برتولد بريشت (١٨٩٨–١٩٥٦م)
(وضَع بريشت هذه الأبيات لتكون بمثابة شعار لقصائد كتاب الحرب الذي يمثِّل القسم الأول من قصائد سفندبرج التي نظمها في منفاه بالدانمارك.)
الحبيبان
في المدن اللعينة …
•••
•••
•••
(أغنية عن ميِّت)
•••
•••
في بلد السويد …
(١)
(٢)
(٣)
(٤)
(من خواطر شن-تي)
•••
•••
هذا خير
من أغاني جروشا أثناء التجوال
(١)
(٢)
•••
•••
•••
برتولت بريشت هو أحد الأدباء الألمان القليلين — بجانب جوته وتوماس مان — الذين تجاوز تأثيرهم وشهرتهم حدود بلادهم إلى العالمية. ويرتبط اسمه في ذهن القارئ العربي، وفي خيال وذاكرة عشَّاق المسرح منذ الستينيات، ببعض مسرحياته التعليمية مثل الاستثناء والقاعدة، ومحاكمة — أو استجواب — لوكولوس، أو مسرحياته الناضجة المتأخرة مثل حياة جاليليو، ودائرة الطباشير القوقازية، والإنسان الطيب من ستشوان، كما يرتبط أيضًا في عقول النقاد بنظريته عن المسرح الملحمي، أو على الأصح السردي، الذي وصفه في بعض كتاباته بأنه مسرحٌ جدلي وغير أرسطي، وعاد وزاد في الكلام عن «أثر الإغراب» الذي يهدف به إلى تغيير وعي القارئ أو المتفرج الذي يشاهد مسرحه، بحيث لا يندمج مع الحكاية والممثلين، ولا يتوحَّد من خلال العاطفة — كالخوف أو الشفقة اللذين ذكرهما أرسطو في فن الشعر — مع الأحداث والمصائر التي تجري أمامه، وإنما يدرك منذ البداية — ومن خلال مراعاة الممثلين لمسافة البعد عن الأدوار التي يقومون بها، وبفضل مخاطبتهم للجمهور ورواية راويةٍ معيَّن وتعليقاته على ما يحدث — يدرك أن ما يشاهده تمثيل في تمثيل، وأنه يعبِّر عن متناقضات واقعٍ برجوازي قديم أو حديث، ينبغي تغييره والثورة عليه، وإبداله بواقعٍ آخر أكثر عقلانية وإنسانية وسلامًا وعدلًا وحرية، وأقل ظلمًا وعبودية وتزييفًا للحقيقة وللعقل …
اشتهر بريشت إذَن في بلادنا العربية ككاتبٍ مسرحي مرموق حاكاه الكثيرون من أدبائنا وتأثروا به بصورٍ مباشرة أو غير مباشرة، ولكن الشاعر بريشت، الذي أعتقد — بلُغة المقولات الأرسطية — أنه هو الأساس أو الجوهر الذي قام عليه مسرحه وسائر إنتاجه في القصة والرواية والمقال والأوبرا، هذا الشاعر لم يحظَ بالاهتمام الذي يستحقه، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي بذلتُها وبذلها غيري لتقديم بعض روائع شعره إلى القراء العرب. صحيح أن هذه الروائع قد أثَّرَت على عددٍ كبير من شعرائنا المجدِّدين (مثل قصائده: إلى الأجيال المقبلة، وبرتولت بريشت المسكين، وأسئلة عامل أثناء القراءة، وحكاية كتاب الحكيم الصيني لاوتزو وهو في طريقه إلى المهجر، وحذاء أنبادوقليس … وغيرها)، وربما يكون السبب في تواري شاعرية بريشت إلى الظل بالقياس إلى مسرحه — مع أنها هي الأصل والروح والجوهر والمنبع كما سبق القول! — أن الكثيرين من نُقادنا — لا سيما في فترة الستينيات — قد ربطوا مسرحه بأيديولوجيته الاشتراكية، وغاب عنهم أن الشاعر بريشت قد تجاوز الأيديولوجي، شأنه شأن أي شاعرٍ جدير بهذا الاسم، بل إنه قد حول الأيديولوجية الاشتراكية إلى فن وأسلوب ومنهج وفلسفة تهدف قبل كل شيء لتغيير وعي الإنسان العادي ومواجهة الزيف الرأسمالي والنازي والشمولي بوجهٍ عام، وتقديم كل ذلك — الفن والأسلوب والمنهج الجديد والفلسفة — في صورٍ شعرية أو مسرحية تنقل إلينا مفارقات الواقع وتحضنا على تغييرها بالوعي وبالثورة الفعلية إذا اقتضَت الضرورة …
•••
وُلِد بريشت في مدينة أوجسبورج بالجنوب الألماني، ومات في برلين الشرقية عاصمة جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة (وقد دُفِن في المقبرة القديمة التي كان يطلُّ عليها من مسكنه الواقع في مبنى مسرح الشفباوردام الذي كانت تمثِّل عليه فرقته وهي فرقة برلين، وقبره مجاور لقبر هيجل).
