صوفوس ميخائيليس (١٨٦٥–١٩٣٢م)
داود يعزف على القيثار
•••
•••
يكفي أن تتأمل هذه الصورة قليلًا لتعرف أنها لواحد من أعظم الفنانين في كل العصور، وأقدرهم على رسم الوجه الإنساني وتحليل نفس صاحبه والتعبير عن خفاياها وأسرارها وإبراز هواجسها وهمومها وخواطرها وذكرياتها وصراعاتها الباطنة من خلال سيطرته العجيبة على الضوء والظل والخط واللون … وسواء اكتفيتَ بالنظر في هذه الصورة أو رجعتَ لعشراتٍ غيرها من الصور التي رسمها لنفسه وابنه وزوجته، أو لصوره المشهورة مثل «نزاع العلماء» و«عالم في حجرة عالية السقف» و«درس في علم التشريح للدكتور تولب» و«الحراسة الليلية» أو «الرجل المجهول» و«المرأة ذات المروحة» … إلخ؛ فسوف تتأكد أنها جميعًا لرمبرانت فان رين (١٦٠٦–١٦٦٩م) الذي ربما لم يؤتَ أحد في تاريخ الفن قدرته المعجزة على سبر أغوار شخصياته وعرضها أمامك في حضورها الغامر ووجودها الحيِّ القلِق المتفرِّد …
لم تكن اللحظة المتوترة التي سجَّلها «رمبرانت» هي الوحيدة التي الْتقى فيها المغني والعازف الصبي بالملك العجوز العابس الوجه والبائس النفس؛ فقد جاء داود لأول مرةٍ إلى شاءول ووقف أمامه؛ فأحبَّه جدًّا وأرسل يقول إلى يسِّي (من بيت لحم ووالد داود ابنه الأصغر) ليقفْ داود أمامي؛ لأنه وجد نعمة في عينَي …
في هذا اللقاء الأول أخذ داود العود وضرب بيده فكان يرتاح شاءول ويطيب ويذهب عنه الروح الردِي (صموئيل الأول، ١٦) ولكن الملك الذي يعاوده «الروح الردِي من قِبل الله» ويقتحمه بنوبات الجنون التي لا تكف عن الإلحاح عليه، لم يلبث في اللقاء التالي أن أشرع رمحه الذي يقبض عليه بيده اليمنى وضرب به داود الذي تحول من أمامه مرتَين فنفذ في الحائط (صموئيل الأول – ١٩)، وأخذ الملك المجنون بعد ذلك في مطارَدة داود وإرسال الرسل والجواسيس للبحث عنه في الجبال والوديان والقرى والمدن والكهوف والمغارات، وفي كل مرةٍ يلتقي فيها المغنِّي والطاغية المستبِد يثوب هذا إلى رُشده ويطلب الصفح عن إثمه، ثم لا تلبث الكراهية أو الغيرة أو الجنون أن تغلبه على أمره، ويسوقه «الروح الردِي» لتعقُّب أثر ضحيته الذي لم يشفع له أنه زوج ابنته ميكال وصديق ابنه جوناثان الذي أحب داود «كمحبته لنفسه» …
ما الذي كان يتغنى به داود فيثير في ملِكه عواصف الغضب والعنف والحقد والعداء الأسود لكل ما خلق الله من بشر وحيوان ونبات، أو يحمله على أمواجه فيُهيج فيه الآهات والحسرات على عهدٍ مضى وعمرٍ انقضى على ظهر رياحٍ مدمرة كرياح الخماسين فلم يهنأ بلحظة حب أو لقاء أو عطاء أو سعادة واحدة؟
لا ندري على كل حال أي شيء عن طبيعة المشاعر والأفكار والانفعالات التي كانت تسيطر على الملك العجوز المتجهم الوجه أثناء استماعه لعزف داود وألحانه التي طالما أشادت القصص والروايات والأشعار والتواريخ بعذوبتها وصفائها وشدة شجنها وتأثيرها، ولكن المرجَّح في تقديري — ومن خلال القراءة لسِفر صموئيل — أن داود قد فشل فشلًا ذريعًا في إبعاد «الروح الردي» الذي كان يقتحم عقل الملك العجوز ويتملكه ويقبض عليه فيصبح مثل نسرٍ دموي لا يرتوي عطشه للدماء والدمار. والغريب — وأنا أكتب هذه السطور بينما تتوالى على عيني وقلبي صور الفظائع التي يرتكبها جيش إسرائيل في أجساد وأرواح وبيوت ومخيَّمات أبنائنا وإخوتنا في فلسطين في أبشع محنةٍ مرَّت بهم وبالعرب منذ سقوط الأندلس ومحنة التشريد في سنة ١٩٤٨م — أقول من الغريب أن يحمل رئيس أركان جيش العدوان الإسرائيلي — شاءول موفاز — اسم شاءول القديم، وأن يتابع نفس مذابحه ويواصل نفس فظائعه ومجازره — ولكن بأسلحةٍ أشد فتكًا ولؤمًا — هل قلت مِن الغريب؟! وما الغريب في هذا وشعب إسرائيل وملوكه وحكامه هم القتلة والسفاحون عبر كل القرون وخلال كل العصور؟ الغريب حقًّا هو أن نصدق — بحُسن نيةٍ غافلة وغبية — أنهم يمكن أن يريدوا السلام أو يفكروا فيه لحظةً واحدة، أو أن تعيش «إسبرطة الجديدة» — التي تُعدُّ إسبرطة القديمة بالقياس إليها كاللعبة الحربية التي يلهو بها الأطفال — دون التفكير والتدبير — المقرون بالفعل على الدوام — للقتل والحرق والتخريب والتدمير، كما يوحي لهم بذلك «الروح الردِي» الذي لم ولن يتخلَّى عنهم منذ شاءول القديم إلى شاءول الحديث وكل شاءول وشارون يرى أن سفك دمائنا — ودمائنا نحن قبل غيرنا — هو مبرِّر وجوده وغاية طموحه الشيطاني الرديء …
حقًّا وصدقًا: ارتفع الموج وفاضت أغوار النبع، ورنَّت في الليل الحالك موسيقى الدمع، دمع الفلسطينيين ودمهم، ودموع العرب ودماؤهم في المستقبل المخيف غير البعيد، هذا إن لم ينتبهوا ويتَّحدوا ويتحولوا التحول الذي لا مفرَّ منه إلى إرادة الحياة والوحدة والمقاوَمة والحرية والتحرر …