ميجيل دي أونامونو (١٨٦٤–١٩٣٦م)
ولمَّا افترقْنا على قُبلة
دعاء
أونامونو فيلسوف إسباني يمكن أن يُعدَّ من رُوَّاد فلسفة الوجود (أو الوجودية)، وهو شاعر وروائي وقاصٌّ ودارسٌ ضليع للغة اليونانية القديمة والتراث الإغريقي. ولا شك في أنه — بجانب أورتيجا إي جاسيت — من أبرز الوجوه الثقافية التي أنجبَتها بلاده خلال القرن العشرين. وُلِد في بيلباو (منطقة قشتالة) ودرس الفلسفة والأدب في مدريد، ثم تابع الطريق الأكاديمي إلى أن عُيِّن في سنة ١٨٩١م أستاذًا للغة اليونانية بجامعة سلامنكا، وأصبح بعد ذلك مديرًا لها حتى وفاته، باستثناء الفترات التي جُرِّد فيها من جميع مناصبه أو حُكِم عليه فيها بالنفي — إلى الجزُر الكنارية — أو بالسجن، بسبب الاضطرابات السياسية والصراعات الطاحنة قبل الحرب الأهلية، التي تأرجحَت مواقفه منها بين تأييد الملكيين والجمهوريين من ناحية أو الفاشيين بزعامة فرانكو من ناحية أخرى، فقد أيَّدهم في أواخر حياته ثم تنبَّه إلى خطئه الفادح فألقى خطبةً شهيرة هاجم فيها الفاشية والفاشيين هجومًا ضاريًا، وذلك أثناء الاحتفال الذي أقاموه بيوم العنصرة (١٢ أكتوبر سنة ١٩٣٦م) فطُرِد من منصبه ووُضِع تحت رقابة الشرطة، ولكن لم يطُل به الأجل بعد ذلك الحادث ولم يتسع للمزيد من الغدر والتعذيب؛ إذ ودَّعه الناس وهم يودعون ذلك العام (١٩٣٦م) بعد موته وحيدًا في آخر يوم من أيامه …
كان أونامونو رجلًا واسع الثقافة، ذا قدراتٍ عقلية فذَّة أتاحت له أن يرى الأشياء والأفكار من جوانبها الإيجابية والسلبية. بيْد أن أمانته المفرطة كانت لسوء الحظ تميل به في مواقف كثيرة إلى السلب بدلًا من أن تهديه في الوقت المناسب إلى الصواب … ومن هنا جاء تردده الطويل بين الجمهوريين والفاشيين، إلى أن تبين له وجه الحق قبل فوات الأوان …
دافع أونامونو طوال حياته عن حق إسبانيا وواجبها في أن تشغل المكان اللائق بتراثها الثقافي والإنساني العظيم داخل التراث الأوروبي والبشري عامة، وقد أرجع عزلتها وتقاعسها عن القيام بدورها إلى الكوارث التي حلَّت بها، وكان هو نفسه شاهدًا على أصداء ورؤى فواجعِها بعد أفُول شمس الإمبراطورية وزوال أمجاد العصر الذهبي. وقد ظل ينادي الإسبانَ أن يفتحوا صدورهم للمؤثرات والثقافات الأخرى، دون أن يذوبوا فيها أو يتخلوا عن أصالتهم الروحية.
