ألكايوس – القرن السادس قبل الميلاد
شذرات – أخيل وثيتيس
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
شكوى الفتاة
•••
تلك هي الصورة العامة التي تتردد عند الحديث عن «شاعر السيف» أو الشاعر الفارس والمتمرد على الطغيان فيما وصلْنا عنه من العصر القديم على ألسنة الرواة والمؤرخين والفلاسفة والعلماء الموسوعيين. وقد أثَّرَت هذه الصورة على تلقِّي تراثه الشعري في العصور القديمة نفسها، وهو التراث الذي قسا عليه الزمن كما قلت؛ فلم يتبقَّ منه — باستثناء بعض الأغنيات المتماسكة التي لا تخلو من سطورٍ ناقصة في بدايتها ونهايتها! — سوى شذرات ممزَّقة كالأنقاض المتناثرة على أرضٍ خراب، وذلك في الوقت الذي نسمع فيه أن علماء مكتبة الإسكندرية كانوا قد جمعوا تراثه الشعري في عشرةٍ كتب كاملة، وهكذا استمر سوء الحظ الذي أصابه في حياته فأدرك تراثه أيضًا. صحيحٌ أن أثينا الديمقراطية — في القرن الخامس قبل الميلاد — كانت تردد أغاني الشرب (الإسكوليا) التي نظمها مع أغاني الشاعر أناكريون، وأن أغنياته عن الحب قد أثَّرَت تأثيرًا كبيرًا على شاعر الحب السكندري الشهير ثيوكريتيس، لكن أحدًا لم يعد يكترث بأغانيه عن الحرب والثورة والتمرد (الستازيوتيكا)، لا في أثينا القرن الخامس ولا في إسكندرية القرن الثالث ق.م. بسبب تغيُّر روح العصر وغياب الاهتمام بهذا النوع من الشعر الحماسي … وعلى الرغم من افتتان الشاعر الروماني الكبير هوراس (٦٥ق.م.) بأنغام ألكايوس وألحانه وأوزانه واهتمامه بالجانب الجوهري الذي ينبغي الاهتمام به قبل كل ما عداه في كل شعرٍ حقيقي، وفي الشعر الغنائي بوجهٍ خاص، وهو أن الغناء والأغنية — كما يقول هوراس نفسه — يُنسِي الإنسان همَّه وحزنَه، فيبدو أن التقدير الحقيقي لشعر ألكايوس كان عليه أن ينتظر حتى يأتي العصر الحديث بأدواته البحثية والعلمية المتقدمة، لا سيما بعد اكتشاف شذراتٍ مهمة من شعره المستمد من الأساطير، ومن شعره الثوري الذي كتبه في المنفي عن مدينته التي «يخنقها الطاغية»، بجانب القليل من شعره الوصفي عن الطبيعة … وهكذا ساعد كل ذلك وغيرُه من الأسباب على إعادة النظر في الأحكام القديمة عن هذا الشاعر، والعودة لإنصافه وإنصاف شعره في ذاته ولذاته …
عاش ألكايوس (حوالي سنة ٦٠٠ق.م.) في عصرٍ يعدُّ مفترَق طرُقٍ ومنعطفًا نحو عصرٍ جديد ذي روحٍ وقيم ونظم ونظرة للإنسان والعالم جديدة: انهيار العالم الهوميري والملكي القديم إلى أن وصل الأمر بعد ذلك إلى حدِّ بناء دولة المدينة الديمقراطية والشرعية في أثينا وغيرها من مدن الدولة، بدء بزوغ الفردية والوعي الذاتي والمطالبة بالمساواة بين المواطنين وبنَوع من المشاركة الشعبية مع أفُول شمس الحكم الملكي وحكم الأُسر النبيلة، تزامَن ذلك مع نشوء نظم مختلفة للطغيان — أو الحكم الفردي المطلق — التي استغلت تلك الاتجاهات الشعبية الجديدة لصالحها في أنحاء عديدة من بلاد الإغريق وثبَّتَت حكم الطغاة باسم الشعب وتطلُّعاته وحاجاته الملحَّة. على هذه الخلفية التاريخية — المختزلة إلى حدِّ الإخلال — جرَت حياة ألكايوس: ثورة على حكم الطغيان، ثم هروب بعد خيانة تلك الثورة، رجوع للوطن ثم النفي من جديد والعيش في الغربة، وأخيرًا تأتي العودة للوطن ولمدينة الآباء ميتيلينة بعد أن خفَّت قبضة الطغيان الفردي عليها، وبدأت بوادر الحكم الشعبي تلوح في أفقها (سبقَتها إلى إقرار الديمقراطية كلٌّ من جزيرة خيوس سنة ٦٠٠ق.م. وأثينا على عهد المشرع والفيلسوف صولون سنة ٥٩٤ق.م.) المهم في هذا المجال المحدود أن عواصف الصراعات الدامية في ذلك العصر وفي المدينة نفسها قد انعكسَت على الشاعر وشعره الذي احتفظ بنُبل الشعر وحقيقته على الرغم من أفول نجم النَّبالة والنبلاء وتساقُط الطغاة أنفسهم واحدًا بعد الآخر، ميلانخروس ثم ميرزيلوس ثم بيتاكوس الذي اعتزل بإرادته حكمًا صالحًا دام عشر سنوات، والذي عفا عن الشاعر بعبارةٍ من عباراته التي أُثِرَت عنه كأحد الحكماء السبعة المشهورين: العفو أكرم عند المقدرة …
