إريش فريد (١٩٢١–١٩٨٨م)
بعد الريح الموسمية
مواطنة
•••
•••
اثنان يصرخان
•••
•••
•••
•••
•••
بلا دعابة
•••
كذبة السيقان القصيرة
علاقات مع قوةٍ عظمى
•••
في زمن المحنة والإملاق لا يُوجَد أثر للأخلاق
•••
الفن لأجل الفن
(١)
(٢)
إدماج
•••
سؤالٌ صغير
الوضع الراهن
الأمر سواء
•••
•••
•••
بلا تخطيط
الواقع
•••
سيادة الحرية
•••
بدلًا من التعليق
قرأتُ اسم هذا الشاعر لأول مرةٍ في حياتي بعد عدَّة شهور من وقوع كارثة النكسة المفجعة. وقعَت في يدي بمحض الصدفة إحدى المجلَّات الأدبية الطليعية التي كان يصدرها المتعاطفون مع اليسار ومع ثورة الشباب والطلاب الألمان والأوروبيين التي كانت في ذلك الحين — سنة ١٩٦٧م — قد بلغَت أوج اشتعالها وعنفوانها للخروج من فك التنِّين البيروقراطي والتسلُّطي … كان اسم المجلَّة الصغيرة الفقيرة — على ما أذكُر الآن — هو «دواة الحبر»، وكان من بين محرِّريها — إلى جانب شباب الكُتاب الذين لم أسمع عنهم — عدد لا بأس به من أصحاب الضمير الإنساني والفني الذين حصل بعضهم بعد ذلك على أسمى الجوائز المرموقة ومنها جائزة نوبل. ووقَع بصري على قصيدةٍ عنوانها «اسمعي يا إسرائيل»، فشعرتُ بأنه ما زال في الدنيا من يرفع صوته احتجاجًا على الظلم والوحشية والهمجية. وضاعف من إعجابي وإكباري لصاحبها أن أعرف بعد ذلك أنه ينحدر من أصلٍ يهودي، وأن ذلك لم يمنعه لحظةً واحدة من الصراخ في وجه أبناء ديانته وجلدته، وإدانة جرائمهم — التي ربما شاهد بعض صورها البشعة في الصحف أو على شاشات التلفاز — على الرغم من تسبيح الغالبية العظمى من المثقفين في بلده وفي أوروبا عامة بحمد إسرائيل، وتبريرهم لفظائعها إلى حدِّ التقديس، وكأن الوقوف في صفها بالحق وبالباطل هو العلامة المسجَّلة على الثقافة والتحضر، وتوجيه أي نقد إليها هو الدليل الدامغ على المروق والكفر …
نقلتُ القصيدة إلى العربية، وقدَّمتُ لها على عجَل ببعض المعلومات الشحيحة التي استطعتُ جمعها عن الشاعر الذي علمتُ أنه يعيش في المهجر في لندن منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره وقبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بعامٍ واحد. ونشرت القصيدة في مجلة «الأدب» التي كانت لا تزال تكافح بشِقِّ الأنفس للاستمرار في الظهور بعد رحيل مؤسِّسها العظيم أمين الخولي. ولمَّا كانت هذه القصيدة — التي نشرها الشاعر سنة ١٩٦٧م في ديوانه «معارك» وألَّبَت عليه عشرات النقاد وأججَت نيران عداوتهم له — لمَّا كانت في تقديري وثيقةً أدبية وتاريخية حية، وشاهدًا عدلًا على صحوة الضمير الثائر على الاضطهاد والقهر لوجه الحقيقة والحرية وحدهما، فإنني أستأذن القارئ في تقديم نصها قبل الحديث عن حياة صاحبها وخصائص شعره وفكره:
