يوهان فولفجانج جوته (١٧٤٩–١٨٣٢م)
أغنية الجوَّال مساءً
فوق كل القِمم
وصية
يصعب الحديث عن شعر جوته (١٧٤٩–١٨٣٢م) في هذا الحيِّز الضيِّق المحدود، فالجانب الأعظم منه يتدفق على نحوٍ طبيعي وتلقائي من نبْع تجاربه الوجدانية والباطنية العميق، والقليل منه يقدِّم فكره ورؤيته للعالم والإنسان أو حكمة شيخوخته وذكريات ماضيه، وهو يسع جميع أغراض الشعر وأساليبه وأشكاله؛ من قصائد الحب الدافئة المتوثِّبة والأغنيات العاطفية وقصائد الفنانين والأناشيد والمرثيات المطولة والحكايات الشعرية (البالادات) إلى القصائد المكثَّفة (الإبيجرامات) والمعارضات التهكمية اللاذعة وقصائد المناسبات التي كان يهديها لأشخاص بأعينهم، والحِكم والتأملات المنظومة والقصائد الفلسفية التي كتبها في سن الشيخوخة، أضف إلى ذلك كله أنه لم يتوقف عن كتابة الشعر؛ لأنه لم يتوقف عن تجربة الحياة في كل مظاهرها وصوَرها؛ لذلك ارتبط شعره ارتباطًا حميمًا بحياته، واستغرق كل المراحل العمرية والأدبية التي مرَّ بها، أو بالأحرى كابدها وعاشها حتى النخاع بلحمه ودمه وقلبه وعقله؛ من قصائد الصبا والشباب المبكرة إلى قصائد مرحلة العصف والدفع المتوهجة، إلى القصائد التي كتبها في عنفوان الرجولة أو في ذروة المرحلة الكلاسيكية، حتى الحِكم وأشعار الحكمة والحب المتأخرة التي دوَّنها في السنوات الأخيرة من عمره المديد، ومن أجملها وأعذبها قصائد ديوانه الشرقي التي يربو عددها على الثلاثمائة وثلاثين قصيدة ومقطوعة، وإذا كانت كل مجموعة من هذه المجموعات تعبِّر عن عالمها الخاص، بل إن لكل قصيدة منها عالمها المتميِّز بخصوصيته الجمالية واللغوية والفكرية والتاريخية، فإن من المستحيل تعميم الأحكام عليها باستثناء حكمٍ واحد يصدق عليها أجمعين، وهي أنها تتدفَّق من القلب وتعبِّر عن تجربة جوته الغنية وشخصيته الثرية بآفاقها الفنية والمعرفية والإنسانية الشاسعة المذهلة …
وقد سبق لي — قبل ما يقرب من أربعة عقود! — دراسة بعض أشعاره في كتابي المتواضع «البلد البعيد» وفي غيره، واليوم أكتفي بتقديم وشرح قصيدتين من شعره المبكر في مرحلة الرجولة، ومقطوعة واحدة — هي التي اتفق لي نظمُها! — من مرحلة الشيخوخة، فضلًا عن عددٍ كبير من قصائد الديوان الشرقي للشاعر الغربي التي أسعدني الحظ بإيقاعها في شبكة ميزان الشعر العربي الجديد، وتبلغ اثنتين وثلاثين مقطوعة وضعتُها تحت عنوان: قطرات من نبْع الديوان الشرقي … والقصيدة الأولى، وهي أغنية الجوَّال مساءً، تعبِّر أصدق تعبير عن شخصية جوته الشاب الذي لم يتعب — طوال حياته الغنية بالعمل والتأمل والإنتاج المبدع — من تسلُّق الجبال والتجول في أعماق الغابات الجليلة الكثيفة، والاندماج — إلى حد التوحد — في الطبيعة التي كانت على الدوام مصدر إلهامه وحبه، ومَجلَى الأبدي الخالد الذي يسري نبضه وفعله في كل صغير وكبير من موجوداتها، ولا تتوقف رحمته وقدرته لحظةً واحدة عن تحقيق سرِّه الخلَّاق فيها، والتغلغل المستمر فيها بالإبداع والتشكيل والتحويل لنسيجها المتنوع الألوان والصور والظواهر؛ بحيث نُعاين أقباسًا من نوره وجلاله وجماله على مرآته …
