بول فيرلين (١٨٤٤–١٨٩٦م)
أغنية خريف
شارل روا
لا لستُ أدري لماذا
•••
•••
•••
•••
ربما لم يعرف الشعر الفرنسي في تاريخه الطويل شاعرًا يفوق «فيرلين» في غنائيته العذبة الحنون، وعاطفيته الرقيقة الجريحة، وموسيقاه الوديعة الصافية، وتمزُّقه بين ذكريات الأمس ونعيم اللحظة، بين الروح والجسد، بين الورع والفسوق …
وُلِد في مدينة «ميتس» لأبٍ يعمل مهندسًا بالجيش، واتجه في العشرينيات من عمره إلى باريس؛ حيث عمل موظفًا للتأمينات في أحد المجالس المحلِّية. لم يكد ناقوس الزمن يدق بانتهاء ساعات العمل الرتيب حتى يهرول إلى الحي اللاتيني، وينضم إلى صفوف «البرناسيين» الذين ربطَت بينه وبين بعضهم صداقةٌ قوية حميمة (مثل كوبيه وسولي برودوم) واستطاع حوالي سنة ١٨٦٦م أن ينشر أُولى مجموعاته الشعرية «قصائد زحلية» (نسبة لأعياد الإله زحل الرومانية التي اشتهرَت بالإفراط في اللهو والعربدة …) التي لا يتضح فيها تأثُّره فحسب بالبرناسيين — لا سيما الكونت دي ليل — في ذوقهم الكلاسيكي وعقلانيتهم وتشاؤمهم وعشقهم للطبيعة وبُعدهم عن العاطفية الذاتية والرومانسية، وإنما تكشف أيضًا عن تأثُّره بشعر بودلير وجمالياته الوحشية المستفزة. ثم أثبتَت مجموعتان تاليتان (أعياد أنيقة ١٨٦٩م والأغنية الطيبة ١٨٧٠م) أنه قد اتخذ موقفًا وسطًا بين الطرفين وبدأ يعزف ويوقع نغمه الساحر العذب الذي تفرَّد به، تزوَّج في العام الأخير، ولكن الزواج لم يلبث أن فشل وانفصمَت عُراه تمامًا بعد أربع سنوات، وربما كان لصداقته الغريبة الشاذة التي بدأت سنة ١٨٧١م مع الصبي العبقري رامبو وانقضَت أيامها ولياليها في الصعلكة والعلاقة الجنسية الشاذة والشجار والصراع الدائمَين! — ربما كان لها دخل كبير في فشل زواجه — لم يكن الصديقان يفترقان، وفي زيارة لهما لإنجلترا نشبَت بينهما في أحد الفنادق مشادَّة حادَّة أطلق أثناءها فيرلين الرصاص على صديقه الأصغر فجرحه جرحًا بسيطًا عُوقِب بسببه بالسجن سنتين، ثم خرج من السجن واشتغل بالتعليم في المدارس وإعطاء الدروس الخصوصية لتوفير اللقمة الضرورية … ونشر أثناء وجوده في السجن (١٨٧٤م) مجموعة قصائده «خياليات بلا كلمات» التي كشفَت عن صفاء معدنه الشعري الذي صهره عذاب الحبس والعشق المحرَّم والحرمان الروحي والجسدي فتألَّق سحره الجذاب وارتفعَت أنغامه التأثيرية بألحانها وظلالها الملوَّنة وإيقاعاتها وقوافيها التي تُسعد الأذن والقلب …
أمضى فيرلين بقية حياته — لا سيما بعد اختفاء صديقه العبقري المشاغِب وسفره إلى مجاهل أفريقيا — في صراعٍ قاسٍ بين طبيعتَيه أو «نفسَيه» الممزقَتَين بين الإيمان الكاثوليكي الصادق والسعار الشبقي الفاسق، وتجلى هذان الجانبان من ناحية في مجموعته «حكمة» (١٨٨١م) ومن ناحيةٍ أخرى في مجموعتَيه «في الزمن القديم» (١٨٨٤م) و«بالتوازي» (١٨٨٩م) وكلها تصوِّر الصراع الذي سبق أن أشرْنا إليه بين تطلعات الروح ومتطلبات الجسد التي سقط في النهاية ضحية لها، إلى أن جاءه الموت وحيدًا محرومًا ومعذَّبًا مهجورًا في إحدى المستشفيات … وقد ترك وراءه مجموعات شعرية أخرى أدنى مستوى، وكتابات نثرية واعترافات وذكريات عن أيام السجن نُشِرَت جميعًا ضمن أعماله الكاملة التي صدرَت في خمسة مجلدات بين عامَي ١٨٩٨ و١٩٠٣م.
ولعل قصيدته الشهيرة التي جعل عنوانها «فن الشعر» أن تكون مرآة صافية ينعكس عليها أسلوبه الشعري، ورأيه في اختيار الكلمات وصقل القوافي، وبُعده عن التصنُّع والحذلقة والاستعراض، وإيثاره للغموض الشفاف، وإلحاحه على «الموسيقى أولًا وقبل كل شيء!» ثم على «الموسيقى مرةً أخرى وعلى الدوام!» (وهما البيتان رقم ١، ٢٩ من القصيدة المذكورة — راجع ثورة الشعر الحديث، القسم الثاني، ص٤٣٠–٤٣١ الطبعة الثانية، أبولُّو، ١٩٩٧م).