«عندما كنا مضطهَدين، كنتُ واحدًا منكم، فكيف أظل على انتمائي لكم، بعد أن أصبحتم تضطهدون غيركم؟/كان منتهى أملكم، أن تصيروا كالشعوب الأخرى، التي فتكَت بكم، وها أنتم الآن قد أصبحتم قتلةً مثلهم/لقد بقيتم أحياء، بعد أن ذهب الذين قسوا عليكم بضراوة، فهل ما زالت قسوتهم تحيا فيكم حتى الآن؟/ للمهزومين أصدرتم أوامركم: اخلعوا أحذيتكم، ومثل كبش فداء، سقتموهم أمامكم إلى الصحراء،/إلى جامع الموت الكبير/حيث نعال المصلِّين رمال/لكنهم رفضوا أن يوصَموا بالإثم الذي أردتم أن تلصقوه بهم/إن آثار الأقدام العارية على رمال الصحراء، ستبقى حية بعد أن تزول/آثار قنابلكم ودباباتكم …»
•••
وُلِد إريش فريد في العاصمة النمسوية فيينا في عام ١٩٢١م. كان هو الابن الوحيد لعائلةٍ يهودية تتألف من أبٍ وأم وجد، ويبدو أن الظروف العصيبة في مسقط رأسه قد فتحَت عينَي الصبي على مآسي العذاب الإنساني، وربما دفعَته منذ تلك السن المبكرة على الانخراط في مشكلات عصره وزمانه حتى آخر حياته، وجعلَت منه ذلك الشاعر المناضل الذي لم يخفت صوته الشعري والنثري أبدًا في مواجهة الأحداث الدامية التي جرَّبها وعاناها واضطرته بعد ذلك إلى قضاء حياته في المهجر. فقد عايش عن قربٍ ذلك اليوم الرهيب الذي سُمِّي يوم الجمعة الدموي لعام ١٩٢٧م، والثورة الأهلية التي اندلعَت نيرانها في عام ١٩٣٤م وقضَت فيها حكومة «دولفوس» بإعدام عددٍ كبير من العمال، وتزايد مشاعر العداء للسامية في النمسا بعد استيلاء النازيين على الحكم في ألمانيا ثم بعد «ضم» النمسا إلى دولة «الرايخ» في الثالث عشر من شهر مارس سنة ١٩٣٨م. وأُلقِي القبض على الوالدَين فمات الأب على أثر استجوابه من قبل الجستابو، وماتت الأم بعد ذلك في أحد معسكرات الاعتقال، واضطُر طالب المرحلة الثانوية وهو في السابعة عشرة من عمره إلى الهرب مع جدته من وجه النازي واللجوء إلى لندن التي لم يغادر مهجره فيها أبدًا بعد ذلك، باستثناء المرات المتقطعة التي كان يسافر فيها إلى ألمانيا أو النمسا أو سويسرا أو الولايات المتحدة الأمريكية؛ تلبية لدعوة أو لحضور مؤتمر أو لمتابعة نشر كتبه ودواوينه. ويروي عنه ناشره الأوحد كلاوس فاجنباخ — صاحب دار النشر المعروفة باسمه في مدينة ميونيخ — أنه هاجر إلى إنجلترا وقد عقد العزم على أن يكون كاتبًا حرًّا، وأنه سُئل من أحد رجال الجمارك أو من أحد أعضاء اللجنة اليهودية للمهاجرين عن المهنة التي سيختارها في المستقبل فأجاب الصبي في ثقة واعتزاز بالنفس: شاعرٌ ألماني …
ويضيف الناشر أن «فريد» كان يتمتع منذ صباه بذاكرةٍ صورية ونصِّية حديدية؛ فقد كانت لديه القدرة الخارقة على استعادة ذكريات صباه وشبابه؛ في المذكرات التي دوَّنَها بكل مشاهدها وتفاصيلها بمنتهى الدقة، كما كان يحفظ عن ظهر قلب عددًا ضخمًا من النصوص الشعرية لشعراء يحبهم، من أمثال هيني وأولاند وهولدرلين وتراكل، فضلًا عن الحِكم والأغنيات الشعبية التي فاضت —كما يقال — من «الفم غير المغسول» للشعب البسيط، بل وصل به الأمر إلى حدِّ أن يحفظ نصوصًا نثرية مطوَّلة، ومن أمثلتها بعض الحكايات الشعبية للكاتب فيلهلم هاوف الذي عُرِف عنه تأثره بالأدب الشرقي وحكايات ألف ليلة وليلة …