ويبدو أن مشكلة الموت قد شغلَته كذلك طوال حياته حتى لقد صاغ «كوجيتو» جديدًا عارض به الكوجيتو الديكارتي الشهير، ووضعه على هذه الصورة:
أنا أموت (أو أنا أتعذب) فأنا إذَن موجود …
وقد اهتم بفلسفة الدين قبل كل شيء، وظلَّت عاطفته الدينية الملتهبة في حالة تصارُع مع الموت الذي كافح كثيرًا لانتزاع الاعتراف بخلود النفس من فمه الصامت العابس … وتجلَّى هذا الصراع والكفاح الطويل في كتابَيه عن العاطفة التراجيدية للحياة (١٩١٢م) واحتضار المسيحية (١٩٢٤م)، وفي هذين الكتابَين يسجل إيمانه بأن الحياة البشرية على هذه الأرض مأساةٌ متواصلة الفصول منذ الميلاد حتى الموت. وهو كرجلٍ متديِّن بفطرته يؤكد أن الديانات — بما فيها المسيحية — يمكن من الناحية الشكلية أن تلطِّف من وقْع هذه المأساة، ولكنها لا تملك الحلَّ النهائي لها أو الدواء الشافي منها؛ فالموت متربص في كل طريق وكل منعطَف، وما من دليل يؤكد خلود النفس الذي يمكن أن يجعل الحياة محتملة … وإذا كان قد قال بهذا بوحيٍ من عقله، فإنه بوجدانه لم يستطع أن ينكر الدين كما فعل غيره على أُسسٍ عقلية أو علمية ومادية مشكوك فيها، ومن ثَم بقي متمسكًا بخلود النفس وبضرورة الإيمان بوجود الله حتى يكون ثمة أمل أو نبل في حياة الإنسان القصيرة المقضي عليها — وعلى كل موجودٍ سواها من نبتة العشب إلى ملايين النجوم والمجرات! — بالزوال والفناء المحتوم …
ومن أهم الروايات التي كتبها أونامونو روايته «نيبلا» (١٩١٤م) وأبيل سانشيز (١٩١٧م) بجانب ثلاث قصص نموذجية (١٩٢١م) يسلط فيها عينه الخبيرة بالحياة، وعقله اليقِظ الجبار، ووجدانه القلِق الحساس على وجود الإنسان من داخله وخارجه، فيكشف عن شكوكه المخيفة إزاء القضايا الكبرى، ويفحص عواطفه وهمومه وانفعالاته في مواقفه ولحظاته الحاسمة، وكل ذلك بأسلوبٍ عاطفي يحرك العقل ويزلزل الشعور. أضف إلى هذا الإنتاج الروائي كتابه المهم عن حياة دون كيخوت وسانكو (١٩٠٥م) الذي يحلل فيه الجانبَين المتضادَّين في الحياة الإسبانية، ويمثلهما نموذجا دون كيخوت الخيالي والإنساني النبيل، وسانكو بانزا الواقعي والعملي القنوع، وكأنما يعبِّران عن حب التراث الخاص من ناحية، والعجز عن التطور والتجدد من ناحيةٍ أخرى. وأما عن شعره ففيه — على الرغم من جهامته وغلبة الحزن والحسرة والقنوط عليه — مكانٌ مرموق للمشاعر النبيلة، وحسٌّ دائم بالموت الحاضر في كل شيء وفي كل مكان وزمان، وحنينٌ فيَّاض إلى الطبيعة الخشنة الصارمة في قشتالة، وكل هذا ممثَّل على أجمل وأوضح صورة في ديوانه «مسيح فيلازكويز» (الرسام الإسباني الشهير) وفي المختارات من أشعاره التي ظهرَت سنة ١٩٤٢م.
وأخيرًا أستأذن القارئ الكريم وأسرُّ إليه أن أول مقال نشرتُه في حياتي سنة ١٩٥١م (في مجلة الثقافة التي كانت تصدر عن لجنة التأليف والترجمة والنشر) كان بعنوان «رسالة إلى كاتبٍ شاب»، واعتمدتُ فيه على مقالٍ جميل ومفعَم بالخبرة والحكمة وجدتُه آنذاك ضمن كتابٍ مترجم إلى الإنجليزية يضم عددًا من مقالاته، كان هذا المقال — الذي أضفتُ إليه بعض الشروح المفصَّلة عن عددٍ من الشخصيات الأسطورية الإغريقية — كان سببًا في زيارة لا أنساها لمكتبي البائس في دار الكتب المصرية التي كنتُ قد عُيِّنتُ موظفًا بها في مطلع حياتي … أجل زارني — فضلًا منه وكرمًا لا أستحقه وإن كنت لا أنساه أبدًا — أستاذُنا الجليل العزيز محمد فريد أبو حديد ليتفاهم معي عن هذا المقال الذي أُعجِب به أيما إعجاب، ولِيستأذنني — أنا الشاب المجهول والمتجاهل! — في التخفيف من الشروح الأمينة والمطوَّلة التي زوَّدتُ بها المقال أو على الأقل حذف بعضها …
آه يا زمان الوفاء والمروءة والتواضع الكريم والأساتذة والآباء العظام، ويا ويلي من زمان النذالة والصغار والادعاء والاستعراض والزيف والتزييف الذي كُتِب عليَّ أن أحيا فيه معتزلًا ومترفعًا عن آفاته وسقطاته …