الموناليزا
(أ) الجيوكوندا
(ب) موناليزا
(ج) الجيوكوندا
(د) المرأة – لوحة دافنتشي الموناليزا
الموناليزا — أو الجيوكوندا — هي أشهر صورة وجهٍ إنساني (بورتريه) عرفها تاريخ الفن الحديث. ليس من الضروري أن تكون قد زُرتَ متحف اللوفر، ووقفتَ أمامها وقفة الحائر أمام سرٍّ مهول — فالزحام أمامها شديد، والحراس اليقظون كثيرون! — يكفي أن تتأمل اللوحة المتاحة في كل مكان والمنشورة مع هذا الكلام، تتأملها وتستغرق فيها، وتحاول أن تتعاطف معها وتستكنه جواهرها وأسرارها بعد أن تكون قد تجردتَ من كل المعلومات المسبقة (كما ينصحك فلاسفة الظاهراتية أو التأويلية!) سواء عن شخصية صاحبتها أو عن الجهد والوقت والعناء الذي بذله الفنان العبقري المتعدِّد المواهب ليوناردو دافنتشي (١٤٥٢–١٥١٩م) في رسمها بين سنتَي ١٥٠٠ و١٥٠٤م، أو عمَّا قاله وما يزال يقوله عنها نُقَّاد الفن ومؤرِّخوه على اختلاف آرائهم ومدارسهم وتفسيراتهم عبر ما يقرب من خمسة قرون. فالحقيقة الثابتة هي أنك ستحصد الحيرة — بجانب المتعة والنشوة! — من تأمُّلك الطويل لها ووقوفك أمام «ظاهرتها» الغريبة الآسرة، ستسأل نفسك — كما سأل الملايين وما زالوا يسألون! — عن لغز ابتسامتها، وسرِّ النظرة الساخرة الحنون التي تُطلُّ من عينيها الهادئتين المائلتين عند اقترابها منك إلى حدِّ النفاذ في أعمق أعماقك، وبعدها عنك إلى حدِّ الزهد فيك وفي العالم كله، والترفع القاسي عنك وعن كل ما خلق الله وما لم يخلق (كما يقول المتنبي) ثم إحساسك، بعد أن تمضي عنها إلى صور وأعمال أخرى أو حتى إلى بيتك وشئون حياتك وأيامك، بل إلى أحلامك نفسها، إحساسك بأنها تلاحقك حيثما كنت وتنفذ في كل خلية من خلايا دمك كأنما تدعوك إلى حوارٍ لم ولن يكتمل، وتصرُّ مع ذلك على أن تبقى فيه صامتة …!
وما دمتَ ستقف حائرًا مثلي أمام أسرار الموناليزا التي تنبثق وتكمن في الوقت نفسه في ابتسامتها ونظرة عينيها وتشابُك يديها الناعمتَين وشعرها الفاحم السواد المنسدل على جانبَي وجهها حتى كتفَيها، وصدرها النوراني المتألق كوعد بالجنة والنعيم الخالد، وجبينها المشرق كالغسق، والطبيعة الغامضة الممتدة من خلفها، السماء والبحر والصخور والجدول المتعرِّج النحيل والقَدْر «الأبي هولي» الذي يكتنفها ويحيط بها من كل جانب بالصمت والانغلاق المنيع؛ فلنذهب معًا إلى بعض الشعراء القليلين — الذين اخترتُ قصائدهم من بين شعراء عديدين من بلاد وجنسيات وأمزجة مختلفة — شعراء وقفوا أمامها، وحاولوا كما ستفعل بالتأكيد أجيالٌ أخرى، أقول فلنصحبهم في رحلة سفرهم أو حجهم إلى معبدها أو قدس أقداسها الذي حافظ على جلاله وجماله على الرغم من آلاف المحاولات لتقليده إلى حد الابتذال في ملايين البيوت والفنادق والمطاعم وأماكن الراحة أو التسلية التي تزحمها الجماهير كل يوم وكل ساعة …
والقصيدة الأولى للشاعر الإسباني مانويل ماتشادو (١٨٧٤–١٩٤٧م)، وقد نُشِرَت قصيدته عن الجيوكوندا في كتابه «أبولُّو – مسرح تصويري» الذي نشر سنة ١٩١٠م، والشاعر يبدأ بذكر فلورنسا، وهي المهد الذي وُلدَت فيه ونمَت كزهرةٍ منسجمة الشكل والنغم هذه المعجزة الفنية على يد العبقري الفذ والنابغة الذي يحيِّر العقل والقول، ويتوقف الشاعر — بطبيعة الحال — عند لغز الابتسامة التي تطلُّ علينا من وراء القرون، والنظرة التي تحسُّ بأنها تنظر فينا أيضًا وإن شعرْنا بأنها لا تقصد شيئًا ولا شخصًا محدَّدًا؛ إذ ربما تتجه إلى سرٍّ أبدي تستأثر هي وحدها بمعرفته ولا تنوي أن تطلعنا عليه، وينتشي الشاعر بسحر الابتسامة «التاريخية»، ويشعر بأنها تملؤه بالفرح وتنقله إلى «أرض الأحلام الحلوة»، ولكنه لا يلبث أن يعترف بغموضها وغموض العين التي تنبعث منها نظرةٌ يتعانق فيها الحنان والقسوة، ويتشابك النداء والصد، ثم يقرُّ في النهاية بعجزه فيسأل عن الكلمة التي همس بها القدَر في أذنَيها وتأبى أن تفشي لأحدٍ بسرِّها الهائل والخاص، ولا حتى للفنان الملهِم الذي جلس أمامها سنواتٍ طويلة.
