جاميني هل تعرَّف عليهما في لندن. بدا جاميني مندهشًا. وقال: «لم أرَ أيًّا منهما إلا عندما ظهرتا على متن الطائرة من دُبَي، وسنحت لنا فرصة الحديث.»

«حسنًا، فهمت»، قالها رانجيت مع أنه لم يكن مقتنعًا. ولمزيد من التوضيح سأله رانجيت: «وماذا عن صديقتك مادج؟»

نظر إليه جاميني نظرة طويلة ضاحكة. وقال: «أتعرف ما هي مشكلتك، يا رانجيت؟ أنت تقلق كثيرًا. مادج في برشلونة الآن، وأظن أنها مع الشخص الذي يرسل إليها رسائل كثيرة بين ساعة وأخرى أيًّا كان هذا الشخص. تناول مشروبًا آخر.»

تناول رانجيت مشروبًا آخر. في الحقيقة أن كليهما تناول مشروب آخر، وكذا فعلت الفتاتان عندما عادتا. لكنه لم يكن كسابقه تمامًا. فرانجيت لم ينهِ مشروبه، وكذا معظم الباقين. بعدئذٍ همست ماجي بشيء في أذن جاميني. فقال لها: «أوه، حسنًا»، ثم قال لرانجيت: «أخشى أن الوقت قد تأخر. لقد سعدت برؤيتك مجددًا، لكني سأذهب أنا وأبي في الصباح لرؤية جدتي. لذا، يتعين علينا الذهاب الآن.» وقف جاميني وهو يبتسم. ثم قال: «ألن تعانقنا؟»

رضخ رانجيت وعانق جاميني وماجي أيضًا. في حين أضاف جاميني وهما يهمان بالانصراف: «لا تلقِ بالًا للفاتورة. سيحولونها إلى حساب والدي. هلمِّي عزيزتي.» وبينما شق جاميني وماجي طريقهما وسط الطاولات إلى الباب، فَهِم رانجيت ما كان يعنيه استخدام جاميني صيغة الجمع.

وهكذا بقي رانجيت بمفرده مع الفتاة التي تُدعى برو.

كان رانجيت يفتقر إلى الخبرة حول ما يُفترض قوله في مثل هذه الظروف. لكنه شاهد أفلامًا أمريكية كثيرة عرف من خلالها ما يمكن أن يقول. فقال لها بأسلوب مهذب: «أتودين تناول مشروب آخر؟»

هزت الفتاة رأسها وهي تبتسم. ثم أشارت إلى الكوب الممتلئ أمامها. وقالت: «لم أكد أتناول شيئًا من مشروبي الأخير. على أي حال، أظن أنه لا داعي لطلب مشروب آخر، ألا تظن ذلك؟»

وافقها رانجيت الرأي، لكن أفكاره بشأن الخطوة التالية كانت تنضب. ففي الأفلام وفي مثل هذه اللحظة ربما يطلب الرجل من المرأة أن ترقص معه. لكن ذلك الخيار ليس متاحًا هنا في حانة هذا الفندق، وعلى أي حال فإن رانجيت لا يعرف كيف يراقص فتاة.

أنقذته برو. فقالت: «لقد كانت سهرة لطيفة للغاية رانجيت سوبرامانيان، لكن عليَّ الانصراف لأني سأزور معالم المدينة غدًا. أتظن أن النادل سيطلب لي سيارة أجرة؟»

بدت الدهشة على وجه رانجيت. فسألها: «ألا تنزلين في هذا الفندق؟»

– «حجزنا مكانًا للمبيت قبل مغادرة لندن، ونزلنا في المكان الذي اختير لنا. إنه يبعد عن هنا خمس دقائق بالسيارة.»