كان أبوه يعمل موظفًا للبيع في إحدى الشركات التجارية، ثم أصبح مديرًا لفابريقة أو مصنع للورق. سجل بريشت نفسه في سنة ١٩١٧م بكلية الفلسفة ثم بكلية الطب بجامعة ميونيخ، ثم جُنِّد في سنة ١٩١٨م، وأُلحِق بإحدى مستشفيات الميدان المتنقلة، وعايَن من آلام المرضى والمصابين وصرعى الحرب ما أثَّر بعد ذلك على كتاباته المسرحية في مراحلها المبكرة والمتوسطة والمتأخرة (طبول في الليل، رجل برجل، شفايك … إلخ) تخلَّى بعد الحرب عن دراسة الطب واتجه لدراسة الفنون المسرحية. وبدأ في الاختلاط بالأدباء والفنانين (مثل الكاتب ليون فويشتفنجر والمخرج إريش إنجل وشاعر الكباريهات الشعبية كارل فالنتين) وطردَته الجامعة سنة ١٩٢١م، ولكنه عُوِّض عن ذلك بالنجاح الذي لقيَته مسرحيته الثانية «طبول في الليل» التي عُرضَت لأول مرةٍ في سنة ١٩٢٢م، وحصلَت في السنة نفسها على جائزة «كلايست» مما جعل «مسرح الغرفة» في ميونيخ يتعاقد معه على العمل في الإعداد الدرامي لبرامجه المسرحية، ثم انتقل في سنة ١٩٢٤م إلى برلين وعمل كذلك معِدًّا للنصوص الدرامية في المسرح الألماني الذي كان يديره المخرج الشهير ماكس رينهارت، كما أُتيحَ له أن يعرض بعض مسرحياته المبكرة التي تدخُل في المرحلة التعبيرية — وإن كانت في الحقيقة تعض هذه الحركة الصارخة بأنياب السخرية الجارحة — وسجَّل أول نجاحٍ حقيقي في حياته بعد عرض أوبرا القروش الثلاثة في مسرح «الشفباوردام» الذي ستهبه له الدولة الماركسية في ألمانيا الشرقية السابقة لتعرض عليه فرقته، التي أسسها وأدارتها زوجته الممثلة هيلينة فايجل، أهم مسرحياته وبعض المسرحيات الكلاسيكية والحديثة (لشكسبير وموليير ولنس وبيشر وغيرهم).