عُثِر على هذه القصيدة بين الرسائل التي كان يبعثها جوته إلى معشوقته الناضجة الغيور، التي ابتعد عنها أو تخلَّص منها بعد رجوعه من رحلته إلى إيطاليا، وهي السيدة فون شتاين، والقصيدة مكتوبة بخط يد الشاعر، وتحمل أسفل كلماتها — على مألوف عادته في كل قصائده — تاريخ كتابتها، وهو اليوم الثاني عشر من شهر مارس سنة ١٧٧٦م، وقد نُشِرَت لأول مرةٍ في «المجلة المسيحية» سنة ١٧٨٠م، ثم أُعيدَ نشرها في الطبعة الأولى لأعماله التي ترجع لعام ١٧٨٩م …
عُرِف عن جوته حبُّه للتجول حتى أُطلِق عليه في شبابه المبكر وأثناء حياته في مدينة فرانكفورت لقب المتجوِّل أو الجوَّال؛ إذ لم يكن يتوقف عن السير على قدميه حتى مدينة دار مشتات أو على ضفة نهر الراين أو في المراعي والمروج والغابات الشهيرة في منطقة تورنجن، والحقيقة أن وصفه للجوال في هذه القصيدة ينطبق انطباقًا حرفيَّا على الشاعر، كما يحمل في الوقت ذاته معنًى رمزيًّا يدل على طبيعة شخصيته المتطلِّعة إلى كل ما هو أرضي، والمتوحِّدة بالطبيعة الإلهية في نوع من وحدة الوجود الفنية والعاطفية البالغة القوة والعمق، ولن يخفى على القارئ أن أبيات القصيدة تبدو كجملةٍ واحدة طويلة تحوَّل فيها الجيَشان الفائر في وجدان الشاعر إلى إيقاعٍ لغوي منغَّم، وأننا نظل نلهث في متابعة هذه الجملة حتى نصل إلى السطرين الثامن والتاسع (أو السطر السابع في الأصل) ونكتشف أن المخاطَب الذي يهبط من السماء ويأسو بلمسة يده جراح الحزن والتعاسة هو السلام العذب الذي يناجيه الشاعر، ويناشده أن يدخل صدره المهتاج والمسكون بالهموم …
وتأتي القصيدة التالية التي تلحق دائمًا في طبعات شعر جوته بالقصيدة السابقة؛ فتشير إلى هذه الأخيرة في العنوان الذي وضعه لها الشاعر وهو «أغنيةٌ أخرى مشابهة»، وهذه «القصيدة» التي تتكون من ثمانية سطور سريعة متدافعة تُعدُّ — في تقديري المتواضع — إحدى معجزات الشعر الحقيقي الذي يستحيل نقلُه إلى أية لغةٍ أخرى، وذلك لارتباط ألفاظه وأصوات هذه الألفاظ بالانفعال والمعنى والإحساس الكلي أشدَّ ما يكون الارتباط (وإن كان هذا لم يمنع من ترجمة هذه القصيدة إلى كل اللغات ومنها العربية!) ومع أننا نكسب عادةً من ترجمة الشعر قدرًا لا يقل عن القدر الذي نخسره دائمًا (من جماليات اللغة ونبر الأصوات والنغم والإيقاع المرتبط بالضرورة بالكلمات والأصوات الأصلية في نظامٍ لغوي محدَّد)؛ فإن كل من ترجمها إلى لغته رأى لزامًا عليه أن يورد للقارئ نص الكلمات الأصلية، وأن يؤكد الأصوات وامتدادات الحروف التي جاءت فيها متسقةً غاية الاتساق بل متطابقة كل التطابق مع انفعال الشاعر بسكون الطبيعة في المساء، والْتماسه السكينة والراحة في غدٍ قريب لا يدري متى يجيء …