هنا فكر رانجيت فيما يمكن أن يفعل، ووضع فكرته موضع التنفيذ بالفعل. وسعدت برو باستقلال شاحنة المعبد — حتى وإن كان رانجيت ثملًا قليلًا أثناء القيادة — وكانت متشوقة للاستماع لرانجيت وهو يتحدث عن مكانة والده في المعبد إضافة إلى موجز مختصر عن التاريخ الطويل والحافل لمعبد تيرو كونيسفارام. حتى إنها دعته إلى كوب من القهوة ليفيق من سُكْره عندما وصلا إلى الفندق الذي تنزل فيه.

اختارت وكالة السفر في لندن للفتاتين فندقًا للشباب، وكان في بهو الفندق عدد كبير من الشباب الذين يحدثون جلبة لا يمكن معها إجراء حوار، وهو ما جعل برو تدعوه إلى غرفتها. وتجاذبا أطراف الحديث، وجلسا أحدهما بجوار الآخر في ألفة، وأحدث هذا التقارب أثره. ففي غضون ساعة أقام رانجيت علاقة مع فتاة للمرة الأولى في حياته. وقد استمتع كثيرًا بهذه التجربة. وكذا كانت برو، على نحو جعلهما يكرران الأمر مرتين أخريين قبل أن يناما.

•••

كانت الشمس قد ارتفعت في السماء وزادت حرارتها عندما استيقظ رانجيت وبرو على صوت مفتاح يوضع في رتاج الباب. دخلت ماجي، ويبدو أنها لم تندهش لرؤية رانجيت وبرو معًا في أحد فراشَي الغرفة. سألها رانجيت عن جاميني، فقالت إنه رحل منذ وقت طويل، إذ هب من الفراش، وارتدى ملابسه مسرعًا عندما اتصل موظف الاستقبال ليخبره أن والده ينتظره في بهو الفندق. قالت ماجي وهي توجه لبرو نظرة متسائلة: «على أي حال من المفترض أننا سنتناول الغداء مع ابن عم المدرس الذي يعلمكِ الرسم والذي يعمل في السفارة، وها هي العاشرة والربع.»

اعتبر رانجيت — الذي كان يرتدي ملابسه بأسرع ما يمكن — أن ذلك تلميح بضرورة رحيله. لكنه لم يكن يعرف كيف يستأذن برو في الرحيل، ولم تساعده هي بشيء هذه المرة. قبَّلته برو قبلة وداع حارة. لكنه عندما عرض عليهما في تردد أن يصطحبهما لرؤية معالم المدينة إن أرادتا، لم تجد برو فرصة لذلك وسط التزاماتها في هذا اليوم، أو في أي يوم آخر في واقع الأمر.

فهم رانجيت الرسالة بوضوح. وقبَّلها ثانية لكن بحرارة أقل بكثير هذه المرة، ولوح بيده مودعًا ماجي، ثم انصرف.

وعندما عاد رانجيت إلى الشاحنة، أخذ يفكر. فلديه شاحنة، وهو حر طليق مدة أسبوع على الأقل. لكن لا شيء يبقيه في كولومبو ولا شيء يجذب انتباهه في أي مكان آخر في سريلانكا. لذلك هز كتفيه وأدار المحرك، وبدأ رحلة العودة الطويلة إلى ترينكو.

بعد مرور ساعة كان رانجيت خارج حدود مدينة كولومبو يفكر فيما سيقول والده عندما يعيد الشاحنة بسرعة هكذا. وإن كان معظم تفكيره منصبًا على الفتاة التي تدعى برو والتي لم يعرف لقب عائلتها. ما الداعي لتصرفها هذا — أو ما الداعي لتصرفاتها العديدة والمختلفة على نحو يناقض بعضه بعضًا — أثناء علاقتهما العابرة التي كانت مهمة للغاية على الأقل في نظر رانجيت؟ كان رانجيت قد قطع من الطريق مسافة ثلاثين كيلومتر تقريبًا عندما توصل إلى إجابة مُرضية.