•••
رسمَت أقلام بعض الرواة والمؤرخين القدماء، فضلًا عن بعض الدارسين المحدثين، صورةً بغيضةً لألكايوس لا يمكن أن تؤيدها نصوصه الشحيحة، فهو يقف في هذه الصورة وقفة محاربٍ متعطش للأخذ بالثأر، عدوٌّ لدود للشعب وقادته، قلبه مسودٌّ بالحقد والضغينة، ونظرته المعتمة ملتفتة إلى ماضٍ بائد — إلى عهدٍ حكم فيه الملوك والنبلاء والقلة الموسرة ثم لفظَته روح العصر ومنطق التطور — وكأن الرجل ذئب قديم متوحش لم يكسر قلبه حزنٌ أو ألم، ولم يدخله فرح ولا حب …
ولو تصفحْنا بعض أشعاره الباقية لفاجأتْنا صورةٌ أخرى مخالفة لتلك الصورة الشائعة، وربما هزَّتنا شكواه المُرَّة في المنفى من البعد عن مدينته، أو استمعْنا إلى وجيب قلبه النابض بالحب أو بالبهجة والسعادة بالربيع القادم …
الشاعر في هذه الأغنية يشتاق للوجود مع مواطنيه، الذين لا يكفون عن إيذاء بعضهم، لمجرد أنهم مواطنون من وطنه المحبوب، وهو في الأغنية السابقة عليها مباشرةً يبتهل للآلهة (زيوس وهيرا وديونيزيوس) أن تستمع لصلواته وتخلصه من عذابه وتريحه من تعاسة النفي، وهو يدعوها أن ترسل روح الثأر للأموات إلى ابن هيراس (أي الطاغية بيتاكوس!) وهو الذي خان العهد الذي قطعوه جميعًا — الشاعر ورفاقه ومعهم الطاغية نفسه — أمام المذبح بألا يتخلوا عن واحدٍ منهم، وأن يفضِّلوا الموت على ذلك الفعل المشين، ويُغطُّوا رمل الأرض بجثثهم ولا يستسلموا لنسل الطغاة، بل يصمموا على إرسالهم إلى هاديس وتخليص «شعبنا» من العار. هكذا نرى هذا النبيل الذي اقتُلِع مع زملائه النبلاء من جذوره، يكافح كفاح المثالي — غير العملي ولا الواقعي — لتحقيق مثَلٍ أخلاقي تقادَم عليه العهد، ولإنقاذ مدينته وشعبه — اللذين كان يرعاهما جدوده — وتحريرهما من قبضة الطغاة الذين يخنقونها ويكتمون على أنفاسها … أضف إلى هذا أننا نلمح في شعره الثوري شيئًا جديدًا حتى ذلك العصر على شعر الثورة والتمرد السياسي؛ فهو لا يكتفي بالتضرع للآلهة — في شذرة منشورة مع الشذرات المترجمة — أن تُنعِم عليه وعلى رفاقه بالنصر، وإنما يتمنى أن يأتي الوقت الذي ينسى فيه الغضب والحقد والضغينة، ويزول النزاع الذي يمزق قلوبنا، وينتهي صراع الأخوة الذي تدخَّل فيه شيطان، أو أشعله أحد آلهة الأوليمب؛ فدفع بالشعب إلى دوامته المحرقة، وأعمى المواطنين فسلموا بيتاكوس السلطة التي كان ملهوفًا عليها. إن الذي يقول هذا الكلام لا يمكن أن يعرف قلبه الحقد والكراهية، ولا التعب ونفض اليدين؛ لأننا أمام وعي سياسي جديد وعميق قد لا نجد له نظيرًا إلا عند المشرِّع الأثيني الحكيم صولون، المعاصر لشاعرنا ألكايوس، بل إننا لنجد في الشهادات المأثورة عنه عبارةً تقول بوضوحٍ: إن الوفاء للوطن والانتماء إليه ليس مجرد انتماء ووفاء لأسوار المدينة وشوارعها وبيوتها، وإنما يتجه في المقام الأول لأهل هذه المدينة وشعبها الذي طالما سقط — وأحيانًا بإرادته! — تحت أقدام الطغيان (راجع ص٨٠ و٨١ من طبعة ماكس تروي السابقة الذكر).