استولى النازيون على السلطة في سنة ١٩٣٣م فعرف بريشت أن الحرب قادمة ولا مفرَّ من الهروب إلى المنفى، ولجأ مع أسرته إلى الدانمرك عن طريق براغ وفيينا وباريس، وأقام في مسكنٍ متواضع على شاطئ سكوفبو بالقرب من شفندبورج، استقرَّ في الدانمرك ست سنوات شهدَت كتابة عددٍ كبير من مسرحياته المهمة، ومن قصائد كتاب الحرب الذي واصل فيه هجومه على عصابة هتلر والبربرية النازية. ولكنه اضطُر — تحت زحف القوَّات النازية — إلى مغادرة الدانمرك إلى السويد (١٩٣٩م) ثم إلى فنلندا (١٩٤٠م) التي سافر منها عبر موسكو وفلاديفوستوك على سفينة شحنٍ متهالكة إلى سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية. وفي أمريكا جرَّب شظف العيش وعانى مهانة عرض بضاعته التي لم يُقبل عليها أحد لا في السينما ولا في المسرح، باستثناء ترجمة رائعته «حياة جاليليو» إلى الإنجليزية، وعرضها هناك بالتعاون مع الممثل العبقري تشارلز لوتون. أقام في بيته بالقرب من سان فرنسيسكو ست سنوات إلى أن طُلِب منه المثول أمام لجنة النشاط المُعادي لأمريكا؛ فنفى عن نفسه تهمة الشيوعية أو عضوية الحزب الشيوعي في أي وقت، وأثبت لأعضاء اللجنة أنه مجرد كاتب مسرحيات يعادي الحرب والاستبداد ويدافع عن السلام والأخوة البشرية … كان ذلك في اليوم الثلاثين من شهر أكتوبر سنة ١٩٤٧م، ولم يُشرق عليه فجر اليوم التالي (الأول من شهر نوفمبر) إلا وكان في طريقه إلى زيورخ عن طريق باريس! أمضى في زيورخ عامًا واحدًا ثم اتَّجه عن طريق براغ إلى برلين الشرقية بعد أن منعَته قوات الاحتلال الأمريكية من دخول ألمانيا الاتحادية. وفي برلين أسَّس مع زوجته هيلينة فايجل — كما سبق القول — فرقته المسرحية التي انتقلَت لمسرح الشفباوردام منذ سنة ١٩٥٤م إلى يومنا الحاضر، وأقاما فيه ما يشبه أن يكون «ورشة عمل» جماعية ساعدته على مراجعة نصوصه ونظرياته عن فن التمثيل والإلقاء والإخراج تحت تأثير الآراء التي كان يبديها النظَّارة والممثلون والمساعدون والمساعِدات والتلاميذ المتدربون، ولم يكن يجد أي غضاضة في مناقشتها والأخذ بأصلحها وأنفعها في توصيل رسالته وقيَمه الفنية والفكرية إلى الناس …
حصل بريشت في سنة ١٩٥٠م على لقب مواطن شرف من حكومة النمسا، كما اقتنى في نفس السنة بيتاريفيا في منطقة بوكو السويسرية، وفي هذا البيت كتب أروع قصائده المتأخرة التي نُشِرَت تحت عنوان «مرثيات بوكو»، وفيها يبوح ببعض آلامه المبرحة التي سببَتها العلاقة المتوترة بينه وبين السلطة، لا سيما بعد إخماد ثورة العمال التي اندلعَت في برلين في شهر يونيو سنة ١٩٥٣م وسحقَتها الدبابات الروسية، ولكن هذه العلاقة المتوترة، ومشاعر الإحباط وخيبة الأمل التي هاجمَته في أواخر أيامه، وكانت وراء الأزمة القلبية التي أودَت بحياته، لم تمنع تلك السلطات من أن تمنحه أسمى جوائزها: جائزة الدولة من الطبقة الأولى في سنة ١٩٥١م، وجائزة ستالين للسلام في سنة ١٩٥٤م …
•••