والعنوان الذي وضعه الشاعر ينبهنا إلى أننا سنقرأ أو نسمع أغنية جوَّال أو متجوِّل مشابهة للأغنية السابقة (وهو إجراء اتبعه الشاعر مع قصائد أخرى لا يتسع المقام لذكرها)، وجدير بالذكر أن جوته نفسه قد نشر القصيدة في طبعة أعماله الكاملة لسنة ١٨١٥م، وتوخَّى أن تُنشَر مع القصيدة التي انتهيْنا من الحديث عنها في صفحةٍ واحدة، بحيث ظل هذا الأمر متَّبَعًا حتى اليوم في كل طبعات أشعاره …
ونقترب من القصيدة نفسها كبنيةٍ لغوية وإيقاعية معجِزة، فنجد أنها تنقل إلينا الشعور بتحقق الذات وامتلائها بالمعنى والأمل (على الرغم من أشواك الحسرة أو الشك الذي تشي به السطور الأخيرة!) وذلك على العكس من القصيدة السابقة المفعَمة بالشوق والحنين إلى السلام المفتقَد. والغريب أن القصيدتين ثمرتان ناضجتان سقطتا في يد الشاعر من شجرة التجوال في دروب الطبيعة وآفاقها وأسرارها، بل إن القصيدة الأخيرة قد دوَّنها الشاعر من وحي اللحظة الجليلة على جدار كوخه الخشبي، في منطقة «كيكيلهان» بالقرب من مدينة إلميناو، وكان كثيرًا ما يقضي فيه ليلته بعد أن يشتد به التعب ويحل عليه الظلام …
اشمأزَّ جوته من هذا التصرف ووصفَه بالغباء … واعترض على انتزاع البيتَين الأخيرَين في القصيدة من سياقهما الذي يعبِّر فيه الشاعر عن شوق الكائن المحدود لتخطِّي حدوده المتناهية والاتحاد بالكل اللامحدود أو بالإلهي الخالد (كما سبق أن فعل في قصائد عديدة من أهمها «جانيميد» التي كتبها في شبابه المبكر و«حنين مبارك» التي تُعدُّ القلب النابض لديوانه الشرقي، وتجدها على الصفحات القادمة)، ومن ثَم كتب القصيدة التي نحن بصددها ليؤكد اعتراضه على وضع البيتَين السابقَين في وضعٍ قاطع أو مطلق، ومع ذلك فلم يكن للاعتراض مبرِّر؛ إذ لا يُوجَد في الحقيقة أي تناقُض بين القصيدتين، وإذا كانت الأولى (الواحد والكل) تتحدث عن الذوَبان في الكل، فإن الثانية (وصيَّة) تتحدث عن الكل نفسه الذي يحتفظ في داخله كلُّ موجودٍ فردي بصورته أو شكله الذي تحول إليه. من ثَم كان النظر إلى الكل مصدر شعورنا بالسعادة؛ لأن هذا الكل — بالمعنى الذي أراده الإغريق من كلمة كوزموس أو الكون — يدل في وقتٍ واحد على «القانون» أو الناموس من ناحية، ومن ناحية أخرى على الجمال أو الزينة التي خلبَت عين الإغريقي القديم وجعلَته يتأمل بدائع السماء والأرض فيتفلسف، وفتنت عين جوته فأوحَت إليه بما أوحَت من شعر ونثر عن حبه للطبيعة الإلهية واندماجه في كل «ظواهرها» و«ألوانها» التي لا تخرج في النهاية عن أن تكون انعكاسات للنور الأصلي الأسنى …
وقصيدة «وصية» تعبِّر عن هذا المعنى المركزي في فكر جوته وشعره، ولا بُد لتذوق المقطوعة التي اخترناها منها أن نلمَّ باختصارٍ بالمقطوعات الخمس التي سبقَتها وبالمقطوعة السابعة التي تلَتها لنرى كيف يتداخل قطبا القانون والجمال في رؤيتها العامة …
تقول المقطوعة الأولى — في مناقضةٍ ظاهرية للسطرَين الأخيرَين من قصيدة الواحد والكل اللذين عرضنا قصتهما:
«ما من موجود يمكنه أن يتبدد في العدم! والأبدي الخالد يتحرك في كل الأشياء، فحافظ على سعادتك في التمسُّك بالوجود! إن الوجود خالد؛ لأن القوانين تحفظ الكنوز الحية التي يزدان بها الكلُّ.»
