العُميان
العُميان
عُميان بروجيل
وهذه صورةٌ أخرى لنفس الفنان، بيتر بروجيل الأكبر أو الأول (من حوالي ١٥٢٥م إلى ١٥٦٩م) — الذي يُلقَّب كذلك باسم بروجيل الفلاح أو الريفي وإن لم يشتغل أبدًا بالزراعة! — كان أهم رسَّامٍ ساخر أنجبَته بلاد الأراضي الوطيئة (هولندا) بعد هيرونيموس بوش (من حوالي ١٤٥٠م إلى ١٥١٦م)، لكن كم تجرح سخريته، وكم ينزف من جرحها دم المأساة البشرية التي يقف مع ذلك أمامها وقفة الورَع والخشوع والتعاطف العميق الذي لا يُخفي احتجاجه على المظالم والآلام التي تخيِّم على القدَر الإنساني وعلى الإنسان الشعبي البسيط الغارق في أسواق العمل والكدح والمُتع واللذات الفجَّة الغليظة …
وصورة العميان الستة التي تراها مع هذه الكلمات هي آخر صورةٍ رسمها في حياته القصيرة. ربما تحمل تحذيرًا للمبصرين بأنهم ليسوا خيرًا منهم، وبأن الأعمى — كما نرى من مصير أوديب وعلى حدِّ تعبيره أيضًا — يحمل في داخله «عينًا ثالثة» تملك البصيرة التي لا يملكها أكثر المبصرين الذين يفتحون عيونهم ولا يرَون … ولعلَّ الفنان أراد أيضًا — من وحْي تعاطفه مع البشر البسطاء العاديين — أن يقول إنهم يسقطون دائمًا في حُفر الطريق، إلى أن تبتلعهم الحفرة الأخيرة التي أعدَّها لهم القدَر أو كمِن فيها الموت … ومن يدري؟ فلعله في النهاية قد رسم في هذه الصورة الأخيرة وصيته أو نبوءته المحذِّرة لأجيال العميان المبصرين والمبصرين العميان … ولا عجب أن يرسم هذه الصورة — الوصية — في النصف الثاني من القرن السادس عشر، أي في زمنٍ ضمَّ رفاقه العظام من أصحاب الرؤية: رابليه، ومونتني، وشكسبير.
أترُك للقارئ أن «يقرأ» هذه الصورة، ويتأمل مفرداتها بالطريقة التي ترضيه، وأتمنى أن يسعده الحظ فيلتقي بالأصل المعروض في المتحف الأهلي لمدينة نابولي الإيطالية، وأن يعايش مأساة الشحَّاذين الستة العميان الذين وقع أوَّلُهم — الأعمى مثلهم — في حفرة؛ فانهار الصف كله وراءه، واختل نظام العالم واشتدَّ ظلامًا على ظلامه، وفقَد الأمن والدفء والوجهة والهدف بوقوع القائد والدليل في الحفرة التي يعلمون أن لا نجاة منها لا للأعمى ولا للمبصر …
والقصيدة الأولى عن عميان بروجيل للشاعر الألماني إريش لوتز (١٨٩٦م دور تموند–١٩٧٣م توبنجن)، ومن غرائب الصُّدف أن يكون هذا الشاعر الذي يكتب — أو بالأحرى يُملي — عن العميان قد فقد البصر خلال الحرب العالمية الأولى، وإن كان قد صمد وكافح حتى علَّم نفسه رؤية الصور بخياله الخصب، ودرَّب ذاكرته على الاحتفاظ بالانطباعات البصرية التي رآها قبل أن يفقد بصره أو وصَفها له المقربون منه وصفًا حسيًّا دقيقًا لا يستغني أصحاب الرؤية من الشعراء عن اللجوء إليه في نسج عالمهم الشعري الزاخر بالصور (على نحو ما ترى في القصيدة …)
أما القصيدة الثانية عن الصورة نفسها فهي للشاعر الإيطالي كارلو كاردونا (١٩٥٠م فوربو–١٩٧٣م نابولي) الذي تبنَّى في شعره تيَّار الشعر المجسَّم — أو المحسوس الملموس — (من خلال التصرف في تشكيل وترتيب حروفه وكلماته على الصفحة، وتكراره أو تغييره لبعض الحروف أو الكلمات لإبراز دور «الأصوات» في الشعر بما يفوق بكثيرٍ دور المعاني والدلالات أو بما يثيرها ويولِّدُها في عقل القارئ ووجدانه، بل في أذنه وعينه قبل كل شيء …)، وقد بالغ الشاعر — الذي لم يمهله الأجل المحتوم طويلًا — في ذلك الاتجاه حتى أصبح من رُوَّاده ومؤسِّسيه، ومن ثمَّ تجد التكرار الذي يبدو عبثيًّا لبعض السطور دون حاجةٍ لذلك إلا لاستخراج المعنى من تكرار الإيقاع وترداد الأصوات …