لم تكن كلمة «مُرضية» أنسب الكلمات التي يمكن استخدامها. كان رانجيت متأكدًا إلى حد بعيد أن لديه تفسيرًا، لكن هذا التفسير لم يرقه على الإطلاق. ففحوى استنتاجه أن تصرفات برو كانت متعلقة بلون بشرته. فإقامة علاقة مع شخص آسيوي قصير القامة أسود البشرة — ماذا يسمي الناس من الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها برو شخصًا بهذه المواصفات؟ أوه، حسنًا. «عبد.» إنهم يستخدمون الكلمة للتحقير ووصف شاب شرقي ماكر. ربما تكون تجربة إقامة علاقة مع شخص كهذا ممتعة ما دام لا يعرف بها أحد سوى فتاة أخرى تفعل الأمر نفسه. لكنه ليس أمرًا مقبولًا عندما يكون هناك احتمال بأن يعرف به أشخاص قد يحدثون به أشخاصًا آخرين إلى أن يصل الخبر في النهاية إلى لندن أو شاكير هايتس؛ أيًّا كانت شاكير هايتس تلك.

وهكذا سادت الكآبة أفكار رانجيت طوال ساعة مقبلة أو نحو ذلك. لكنها لم تستمر على هذه الحال. فأيًّا كان ما فكرت فيه برو، فقد استمتع رانجيت كثيرًا باستحضار ما كان يصدر عنها من حركات حال تفكيرها هذا. أقر رانجيت أنها واحدة من أمتع التجارب التي خاضها في حياته. وعلى ما يبدو أنها تجربة لن تتكرر مع هذه الفتاة مرة أخرى، لكن أليست هناك نساء أخريات في العالم؟ أليس من بينهن من لا تكترث للون بشرته؟

مثل مايرا دو سويزا على سبيل المثال؟

دارت هذه الفكرة الجديدة والمشوقة في عقل رانجيت. وعلى سبيل التجربة هيأ رانجيت مخيلته لمهمة جديدة، وهي استحضار ذكرياته في تلك الليلة التي قضاها مع برو، ولكن مع استبدال برو بمايرا بها.

لم يفكر رانجيت في مايرا على هذا النحو تحديدًا من قبل، لكنه لم يجد صعوبة في الأمر. استمتع رانجيت بهذه الفكرة كثيرًا إلى أن خطر بباله مع الأسف ما كان من أمر رجل الفنادق الكندي الذي يدعى براين هاريجان. فهذا الجزء لم يكن ممتعًا البتة.

توقف رانجيت على مضض عن التفكير في هذه التجربة، وواصل القيادة وهو يبذل قصارى جهده ألا يفكر في شيء على الإطلاق.

•••

كانت الشمس تميل نحو الغروب عندما وصل رانجيت إلى ترينكومالي. فكَّر في العودة إلى غرفته الموحشة، لكنه أراد شخصًا يتحدث إليه — بالطبع ليس عن برو التي لا يعرف اسمها بالكامل — وإنما عن أي شيء آخر. وغامر بالذهاب إلى منزل كاناكاراتنام حيث نال بُغيته.

كان الجميع داخل المنزل. ومع أن الباب كان مغلقًا فقد استطاع رانجيت سماع صوت دوت كاناكاراتنام، لكنه لم يسمع صوت أحد غيرها. وعندما فتحت تيفاني الباب ودعته إلى الدخول رأى أمها تجلس أمام المائدة وتتحدث في هاتف خلوي. (لم يكن رانجيت يعلم أن لديها واحدًا.) وعندما رأته دوت عند مدخل البيت، قالت بضع كلمات سريعة في الهاتف ثم أغلقته. امتزجت النظرة التي علت وجهها بشيء أوقع القلق في نفس رانجيت؛ أهو غضب؟ أم حزن؟ لم يدرِ رانجيت. قالت دوت: «لقد عدتَ مبكرًا يا رانجيت. ظننا أنك ستقضي وقتًا أطول مع صديقك.»