ترك بريشت وراءه تراثًا ضخمًا يستوعب معظم الأشكال الأدبية: خمسون مسرحية، كتاب الأورجانون الصغير عن المسرح، وشروح نظرية مستفيضة لنظريته عن المسرح الملحمي، وتجاربه وآرائه عن الإخراج والتمثيل والإلقاء والديكور والإضاءة والموسيقى وسائر الوسائل والأساليب المدعمة لمسرحه «الجدلي» الذي عارض به المسرح التقليدي أو «الأرسطي»، قصص قصيرة سمَّاها قصص النتيجة السنوية — الروزنامه — تأخذ الروح التراثية والشعبية لهذا الشكل الأدبي وتملؤه بمضامين معاصرة تعبِّر عن ارتباطه الوثيق بقضايا عصره ومشكلاته، وذلك بجانب قِصصه المكثَّفة البالغة القِصر — التي لا تزيد في بعض الأحيان عن عدة جُمل أو سطور — وقد سمَّاها حكايات السيد كوينر، وروايات بقيَت شذرات لم تتمَّ (مثل رواية القروش الثلاثة، وأعمال السيد يوليوس قيصر، ورواية توي التي تشبه أن تكون مشروعًا موسوعيًّا ضخمًا لم يقدِّر له الموت المفاجئ أن يتمَّه)، وهذا كله بالإضافة إلى ما يزيد عن ألفَي قصيدةٍ نسج أجنحتها وأجسادها من جميع الأشكال الشعرية المعروفة؛ من الحكاية أو القصة الشعرية والغنائية الشعبية (البالاد) التي كتب منها عددًا كبيرًا، إلى المرثية والإبيجرام (القصيد الموجز) والكورال (نشيد الجوقة) وقصائد المناسبات، إلى الأغنية البطولية، والترنيمة، وأغنية المهد، وأغاني الحب، والأنشودة والمزمور والسوناتة، والثلاثية (الترسينة) والرومانسة، وأغنيات (أو مواويل) المغنِّين الجوَّالين والشحاذين والصعاليك، كل ذلك مع السيطرة المقتدرة على جميع الأشكال العروضية والإيقاعية، سواء كانت تقليدية تتقيَّد بالأوزان والبحور والقوافي، أو كانت من الشعر الحُر أو المرسَل، مع احتفاظ هذا الشعر على الدوام بالطابع المفتوح، أي بطابع التشكك، والتساؤل، وإبراز المفارقة والتناقض، واستثارة القارئ للتفكير بنفسه ولنفسه، واتخاذ المواقف النقدية والعقلانية مما يعرض عليه في القصيدة أو على خشبة المسرح، وحثه على الدوام على عدم التسليم أو الاستسلام لما يُصوَّر له على أنه ثابت أو مقدَّس أو بديهي أو عادي، مع احترام حريته — أي حرية القارئ — في قبول ما يعرضه الشاعر عليه من أفكار ومقترحات لتغيير وعيه وتغيير الواقع، وذلك مصداقًا لكلمته الأساسية التي يرى أنها إذا لم تتحول إلى فعلٍ فلا قيمة لأي كلمة ولا جدوى من أي أدب؛ غير العالم فهو يحتاج إلى التغيير! …
•••
يصعب عليَّ — في هذا المجال المحدود — أن أتحدث عن شعر بريشت الذي سبق لي أن اخترتُ من روائعه مائتَي قصيدة نشرتُها مع مقدِّمتَين طويلتَين عن حياته وإنتاجه وطبيعة لغته الشعرية البسيطة المباشرة التي تتوجه للرجل العادي قبل كل شيء.
(راجع إذا شئت كتاب: هذا هو كل شيء — قصائد من بريشت — القاهرة، الطبعة الثانية، دار شرقيات، ١٩٩٩م.)
ويصعب أيضًا أن يخرج القارئ من النماذج المنظومة التي أقدِّمها مع هذه السطور بفكرةٍ وافية عن هذا الشعر الذي ارتبط — كما ارتبطَت حياة صاحبه — بمقاومة كارثة عصره، وهي الفاشية، والدعوة إلى السلام والعدل والعقل والحب بين البشر، والكفاح المتواصل لتغيير وعي الإنسان العادي الذي طالما زيَّفَته الخرافات والأوهام والأكاذيب التي يروِّجها حكَّامٌ كل همهم هو العض على السلطة والمجد الزائف؛ اسمعه وهو يقول هذه الأبيات التي أهداها إلى أسدٍ وجدَه مرسومًا على وعاءٍ صيني: «الأشرار يخشون مخلبك، الطيبون يفرحون برقَّتك، مثل هذا الكلام سمعتُه عن أشعاري فسرَّني …»