هذه الصور التي نستشف منها أن الطبيعة تحافظ على كنوزها الحية وتواصِل فعلها الأبدي فيها بما يتسق مع قوانينها الجمالية، هي صور نجدها كثيرًا في كتابات جوته العلمية (كما في تحوُّلات النبات والحيوان على سبيل المثال)، وهذا التقنين الجمالي الذي يتخذ في المقطوعة الثانية صورة الطبيعة، يرسم في الوقت نفسه طريق التدين الأصيل، وهو السعي إلى معرفة الطبيعة على حقيقتها (ورمزها الحي هنا هو الشمس) مهتدين في ذلك بالحكماء والأرواح النبيلة التي سبقَتنا إلى معرفتها، ووضعَت بين أيدينا ذلك التراث الجليل من الحكمة والعلم بقوانين الطبيعة وأسرارها، ويصطفي الشاعر عالم الفلك الذي ارتبطَت به الثورة الحديثة في رؤية العالم، وهو «كوبرنيقوس» (١٤٧٣–١٥٤٣م) الذي عبَّر عن القوانين التي تحكم حركة الشمس، وهي هنا رمز الحقيقة، والكواكب التي تدور حولها، وهو ما تعبِّر عنه المقطوعة الثانية من القصيدة حيث تقول:
«لقد وُجِد الحق من زمن عريق في القدم، وهو الذي وحَّد بين العقول والأرواح النبيلة، فتمسَّك أنت بالحق القديم! واشكر يا ابن الأرض ذلك الحكيم (أي كوبرنيقوس) الذي هداها (أي الأرض) كما هدى إخوتها (أي الكواكب الأخرى) للدوران حول الشمس.»
وإذا كانت المقطوعتان السابقتان توجِّهان نظرة الإنسان إلى الطبيعة الخارجية، فإن المقطوعات التالية توجهها للنظر في طبيعته الباطنة التي يحكمها القانون كما حكم من فوقنا السماء المرصَّعة بالنجوم على حدِّ تعبير كانط، والقانون الذي يحكم الطبيعة الأخلاقية الباطنة — وفقًا لتعبير كانط أيضًا! — هو قانون الضمير أو قانون الواجب الموجود في داخلي:
«ثم اتجِه على الفور نحو الباطن، وستجد المركز هناك في داخلك، وهو الذي لا يخطر على بال نبيل أن يتشكك فيه، لن تفتقد هنالك قاعدة؛ لأن الضمير المستقل بنفسه، هو شمس نهار أخلاقك …»
هكذا تكون المقطوعات الثلاث الأولى قد تحدثَت عن القوانين الإلهية، وبقي على المقطوعتَين التاليتَين أن تتحدثا عن علاقة الإنسان بهذه الطبيعة، وموقف حواسه وعقله منها:
«عندئذٍ يمكنك أن تثق بالحواس، وهي لن تجعلك ترى شيئًا زائفًا، طالما أبقاك عقلك في حالة الوعي والانتباه.
لاحظ بالنظرة الناضرة، وارصد في فرَح، وتجوَّل بثبات ومرونة، في مروج عالمٍ عامر بالثراء …»
ونصِل إلى المقطوعة الخامسة التي أمكنني نَظمُها فنجد تواصُل الحديث من زاوية أخرى عن حواس الإنسان ومداركه من ناحية، وعن القانون الأخلاقي من ناحية أخرى؛ فالإنسان الذي يلتزم بالاعتدال في التمتُّع باللذات المتاحة، أو بالأحرى يفرض على نفسه هذا الاعتدال، هو وحده الذي يستطيع أن يبدع ما نسميه بالثقافة أو الحضارة سواء في الماضي أو في المستقبل، وهو وحده الذي يستنفد لحظة الحاضر الراهن فيحياها بعمق ويملؤها بالعمل المبدع، وكأنه فلَّاح يواصل تراث أجداده في حرْث حقله فيلقي فيه البذور التي ستصبح في وقت الحصاد سنابل قمح أو ثمرات متنوعة الأشكال والألوان: «النعمة بين يديك فمتع نفسك … إلخ.»
