إنجبورج باخمان (١٩٢٦–١٩٧٣م)
ظلال زهور ظلال
ها هي ذي تقرأ عليهم في سنة ١٩٥٢م قصيدتها «المهلة» التي جعلَتها بعد ذلك عنوان أول مجموعاتها الشعرية (١٩٥٣م)، وتتحدَّث عن الزمان الكوني كما لو كان مبلغًا من المال اقترضه بنو البشر وعليهم أن يردُّوه ذات يوم؛ ذلك أن الأيام العسيرة تنتظرهم حين يظهر الزمن المؤجَّل بنفسه على الأفق وكأنه ينذرهم بأن يراجعوا حياتهم ويتدبروا معنى تاريخهم:
«ستأتي أيام أشد/المهلة التي يمكن أن تسترد/سترى على الأفق/بعد قليل سيكون عليك أن تربط الحذاء/وتطارد الكلاب إلى الساحات/لأن أحشاء الأسماك أصبحَت باردة في الريح/وهنا يشتعل نور أزهار الزينة/وتترك نظرتك أثرها على الضباب:/المهلة التي يمكن أن تسترد/سوف ترى على الأفق/هناك تسقط الحبيبة منك في الرمال/تصعد حول شعرها الرفيف/تقطع عليها الكلام/تأمرها بالصمت، تجدها فانيةً مطيعة في لحظة الوداع وبعد كل عناق/لا تلتفَّت حولك/اربط حذاءك/طارد الكلاب/ألقِ بالأسماك في البحر./اسحق أزهار الزينة/سوف تأتي أيامٌ أشَد.»
ولكن هذه النغمة «الفلسفية» الخشنة الجسورة التي تُحطِّم الأماني الكاذبة وتجرِّد من الأوهام الزائفة وتعبِّر عن الإرادة القادرة على مواجهة القدَر المحتوم، هذه النغمة لم تمنع الشاعرة من الاهتمام بظواهر الزمن المعاصر (كظاهرة التسلُّح بأسلحة الدمار الشامل) والحديث عنها حديثًا شجاعًا مباشرًا:
«الحرب لن تُعلَن بعد اليوم/بل ستستمر./الفظاعة/أصبحَت تحدث كل يوم./البطل يبتعد عن المعارك/الضعيف يدخل في مناطق النار./البذلة اليومية هي الصبر … إلخ.»
وإذا كانت الشاعرة تكشف عن تجربتها برعب العصر وفظاعته، وتعرف تمام المعرفة أن الشجاعة لا تنفع والقلق لا يجدي أمام القدر الفاجع الذي يمكن أن يتعرض له البشر، فإنها كثيرًا ما تغيِّر رعب العصر بالدعوة إلى مواجهته والتصميم على الأمل والشجاعة إلى حد أن تُتَّهم بالإغراق في التفاؤل حين تقول لنفسها وللقارئ: «ليس تحت الشمس ما هو أجمل من أن تكون نحن الشمس!» وحين تثبت من إيمانه وعزيمته وتصميمه على التحديق في عيون الخطر والرعب المرتسم على الأفق: «خير ما تفعل/في الصباح/مع أول شعاع/هو أن تصحو/وتقف أمام السماء التي لا تتزحزح/ولا تهتم بالمياه التي لا سبيل للسير عليها/وتُرسي السفينة على الأمواج/متجهًا صوب شاطئ الشمس/الذي يعود أبدًا …»
ويتضح من هذا النص وغيره مدى تأثُّرها بفلسفة هيدجر ودعوته للسعي الجاد إلى تحقيق الوجود الذاتي الأصيل، والصمود والتصميم على ذلك في كل لحظة من لحظات حياتنا التي يتربص بها الموت الحتمي (إذ تخصَّصَت في رسالة الدكتوراه التي حصلَت عليها من جامعة فيينا عن قضية «التلقِّي» لهيدجر والنقد الذي وُجِّه إليه) وربما يزداد وضوح هذا التأثر في قصيدتها التي جعلَتها عنوانًا لمجموعتها الشعرية التالية التي أصدرَتها في سنة ١٩٥٧م وهي «نداء للدب الأكبر»، فهي في هذه القصيدة تستوحي ظاهرةً فلكية شغلَت الإنسان منذ بدأ في السماء بحثًا عن علامة تهديه إلى الطريق في البحر وعلى اليابسة؛ فالدب الأكبر الذي يجثم على الأفق يصبح هو المحذِّر والنذير، وهو الصوت الذي يحس به الإنسان إحساسًا غامضًا وإن كان لا يعرف ماذا يريد منه حين يسأله عن معنى رحلته ومصيره:
«أيها الدب الأكبر، تعال، أيها الليل الأشعث/أيها الحيوان المتدثِّر بفراء السحاب/يا ذا العيون القديمة عيون النجوم/مبرقة خلال الدغل تنفذ كفاك المزودتان بالمخالب/مخالب النجوم/يقظون نحن نرعى القطعان/لكننا مكبَّلون بسحرك، ونسيء الظن بجنبَيك المتعبين/وبالأنياب الحادة نصف العارية، يا أيها الدب العجوز/عالمكم: سدادة/أنتم: القشور فيه/أنا أدفعه، أدحرجه/من أشجار الصنوبر في البداية/إلى أشجار الصنوبر في النهاية/ أتشممه، أمتحن طعمه في فمي/وأطبق بالمخالب./خافوا أو لا تخافوا!/عدُّوا في الكيس الرنان وأعطوا/للرجل الأعمى كلمةً طيبة/حتى يمسك بالدب الأكبر على جانب الطريق/وأحسنوا تتبيل الخراف/فقد يحدث أن ينطلق هذا الدب من قيده/ويكُف عن التهديد/ويطارد كل السدادات التي تساقطَت من أشجار الصنوبر/أشجار الصنوبر العظيمة المجنحة/التي هوت من الفردوس/ …»
هكذا تخلق الكلمة والصورة الشاعرة من الدب الأكبر، ومن نظيره الأرضي الذي يسحبه رجلٌ أعمى على جانب الطريق، إحساسًا غامضًا وثقيلًا بوعد الإله ووعيده، وتذكرة للنظارة من البشر بيوم الدينونة الذي يتخوف منه الناس، وإن كان من الممكن أن يكون سبيل النجاة الوحيد لعالمنا الجديب المقفر من التراحم والتواصل والحب والانتماء للطبيعة وللإنسان.
•••
وُلدَت الشاعرة التي تألقَت كالبرق الخاطف — البرق المهول الجميل! — في بلدة كلاجنفورت بالنمسا سنة ١٩٢٦م، وماتت سنة ١٩٧٣م في مسكنها في روما في حادث حريق مؤسفٍ أليم، كان أبوها ناظرًا لإحدى المدارس، ودرسَت بعد حصولها على الثانوية (١٩٤٤م) الفلسفة وعلم النفس والأدب الألماني والعلوم السياسية في جامعات إنسبروك وجراتز وفيينا، ثم حصلَت من هذه الجامعة على الدكتوراه في فلسفة هيدجر، وتقلَّبَت بين أعمالٍ مختلفة في دار الإذاعة وتلفزيون منطقة بافاريا كمعِدَّة للبرامج الدرامية، كما تنقَّلَت بين مدنٍ مختلفة، مثل روما وزيوريخ وميونيخ وبرلين، خصوصًا بعد ارتباطها بعلاقةٍ متوترة مع الكاتب السويسري الكبير ماكس فريش (من ١٩٥٨م إلى ١٩٦٣م) وبعد حصولها على جوائز أدبية مختلفة — بدأَت بجائزة جامعة السبعة والأربعين (١٩٥٣م) وجائزة بوشنر (١٩٦٤م) وجائزة الدولة الكبرى في الأدب من النمسا (١٩٦٨م) — استقبلَت أشعارها في الديوانَين السابقَي الذكر بطُرق مختلفة وشديدة التناقض، ويبدو أنها قرَّرَت الابتعاد عن الشعر بعد فراغها من ترجمة مجموعةٍ كبيرة من أشعار «أنجاريتي» رائد الحداثة والتجديد في الشعر الإيطالي (١٩٦١م) فاتجهَت قبل ذلك بقليل وبعده أيضًا نحو كتابة التمثيلية الإذاعية (الجنادب ١٩٥٥م، وإله مانهاتن الطيِّب ١٩٥٨م) وإعداد «كتيِّبات» الأوبرات (مثل إعدادها لمسرحية كلايست الأمير فون هومبورج ١٩٦٠م، واللورد الشاب ١٩٦٥م) والكتابة القصصية (كما في مجموعة قصصها العام الثلاثون ١٩٦١م)، وقد تزايَد اتجاهُها نحو الكتابة النثرية في القصة والرواية، واهتمَّت بموضوع تدمير الأنثى تحت سطوة الرجل في ظل المجتمع الأبوي والذكوري المتسلِّط، وبدأَت ثلاثيةً روائية بعنوان «أنماط الموت» لم تتمَّ منها سوى روايتَين (حالة فرانزا التي نُشِرَت سنة ١٩٧٨م، ومالينا التي نُشِرَت كذلك بعد حادث وفاتها المفاجئة).
(راجع إن شئت عددًا من قصائدها في كتابي ثورة الشعر الحديث، وكذلك مقالًا عنها في كتاب البلد البعيد.)