إنه يكتب لغةً طبيعية مألوفة، تتجه إلى العقل ولا تستثير العاطفة، وتبتعد عن التهويل والمبالَغة، وتلتزم الوضوح والبساطة والدقة التي تكاد تقترب من موضوعية العلماء الطبيعيين، عبثًا تبحث في شعره عن صورٍ غريبة أو ناشزة، أو تجد لدَيه تحطيمًا للتركيب المألوف للعبارة أو مَيلًا إلى الإيحاء والإيماء الذي يكتفي بالإشارة ويحيل الكلمات إلى رموز وشفرات أو علامات أشبه برموز السحرة ونبوءات العرَّافين الغامضة المحيِّرة؛ كما فعل كثير من رُوَّاد الحداثة والتجديد في الشعر الأوروبي الحديث والمعاصر. إنه على العكس منهم تمامًا يقدِّم السهل الممتنع، ويبلغ في ذلك من الدقة والبساطة والاقتصاد في التعبير إلى الحدِّ الذي يمكننا معه القول بأن العقل نفسه قد أصبح شعرًا، وأنه يسلط ضوءه على الأشياء والأحداث، فتشف عن جوهرها الحق بغير زخرف ولا تكلف …
ومن الطبيعي أن يكون شعره قد تطور في مراحل مختلفة تميَّزَت كلٌّ منها بخصائصها وإن اشتركَت جميعًا في الارتباط بقضايا العصر، وتوجيه خطابها إلى الرجل العادي، والدعوة الملحَّة لتغيير الوعي والواقع، والثورة على الغباء البرجوازي وعلى الفساد والتزييف الرأسمالي، وطرح البديل «اليوتوبي» أو الاشتراكي عن طريق العمل الجماعي والنضال المشترك …
تميزَت قصائده وأغانيه وحكاياته الشعرية المبكرة — فيما يُسمَّى بالمرحلة التعبيرية التي كانت في الحقيقة ثورة على التعبيرية مع المَيل الصارخ إلى الفوضوية والعدمية — تميزَت بوحشيتها وتمردها على كل القوالب «البرجوازية»، وسخطها المرير على انحطاط القيم وتعاسة الإنسان الذي يضلَّل ويُساق إلى المذابح الجماعية التي ينظِّمها «الأعلَون»، ويتاجر بها ويكسب من ورائها الرأسماليون (راجع على سبيل المثال كورال «بعل» وأغانيه في المسرحية المبكرة المعروفة بهذا الاسم …)
ثم جاءت مرحلةٌ قرأ فيها الشاعرَ «هيجل» ودرس «ماركس» في مدارس العمال، واتجه إلى كتابة قصائد ومسرحيات تعليمية مباشرة تروِّج للثورة وتدعو البسطاء والكادحين للاندهاش من الواقع الذي يعيشون فيه، وتفتح عيونهم على تناقضاته الدامية، وتحرضهم على النقد والتشكك في كل ما هو ثابت ويقيني؛ إذ لا شيء يقيني إلا الشك نفسه. وفي هذا الشعر تتوارى الذات وراء الموضوع، وتتَّحد آلام الفرد بآلام المجموع، ويصبح الفن وسيلة للثورة على كل ما يُوصَف بأنه واقع ومعقول … انظر مثلًا إلى هذه الأغنية التي توجِّهها الجوقة في المسرحية التعليمية الشهيرة «الاستثناء والقاعدة».
«في النظام الذي وضعتُموه/تُعتبَر الإنسانية استثناء/من يسلك مسلك إنسان/لا بُد أن يدفع الثمن/كل من يبدو محبوبًا سمحًا/عليكم أن تخافوا عليه/من أراد أن يساعد إنسانًا/عليكم أن تمنعوه/بجوارك يعطش إنسان/أغمِض عينيك بسرعة/سدَّ الأذنَين!/فبجانبك تأوَّه أحد الناس/أمسك خطواتك/عمن يصرخ في طلب النجدة/الويل الويل لمن ينسى نفسه!/سيمدُّ الكأس ليروي ظمأ العطشان/فلا يلبث أن يتبيَّن أن الشارب ذئبٌ جوعان!»