هكذا يجد الإنسان نفسه منخرطًا في عملية المعرفة الحية المتجددة على الدوام، كما يجد نفسه ملزَمًا بسلوكٍ أخلاقي مثالي لا شك في أن جوته قد تعلمه من حكيم كونجزبرج العظيم (وهو إيمانويل كانط ١٧٢٤–١٨٠٤م)، وهكذا يجد نفسه أيضًا وسط الآخرين ويتعاون معهم، كما يكتشف أن الشيء النافع والمثمر هو وحده الشيء الحق:
«وإذا ما حالفك التوفيق في نهاية المطاف، وتغلغل في وجدانك الشعور بأن المثمر هو وحده الحق، تيسَّر لك أن تختبر بنفسك الأمر العام الذي سوف يسود على طريقته، وعليك (في هذه الحالة) أن تنضم إلى صفوف الموكب الصغير …»
و«الموكب الصغير» هنا هو موكب القليلين النادرين في تاريخ البشرية الذين عاشوا للحق وعرفوه، وعلمونا أنه هو وحدَه الذي يبني وينمِّي ويعين ويفتح الآفاق الجديدة، وأن الباطل والزائف هو الذي يهدم ويدمر ولا يقدِّمُنا — أفرادًا أو شعوبًا — خطوةً واحدة للأمام.
ربما تصورت أن جوته رجل «برجماتي» أو أنه قد سبق البرجماتية بمعناها الحقيقي لا بمعانيها المضلِّلة الزائفة في الممارسات العملية والسياسية التي نلاحظ اليوم آثارها البشعة وأضرارها الوبيلة بالشعوب الصغيرة.
والحق أنه يمكن القول بأنه سبق فلاسفة البرجماتية الأمريكية الحديثة في الاعتقاد بأن الحق وحده هو الذي يُثمر ويُشجِّع على نضوج المزيد من الثمرات، وأن المعيار الذي تُقاس به العبارة أو الفكرة الصائبة (أو الحقيقية) هو ما يترتب عليها من نتائج مثمرة تزيدنا علمًا ومعرفة، أو تقوِّي إيماننا بالمستقبل وتوجِّهنا نحوه، ولكن هذا الحق لا يدركه أي «برجماتي» أو صاحب نزعةٍ عملية؛ فهو وقفٌ على تلك العقول الرفيعة والأرواح النبيلة التي أبدعَت على ضوئه ما أبدعَته للبشرية من علمٍ نافع وفنٍّ باق، ولذلك تقول المقطوعة السابعة والأخيرة في هذه القصيدة الدالة على رحابة تفكير جوته وعمق تديُّنه:
«وكما استطاع الفيلسوف والشاعر منذ أقدم الأزمان، أن يُبدعا في ظل السكينة عملهما الحبيب على هواهما (وحسب مشيئتهما)، كذلك ستبلغ أنت أجمل الحظوظ؛ لأن الشعور المسبق بما يحس به أصحاب النفوس النبيلة، هو أعظم مهنة أو أعظم مهمة يمكن أن يمارسها الإنسان …»
هكذا تختتم القصيدة الفريدة بالإعلاء من شأن الحب الذي يفيض منه عمل الفيلسوف والأديب. كلاهما يشعر — بصورةٍ مثالية أو نموذجية — بما يشعر به غيرهم من الناس، أو ينبغي أن يشعروا به، وإن كانوا — أي الأدباء والفلاسفة — هم الذين يملكون الموهبة والقدرة على التعبير عنه، وتاريخ العلم وتاريخ الفن والأدب يؤكِّدان أن خيط الحقيقة لم يمسك به ويسلِّمه لمن بعده إلا القليلون، وويلٌ لأمة ساد فيها الزيف وتسلط وتجبر حتى لم يعد من الممكن تمييز خيط الحق المضيء الرهيف من آلاف الخيوط السوداء …
هكذا ترى أخيرًا أن هذه القصيدة قد جمعت الكثير من حكمة جوته، واستحقَّت أن تُسمَّى بالوصيَّة، وليتنا نتعلم منها …