ويأتي الشاعر التالي الذي يستعجل الاعتراف بفشله والإقرار بأنه لا يملك إلا أن يهديها أغنيته التي لم يُسمعْنا إياها، هذا الشاعر هو جوستاف فرودنج (١٨٦٠–١٩١١م)، وهو سويسري وُلِد في مدينة ألسترز بروك، ومات في إحدى المصحَّات النفسية في مدينة استوكهولم، لا أدري إن كانت أحواله النفسية المضطربة التي لازمَته لسنواتٍ طويلة قد انعكسَت على هذه القصيدة التي لم يشأ لها أن تتم، بل ربما أراد أن يعبِّر بها عن هروبه من كل ما أثارته فيه الصورة الخالدة من مشاعر وهواجس وذكريات وانطباعات وتداعيات مبهمة؛ فهو في النهاية يسلم بعجزه وينصح السيدة الحكيمة الغامضة بأن تتجه لغيره لعله يستطيع أن ينصفها أو أن يمتدحها ويوفيها حقها الذي قصَّر في أدائه …
وتأتي القصيدة الثالثة لشاعر ومؤلف موسيقي معًا هو الهولندي بيتر سبان (ليدن ١٨٨٢م–نيس ١٩٤٨م) (وقد كتبها في سنة ١٩١٧م ونُشِرَت في ديوانه «التمجيد» الذي صدر في أمستردام سنة ١٩٦١م) ويبدو من أول سطور القصيدة مدى انبهار الشاعر بالنور الفجري الذي يشعُّ به الوجه الجميل الجليل، وبتعبيره المحيِّر الذي لا حدَّ له ولا رحمة فيه، وكل ما استطاع الشاعر أن يعبِّر به عن عجزه عن التعبير هو أن الكفَّين الناعمتَين والجسد الرائع والصدر المشرق مفعَمةٌ كلها — إلى حدِّ التخمة أو الورم! — بالحب والوجد …
ثم نصِل أخيرًا إلى القصيدة الرابعة التي كتبها الشاعر الألماني برونو ستيفان شيرر (١٩٢٩م–…) ووضع لها عنوانًا دالًّا على المدخل الذي اختاره للاقتراب منها وهو «المرأة»، ومع أن القصيدة تدور حول سرِّ المرأة أو حواء الخالدة على العموم، فإن الشاعر المتديِّن — وهو راهبٌ بنديكتيني يعمل بالتدريس في معهدٍ ثانوي بمدينة ألتدورف — يشعر أن بَريق عينيها ينبع من نبع الأبدية، وأنها ليست مجرد امرأة، بل عروس إلهية وبتول متبتلة للرب، هل حوَّلها من امرأةٍ مثيرة بجمالها وغموضها إلى راهبة أو قديسة نجحَت في «تحطيم جمود الجسد ونسيج الكذب» واستطاعت أن تحوِّل فنون الحس وسعار النفس إلى اللذة والمجد إلى صلاةٍ رتَّلها القلب الطاهر للرب؟ يقول لنا الشاعر إنه شاهد الصورة في متحف اللوفر سنة ١٩٥٩م، ثم ظل يجربها في نفسه ويحاورها في صحوه ونومه لأكثر من عشر سنوات قبل أن يدوِّن قصيدته في سنة ١٩٧٠م، وإذا كان قد «عرف» المرأة — البتول — مهتديًا بحسِّه الديني الورع العميق، فإنه يعترف بأنها هي أيضًا قد عرفَته وتغلغلَت إلى بؤرة سرِّه وسرَت في دمه وفي أنفاسه. ولذلك لم يكن من الغريب بعد تجربته الطويلة معها وعجزه — إلى حد البكاء — عن النفاذ إلى كنهها أن يحدِّثنا عن زياراتها له، ووقوف طيفها على باب روحه، ودخوله إلى بيته ومكانه ومعه هداياها: النور والموسيقى … هل نفهم من السطور الأخيرة أنها نادته أو سألته عن سرِّها الذي ربما يكون قد حيَّرها أيضًا؟ ولكن من أين له أن يعرف هذا السر؟ ألا يتخلص في النهاية من سؤالها العسير بأن يقرَّ بعجزه ويقول لها: أنت المرأة، سرُّ الأزل المطوي؟!