لم يكن ألكايوس غريبًا عن معجزات الجمال الخالص التي واجهها، واندهش لها في منفاه (أو مَنافيه!) ولا كان أصمَّ عن سماع نبض القلب الإنساني وهو يئن بالعذاب والأسى من سوء حظه وقسوة القدر عليه (راجع الشذرة الباقية عن شكوى الفتاة المسكينة من سوء حظها، وكم كان هو نفسه سيئ الحظ، وكان القدر قاسيًا عليه!) بل ربما أمكننا القول — بعد التأمل المتأني لشذراته الشحيحة أو حتى للشذرات القليلة التي نقلْناها عنه — إن ألكايوس واحدٌ من عظام العارفين بقلب الإنسان، وذلك بفضل بصيرته الثاقبة، ودفء عاطفته، وصدق وجدانه، وبفضل النعمة التي وهبَته السماء إياها كما وهبتها لعظام الشعراء في كل الآداب ومن كل العصور بلا تمييز — وأعني بها نعمة الإحساس بذلك القلب والقدرة على التعبير عنه — في أي لغةٍ من اللغات — بقولٍ موقَّعٍ ومؤثِّرٍ وجميل … وهو دائمًا ذلك القول الذي يحرِّر به الشاعر نفسه، وربما يساعدنا أيضًا على تحرير أنفسنا من اليأس والقنوط، ومن العجز والبلادة والجمود، لعلَّنا نخلق أنفسنا وعالمنا من جديد، أو نعمل على الأقل على تغييرها وتغييره …
وأخيرًا فقد صوَّر الأقدمون ألكايوس في صورة المحارب الخشن الشديد البأس، وغفلوا — أو غفل معظمهم — عن الجوهر الإنساني الأصيل الذي يشع من شعره ومن سلوكه أيضًا في أواخر حياته، لقد كان من الحكمة والكبرياء بحيث تجاوَز الأفكار والقيم والرؤى والمشاعر التي تجذَّر فيها وتربَّى عليها منذ الصغر — عرَف، بعد أن عفا عنه بيتاكوس وعن رفاقه المتمردين، أن هذا الرجل طاغيةٌ لا ككُلِّ الطغاة؛ فقد اختاره الشعب بإرادته، وأصلح نظام الحكم، وشارك مع الشاعر — قبل أن يستعر الخلاف بينهما — في محاربة الأثينيين الذين حاولوا الاستيلاء على مستعمرة «سيجيون» التي أسسها أهل ميتيلينة عند مدخل الدردنيل واحتلُّوها بالفعل فترةً من الوقت، كما أنه — أي بيتاكوس — عمل وسيطًا (إيزيمتيت) بين نظام حكمه وبين الثُّوار الذين لجَئوا إلى المنفى لمدة عشر سنوات اختار بعدها أن يعفي نفسه من منصبه …
تقبَّل ألكايوس الظروف الجديدة، ورضي بتحمُّل مسئولية الحصاد الذي جناه من حياته. لم يستسلم كغيره للعجز وقلة الحيلة (إميخانيا) وإنما اقتنع بأن عصر النبلاء والأقلية قد ذهب لغير رجعة، وأن عليه أن يتفهم السياق الجديد للحياة، ويسلم بأنه خسر قضيته ولا ينطح جدران المستحيل.