ما من تعبيرٍ غامض أو حالم أو مغلَّف بالسحاب أو الضباب، بل وضوحٌ قاسٍ عنيد، ودقَّة موضوعية لا يمكن أن يُساء فهمُها. إنه شعرٌ خالٍ من أي نبرةٍ خطابية أو عاطفية، ومع ذلك ففيه من الإيقاع الموسيقي الباطن ما لا يقل عمَّا نجده في شعر جوته أو رلكه، وإن كان يزيد عليهما بمقدار ما فيه من العقل والمكر والشراسة والاستفزاز للفعل الجماعي المتمرد على ميراث الظلم القديم؛ لأنه يقدِّم صورة للشاعر الذي لا يجترُّ الماضي، بل يهدم الحاضر ويصنع المستقبل.
هكذا اختلفَت وظيفة الكلمة، كما اختلفَت وظيفة الشاعر لتصبح صدًى لوضعه الجديد في المجتمع. لم يَعُد له الحق في أن يعبِّر عن عواطفه الشخصية، بل عن مشكلات المجتمع، إنه الآن يتحدث في نغمةٍ جديدة، ويكتب بأسلوبٍ جديد: البؤس والتعاسة والثورة أصبحَت موضوعات تُكتَب عنها السوناتة ويؤلَّف عنها النشيد. العمال البسطاء والمكافحون المجهولون في سبيل القوت اليومي يحتلُّون مكان القادة والزعماء والملوك والنبلاء. حماس العاطفة ورقَّة الحلم ونشوة الحواس تترك مكانها للتهكم الساخر، واللفظ الوقح، والغلظة المتعمَّدة. إن الشعر لا يريد أن يُرضِي مَن يطلب منه الاستمتاع والتذوق الوجداني والجمالي الرفيع؛ إنه يصدم ويجرح، ويعلِّم ويربِّي، ويحضُّ ويستفز، وكأن الشاعر قد صمَّم على أن يكون القطب المضاد لتراثٍ شعري كلاسي وحديث، تراثٌ ملأه بالأنغام المترفعة الجليلة أو الساحرة الرقيقة أو الغامضة المحيِّرة شخصيات مثل جوته ورلكه وجئورجه وهوفمنستال وجوتفريد بِن …
في هذه المرحلة التعليمية نجد الشاعر يقول: «لا نزاع في أن الشعر ينبغي أن يكون شيئًا يمتحنه الإنسان بمقياس قيمته في الاستعمال، إن كل القصائد العظيمة لها قيمة الوثائق» … ومع أن الشعر كان في هذه المرحلة أداة للكفاح السياسي، ومع أنه أصبح شعرًا عقليًّا كما كان في عصر التنوير، وضحَّى بسحر الكلمة في سبيل الدعوة، وتخلَّى أو كاد عن الغنائية لينصرف إلى تربية القارئ واستفزازه للثورة وإعداده للاشتراكية، فإنه لم يخلُ مع ذلك من الرومانسية والعدمية، والاكتئاب المفرط، والفزع من الظلام والمصير الكوني (راجع قصائده عن بريشت المسكين، وإلى الأجيال المقبلة، والقصائد الصينية … إلخ) وكأنما أراد أن يجمع بين النقيضَين فيكون صوت الطبيعة وصوت المضطهَدين والمظلومين، وأن يؤلف في نسيجٍ واحد بين أنغام الثروة المستقبلية وأشجان الحكمة العدمية، هل كانت هذه المرحلة تعبيرًا عمَّا سمَّاه بالزمن السيِّئ للشعر حين قال:
«في ذاتي يتنازع الحماس لشجرة التفاح المزهرة/مع الفزع من خُطب النقاش (أي هتلر)/لكن الأمر الثاني هو وحده/الذي يجعلني أجلس إلى مكتبي» …
وتنقضي فترة الضنك والعذاب في المنافي التي قضى فيها خمسة عشر عامًا من عمره، وتنتهي بانتهاء الحرب مرحلة الشعر الذي كرَّسه صاحبه للوقوف في وجه الخراب والبربرية لتبدأ في المسرح والقصيدة على السواء مرحلةٌ «تأليفية» ناضجة، غلب عليها طابع الشكوى والحزن الفاجع وخيبة الأمل، صحيح أن الصراع بين الشاعر والسياسي لم يختفِ تمامًا، وأن جدليَّة العقل المتيقظ والتهكُّم الساخر، ودفء الشعر الطبيعي وتجريد القضايا المذهبية، ولهجة الرعاع وحكمة الصين، والنغمة الشعبية البسيطة المباشرة والدعوة السياسية والتعليمية، هذه الجدلية لم تغادر حياته ولا شعره أبدًا، بيْد أنها في المرحلة الأخيرة قد ران عليها تعب السن وخيمَت فوقها خيبة الأمل في ظل النظام الشمولي والبيروقراطي الذي توترَت علاقته معه، وطغى عليها الحزن والحسرة لانزلاق الحلم بالمستقبل والفردوس الأرضي وجنة العمال والفلاحين والعدل والسعادة والحرية … إلخ إلى غياهب الظلمات الكثيفة.