أجاب رانجيت في شيء من الحزن: «هذا ما ظننتُه أيضًا، لكن ذلك لم يحدث. وإن كنت قضيت وقتًا ممتعًا.» لم يكن رانجيت ينوي إخبارهم عن ماهية هذه المتعة، وإنما أراد أن يحدثهم أكثر عن روعة المكان في كولومبو، لكنه توقف أمام التعبيرات التي ارتسمت على وجوه الأطفال. وتساءل: «أهناك خطب ما؟»

أجابت دوت نيابة عن الأسرة بأكملها. وقالت: «إنه جورج. زوجي. لقد فرَّ من السجن.»

فاقت هذه الأخبار في وقعها أي شيء كان سيقوله رانجيت. وألح لمعرفة التفاصيل. فعرف أن جورج كاناكاراتنام — لسبب مُبهم لم تفصح عنه الشرطة — كان يُرَحَّل إلى سجن آخر. عندها وقع حادث سيارة. لقي فيه الحارس والسائق مصرعهما. بينما نجا كاناكاراتنام، وفر بعيدًا.

تدخَّل هارولد عندما توقفت والدته لالتقاط أنفاسها قائلًا: «كانت شرطة ترينكو هنا طوال اليوم. قالوا إن والدي ربما يكون قد فر على متن قارب. فقد كان هناك جسر يمر فوق نهر كبير على طول الطريق.»

قالت روزي بلهجة منتصرة أثارت حيرة رانجيت: «لكن لم تكن هناك أي دماء.» وسبب هذه الحيرة أنه خُيِّل لرانجيت أنه في حالة موت الرجلين فلا بد من وجود بعض الدماء في موقع الحادث.

أوضحت تيفاني الأمر. وقالت: «هي تقصد أنه لم تكن هناك دماء داخل الحافلة إلا حول المقاعد الأمامية. وهو ما يجعلنا نرجح أن والدنا لم يصب بسوء.»

ردت دوت على نظرة رانجيت بنظرة عداء. وقالت: «أنت تفكر في جورج على أنه شخص معتاد الإجرام، بينما هم يرونه أبًا لهم. ومن الطبيعي أن يكنوا مشاعر الحب له.» ثم أضافت في لهجة ودودة: «هل أحضر لك كوبًا من الشاي؟ نود أن تخبرنا عن رحلتك.»

استجاب رانجيت لدعوتها، وجلس أمام المائدة. لكن لم تتح له الفرصة لإخبارهم بما حدث؛ لأن تيفاني لوحت بيدها. وعندما تحدثت لم يكن حديثها موجهًا لرانجيت وإنما لأمها. فتساءلت: «أينبغي علينا أن نخبره بشأن الخطاب الآن؟»

نظرت دوت إلى رانجيت نظرة ملؤها الأسى. وقالت: «أوه، أنا آسفة. فقد وقعت أمور كثيرة جعلتني أنسى.» وبحَثَت دوت بين كومة الأوراق الموضوعة فوق المائدة هنيهة ثم أخرجت من بينها مظروفًا وأعطته لرانجيت. وأردفت تقول: «أحضره أحد الرهبان. ظل في غرفة البريد أسبوعًا لأنه لم يخبرهم أحد عن مكان إقامتك.»

وأضافت تيفاني: «وفي صباح اليوم عندما توصلوا لمكانك، حاولوا توصيله إلى غرفتك، لكنك لم تكن هناك. فأخبرتهم أمي أن بوسعهم ترك الخطاب هنا، وأننا سنحرص على تسليمك إياه.»

بدت علامات الخجل على وجه دوت. وقالت: «نعم، فعلتُ ذلك. فالشرطة كانت هنا، ولم أكن أرغب في شيء سوى رحيلهم جميعًا …»

وتوقفت دوت عندما انتبهت إلى أن رانجيت لا يستمع لحديثها. كان الخطاب يحمل عنوان المرسِل، وهو الفندق المطل على الشاطئ والقريب من موقع البناء. وكذلك كانت الورقة الموضوعة بداخله والتي كُتب فيها:

عزيزي رانجيت،

سأقضي بضعة أيام هنا. أهناك فرصة لأن نلتقي لتناول كوب من الشاي أو شيء من هذا القبيل؟

كان الخطاب موقعًا باسم مايرا دو سويزا.

