فريدريش فون لوجاو (١٦٠٤–١٦٥٥م)
إبيجرام
عندما طغى الشر على الحياة، وجرى الناس كالقرود وراء الرذائل والبدع الغريبة، وذاعت أنباء الفضائح في بلاط الأمراء والنبلاء والدوقات في الولايات الألمانية المختلفة، واستسلمَت جميع الطبقات — لا سيما الطبقة العليا والوسطى — لأوهام المظهَر، وابتعدَت عن أصالة الجوهر، لم يكن أمام الأديب إلا أن يفزع إلى عصا الواعظ والمعلم الأخلاقي والناقد الاجتماعي الساخر، والمنذر المحذِّر في كل الأحوال من هول المصير.
حدث هذا في عصر الباروك في النصف الثاني من القرن السابع عشر؛ فلمسْنا آثاره في الشعر الغنائي عند سيمون داخ، وفي الدراما عند يوهانيس ريست، وفي الرواية عند جريملسهاوزن في رائعته التي تعدُّ أول روايةٍ ألمانية بالمعنى الحقيقي وهي «سيمبليسيزيموس»، ثم في شعر الحكمة الذي اشتهر به وتفوق فيه فريدريش لوجاو (١٦٠٤–١٦٥٥م) الذي ثبت للباحثين أنه كتب ثلاث آلاف وخمسمائة وستين قصيدة من شعر الحكمة والتأمل الذي اصطُلِح منذ العصر الإغريقي على تسميته بالإبيجرام …
وُلِد فريدريش فرايهر فون لوجاو (الذي كان ينشر أعماله الأدبية تحت اسمٍ مستعار هو سليمان فون جالوف) في شهر يونية سنة ١٦٠٤م في ضيعة أسرته بالقرب من مدينة نيمبتش في منطقة سليزيا، ومات في ليجنتس سنة ١٦٥٥م، حالت حرب الثلاثين عامًا والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أثارتها دون الانتظام في دراسته التي بدأها في بريج، ثم انقطع عنها ليعود إلى دراسة الحقوق في سنة ١٦٢٥م بجامعة ألتدورف، كما حالت بينه وبين إصلاح الضيعة التي تولى مسئوليتها سنة ١٦٣٣م وعجز عن إنقاذها أو إنقاذ نفسه من الديون المتراكمة فاضطُر للانخراط في خدمة البلاط الحاكم في «بريج» حتى وصل إلى رتبة المستشار، كما انضم منذ سنة ١٦٤٨م إلى جمعيةٍ أدبية أطلقَت على نفسها اسم «الجماعة المثمرة»، كما أطلقَت عليه اسم «المصغِّر»، أي المهوِّن والمحقِّر من شأن كل ما هو دنيوي …
يُعدُّ «لوجاو» أهم مَن كتب القصيد الموجز الحكيم (الإبيجرام) خلال القرن السابع عشر، حتى لقد كاد إنتاجه أن يقتصر عليه وحدَه … هزَّته وزلزلَت نفسه حالة انقلاب كل القيم (على حد تعبير نيتشه) وفساد التقاليد السائدة، والتعصب والصراع الديني بين الكاثوليك والإنجيليين، وفظائع حرب الثلاثين المدمرة، والظلم الاجتماعي، وفساد الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية وانسياقهما وراء «الموضات» المستورَدة في الوقت الذي تعاني فيه الطبقات الشعبية المحرومة والمحافِظة على التقاليد الأخلاقية والدينية من الحرمان وشظف العيش. وفي مواجهة ظواهر السقوط والضياع هذه — باسم الترف والرقي والفخامة والأناقة — وضع «لوجاو» شِعره المفعَم بالنقد الاجتماعي الساخر والحس الديني والأخلاقي الرفيع ليكون بمثابة الصورة المضادة للواقع الفاسد الذي عاشه، وهي صورة لا تتجه — في نفْيِها لذلك الواقع — إلى المستقبل أو إلى الواقع الآخر الممكِن والبديل عنه، وإنما تقدِّم صورةً مثالية للماضي الألماني بفضائله الشعبية العريقة، وتقاليده وقيمه الأصيلة التي داستها بأقدامها سلطة الحكم المطلَق من ناحية، وجشع الطبقة الوسطى و«استغرابها» عن هويتها من ناحيةٍ أخرى (وهو ما نعاني منه في بلادنا منذ أن بدأ الانفتاح الضال والمضلل، وسادت نماذج الأمركة الحمقاء المدمرة على أسوأ صورة تهدِّد بالانسلاخ عن الهوية والاقتلاع من الجذور، وتستغيث بالأدباء الأمناء والشعراء الصادقين أن يهبُّوا للنجدة، أو على الأقل للإنذار والتحذير! …) جمع «لوجاو» بين الجدية الأخلاقية والدعابة المتهكِّمة الساخرة في نقْده لمظاهر الفساد والخراب في كل ميادين الحياة والعمل والتديُّن والسلوك، وراح يدافع بذكاء ولباقة عن قيم التقوى والواجب الوطنية، ويكشف أقنعة الرذيلة والنفاق والكذب التي جعلَت العالم المحيط به يعيش في المظهر وللمظهر، ويتنكب دروب الأصالة والصدق والاستقامة. ولا شك أن خبرته اليومية وتجاربه وملاحظاته لمظاهر الانحطاط والانهيار المحيطة به قد أوحَت إليه بالمادة الضرورية لصياغة إبيجراماته الزاخرة. وعلَّمته أن يرى صور الحرمان والتعاسة خلف واجهة عصر الباروك البراقة بالترف والوجاهة والزخرف المعقد الكاذب:
لكن وراء هذا التشاؤم أو فوقه — كما نرى من هذا الإبيجرام عن زمن الإنسان — تتجلى روح الصبر والسكينة التي رسخَت جذورها في الإيمان القوي وفي الوفاء للنظام القائم على أداء الواجب وتقديم الخير كلما حانت فرصة تقديمه بسخاء وبلا هدفٍ غير فعل الخير نفسه (كما سيقول كانط بعد ذلك في مذهبه المعروف عن الواجب)، ويبدو من السطور الأخيرة أن الشاعر الذي يئس من إصلاح زمانه أو حتى مساعدته على إصلاح نفسه قد قرر أن يخاطب قارئه ويناشده بالانتصار على النفس؛ فذلك في النهاية هو «الجهاد الأعظم» … وهو أسمى وأصعب نصرٍ يمكن أن يحققه الإنسان …
اهتم ليسينج — مفكِّر عصر التنوير الكبير ورائد النقد الفني والمسرح الاجتماعي والمأساة البرجوازية في القرن الثامن عشر — اهتم بإبيجرامات لوجاو — إلى حد التأثر بها في قصائده الحكيمة — كما ساهم في سنة ١٧٥٩م في نشر عددٍ كبير منها، بحيث يمكن القول إنه ساعد على اكتشافه والتعريف به والتعبير عن لغته المؤثرة حين يعظ وينبِّه، والحلوة المغرية حين يحب، والساخرة الساذجة حين يتهكم، والمزاجية المضحكة حين يسعى لإثارة الضحك والمزاح …