وتبلغ هذه المرحلة المتأخرة ذروتها في مرثياته الرائعة التي نعى فيها نفسه وحلمه وإن لم يتخلَّ أبدًا عن أمله في مستقبلٍ أفضل، ولا عن إيمانه بإمكان التغيير في زمنٍ آتٍ وعلى يد أجيال أخرى … هذه المرثيات التي تُنسَب إلى بوكو، وهي البقعة والبيت الهادئ اللذان كان يلجأ إليهما في سويسرا للراحة والتأمل، يطلُّ من خميلة أبياتها وجه الحكيم الزاهد الممرور، القانع بالمتع اليومية والحسِّية الصغيرة، المتعاطف — رغم كل شيء — مع التُّعساء والمضطهَدين من صغار الناس … وكما قال قبل ذلك في قصيدته الخالدة إلى الأجيال المقبلة: «أنتم يا من ستظهرون بعد الطوفان الذي غرقْنا فيه/اذكروا عندما تتحدثون عن ضعفنا/ الزمن الأسود الذي نجوتم منه (…) نحن الذين أردْنا أن نمهد الأرض للصداقة/لم نستطع أن يكون بعضنا صديقًا للبعض/أمَّا أنتم فعندما يأتي الزمن الذي يصبح فيه الإنسان عونًا للإنسان/ فاذكرونا، وسامحونا …» نجده في هذه المرثيات لا يفقد الأمل في زوال الطوفان، ولا يتخلى عن إيمانه بمستقبلٍ أعدل وأجمل:
«حتى الطوفان لم يدُم إلى الأبد/ذات يومٍ تسرَّبَت المياه السوداء/حقًّا ما أقل المياه التي استمرَّت زمنًا أطول!»
أجل! لم يتوقَّف الشاعر — حتى مع ثقل السن والمرض والحزن — عن قول الحقيقة، ولم يكفَّ عن الإيمان بضرورة المقاومة حتى النهاية:
«لقد تصورتُ دائمًا/أن أبسط الكلمات يجب أن تكفي/عندما أقول الحقيقة عمَّا يجري في الواقع/فلا بُد أن يتمزق قلب أي إنسان. والشيء الذي ستتأكد منه حتمًا/هو أنك ستسقط عندما تكفُّ عن المقاومة …»
ولأن «المقاومة» يمكن أن تكون الشعار الملائم لحياته وشعره، فإنه — حتى وهو على فراش الموت — لم يتخلَّ عن إيمانه بالمستقبل الذي يمكن أن يحمل معه الأمل في «التغيير» الذي دار حوله كل فكره وكفاحه …
ها هو ذا راقد في الغرفة البيضاء التي سيتوقف فيها قلبه بعد أيام أو ساعات، يصحو من نومه قبل طلوع النهار ويسمع غناء الشحرور، عندها يجد نفسه قد اقترب من «الحقيقة» وعرَفها معرفة أفضل؛ لقد علَّمه المرض كيف يتخلص من الخوف من الموت، وعلَّمه أيضًا أن يفرح، في لحظته التي ما يزال فيها حيًّا، بغناء الشحارير. ثم كان أثمن درس تعلَّمه وعلَّمنا إياه أن يفرح ونفرح معه من كل قلوبنا؛ لأن الشحارير ستستمر في الشدو والغناء بعد أن نذهب ونزول؛ لأنها ستُسعد مَن سيعيشون بعدنا من الأجيال القادمة …