لم ينتظر رانجيت تناول الشاي مع آل كاناكاراتنام. وقال وهو في طريقه للخروج من المنزل: «أراكم لاحقًا.»

لم يستغرق الطريق إلى الفندق أكثر من عشرين دقيقة. وهناك عاونته موظفة الاستقبال الشابة قدر استطاعتها، لكن أهم ما في الأمر أنها قالت له في النهاية: «أوه، لكن السيدة مايرا دو سويزا والسيد براين هاريجان غادرا الفندق بالأمس. وأظن أنهما عادا إلى كولومبو.»

وعندما عاد رانجيت إلى الشاحنة اعترف بمدى أسفه لأنه فاته مقابلتها ومدى استيائه من فكرة ارتحالها هي والكندي معًا. وقاد الشاحنة ببطء في طريق العودة وقد استولت عليه الكآبة. توقف رانجيت عندما وصل إلى المنعطف الذي يقود إلى منزل كاناكاراتنام، ثم سلك الاتجاه الآخر. كان نجاح زوج دوت في الفرار من سجن فيدرالي أمرًا مشوقًا نوعًا ما. وكان رانجيت يتطلع إلى إخبار الأطفال عن رحلته أيضًا. أو بالأحرى إخبارهم ببعض منها.

لكن ليس الآن. فهو لا يود الحديث مع أي شخص عن أي شيء.

•••

عاد رانجيت إلى عمله في اليوم التالي. لم يَسعد صهر كبير العمال كثيرًا برؤيته، لكن عندما مر لاصطحاب أبناء كاناكاراتنام، كانوا سعداء للغاية وهو ما هوَّن عليه الأمر. وعندما حان موعد القصة، استهوى الأطفال الاستماع إلى كيف قاوم ملوك كاندي الغزاة الأوروبيين طوال سنوات (مثلما قرأ رانجيت على جهاز الكمبيوتر في الصباح الباكر)، وكان واضحًا أنهم لا يريدون الحديث عن أبيهم الهارب.

وكذلك كان حال الأم لعدة أيام على الأقل، وعندما ذهب رانجيت لاصطحاب الأطفال ذات صباح، لم يذهبوا معه.

كانت دوت كاناكاراتنام تجلس أمام المائدة وقد وضعت الملابس وأدوات المنزل في حقائب، وكذلك عبأ الأطفال الأربعة بعض الأمتعة الخاصة بهم. وعندما رأت دوت نظرة التساؤل تطل من عينَي رانجيت، ابتسمت له ابتسامة عريضة. وقالت: «لديَّ أخبار سارة يا رانجيت! عثر بعض أصدقائي القدامى على وظيفة لي! إنها هنا في ترينكو لكن بالقرب من المرفأ. لست على علم بطبيعة العمل تحديدًا، لكنهم يقولون إني سأتلقى راتبًا جيدًا، وسنحصل على سكن أيضًا!»

نظرت إلى رانجيت نظرة مترقبة. فقال محاولًا الرد عليها بما تود سماعه: «إنه لأمر رائع.» وتساءل رانجيت في نفسه كيف أنها لا تعرف طبيعة العمل الذي ستقدم عليه، لكنه انتبه إلى حالة اليأس التي كانت عليها، فلم يُضيِّق عليها. وإنما قال: «ومتى ستبدئين العمل؟»

أجابت: «سوف أبدأ على الفور. لكن بقي أمر واحد يا رانجيت. ألا تزال شاحنة أبيك معك؟ فتكلفة سيارات الأجرة باهظة جدًّا. هل يمكنك أن تُقِلَّنا إلى المرفأ؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