ماذا فعل بعد عودته إلى وطنه؟ هل استمرَّ في العزف على قيثارته؟ وما الأغاني التي نظمها بعد رجوعه؟
ليس لدَينا أي إجابة مؤكَّدة على أي سؤال من هذه الأسئلة، ويبدو أن الشيء الوحيد المؤكَّد هو أنه قضى أيامه أو أعوامه الأخيرة وحيدًا مهجورًا من الجميع، وأنه برغم ذلك أو بسببه قد ازداد فهمًا وحكمة، وتعلَّم الكثير من الزمن والتاريخ الذي خرج أو أُخرِج منه …
ولعل من المؤكَّد أيضًا أنه بقي صادقًا مع نفسه، وربما يكون قد واصَل مهنته التي خُلِق لها وشغله عنها الطموح المهلِك للسلطة الخادعة. لقد عرف في النهاية أن شمسه هو وطبقته قد غابت إلى الأبد، ويبدو أنه وجد خلاصه الأخير في هذه المعرفة الحكيمة والأليمة … (راجع أغاني ألكايوس، نشرة ماكس تروي، توسكولوم، ميونيخ، مطبعة إرنست همييران، ١٩٦٣م).
والمؤكَّد أن ألكايوس قد عاصر الشاعرة سافو، لا لأنه وجَّهَ إليها ثناءً خجولًا ومتحفِّظًا حيَّا فيه ابتسامتها العذبة وطلعَتها الصافية وجدائلها البنفسجية، إذ يشكُّ البعض أيضًا في أصالة هذه الشذرة، ولا لأن شعره يحمل مشابه عديدة من شعر سافو في وصف الربيع خاصة، ولا لِزعم القدماء أنه أحبها وخطب ودها عبثًا، ولا لأن إحدى الزهريات التي يرجع تاريخها لسنة ٤٦٠ق.م. — وتوجد في الوقت الحاضر في متحف ميونيخ — تصورهمًا معًا على جدارها، بل لأن الشاعر — في إحدى الشهادات المأثورة عنه — قد أشاد في إحدى أغنياته بالفيلسوف — أو بالأحرى أبو الفلسفة — طاليس، الذي لا نعرف كذلك تاريخ حياته وموته بالتحديد، وإن كان ينسب إليه أنه قد تنبأ بالكسوف الكلِّي للشمس الذي حدث في ٢٨ مايو سنة ٥٨٥ق.م. (راجع ص٩٠ من طبعة توسكولوم). ولما كانت التواريخ التي يقدمها الرواة والمؤرخون القدامى (هيرودوت، أويزيبيوس، أبولودور، ديوجينيس اللائرتي … إلخ) شديدة الاضطراب، إلا أن الأستاذ ماكس تروي — الذي نشر شذرات الشاعر وحققها تحقيقًا علميًّا رصينًا — يُرجِّح الرأي القائل بأن إليكايوس كان حيًّا يُرزَق خلال الثلُث الأول من القرن السادس قبل الميلاد، أي في نفس الوقت الذي عاش فيه كلٌّ من صولون وطاليس، وأن العبارة «الفلسفية» الوحيدة التي تُؤثَر عن ألكايوس (وهي لا ينشأ شيء من لا شيء) تؤكد وجود ارتباطٍ فكري بين الشاعر والفيلسوف؛ إذ إن هذه العبارة تعدُّ أحد الأعمدة الراسخة التي قامت عليها الفلسفة اليونانية عمومًا والفلسفة الطبيعية الآيونية بوجهٍ خاص، ورغم أنها لم تتأكد نسبتُها لطاليس، إلا أنها كانت تمثل المبدأ الذي انطلقَت منه فلسفته هو وزملائه المالطيين (أهل ميلية أو مالطية مهد الفلسفة على ساحل آسيا الصغرى وفي منطقة أيونيا) وهو أن الوجود قد نشأ بالضرورة عن مبدأ طبيعي أول (الماء أو الهواء أو النار أو التراب أو الخليط منها … إلخ) والمهم في هذا السياق أن العبارة المذكورة ربما قِيلَت ضمن أبياتٍ أخرى مفقودة من أغنية تشيد بالفيلسوف في أحد الاحتفالات المعتادة بالأبطال العظماء.