ذهب «فريد» إذَن إلى المهجر ومعه التصميم الأكيد على أن يعيش كاتبًا حرًّا ويكرِّس قلمه للدفاع عن المقهورين والمضطهَدين، ومحاربة العنصرية والفاشية والحرب والتسلُّح والظلم من أي اتجاه تهب منه الرياح المسمومة للأنظمة المستبدة والطغاة الكبار والصغار، حتى ولو كانوا من بعض نقاد الأدب الذين هاجموه بعد ذلك بضراوةٍ جارحة، واتهموا شعره بأنه شعر قتلة ومتآمرين، وشعر مهاجرين ملغزين ومخرِّبين …
وجاءت بعد ذلك، وبعد مشاركة الشاعر في ثورة الطلاب والشباب في أواخر الستينيات، وهجومه على السياسة الإسرائيلية بعد نكسة يونيو، واستنكاره لمواقف الشرطة الألمانية من مجموعات الإرهابيين والفوضويين في أوائل السبعينيات (مثل جماعة بادر ماينهوف وغيرها)، وهجماته الجدلية الساخرة على اليساريين الحرفيين، الذين اعتبروا أنفسهم الورثة الوحيدين لنصوصٍ قدَّسوها ودأبوا على ترديدها والمحافظة عليها شأن حراس الجثث والمومياوات، بعد كل ذلك النشاط الذي لا يكلُّ ولا ييأس جاءت في سنة ١٩٧٩م مجموعته الشعرية «قصائد حب» التي لقيَت نجاحًا مذهلًا وبِيع منها — كما قال ناشره الأوحد — ثلاثمائة وخمسون ألف نسخة، على الرغم من الحملات النقدية الشرسة التي وصفته — كما سبقَت الإشارة إلى ذلك — بالمهاجر الملغز وشاعر القتلة … هل كان السرُّ في نجاح هذا الديوان هو خراب الساحة العاطفية في تلك الفترة القاسية المشحونة بثورات الشباب والفوضويين والدعوة لإعادة التسلح والهجوم الضاري على الاشتراكية أثناء الحرب الباردة؟ لن نستطيع أن نحدد سببًا واحدًا؛ فالأهم من ذلك أن الشاعر السياسي قد قدم في قصائد الحب مجموعة من أرقِّ وأصدق أشعار الحب في الأدب الألماني كله …
«إن المهمة الكبرى للفن هي محاربة الاغتراب …»
والواقع أن أي محاولة لتبسيط فن «فريد» الشديد التركيب، الدائب النقد والمراجعة لذاته ولعصره المتوتر، الممعن في تجاربه وألعابه اللغوية — لا سيما للغة الحياة اليومية إلى حد نحْت كلماتٍ عجيبة لاذعة — والمستفيد من تيارات عصره وجمالياته الشعرية الحديثة (كما تجلَّت في الشعر المجسَّم أو الملموس، والشعر الملغز أو الهيرميتيكي، والقصيدة الوثائقية، وتضمين النصوص الكلاسيكية والحديثة (على طريقة المونتاج) ومعارضتها باستمرار) الواقع أن كل هذا يمنعنا من حصر دَوره الفني في إطار الشعر السياسي الملتزم وحده بدلًا من وضعه بكل تجلياته النثرية والشعرية في دائرة ما أُحب أن أسمِّيه «شعر المقاومة» بالمعنى الشامل الرحب لهذه الكلمة المعبرة عن مهمة الشعر والأدب الحقيقي منذ أن وُجِد شعر وأدب …
لقد حدد «فريد» منذ البداية مهمة حياته في السيطرة على مشاكل عصره وأوهامه وأكاذيبه عن طريق الكتابة، أو بالأحرى حتمية الكتابة، ضد الرعب والظلم والتعصب والكذب والاضطهاد والاستبداد … وعانى هو نفسه في سبيل ذلك ألوانًا من الظلم والتعذيب لم يكن أقلها وطأة ذلك الهجوم النقدي الشرس الذي تعرض له طوال حياته المنتجة، وكم عبَّر عن ألوان العذاب وسوء الحظ التي لقيها خلال رحلته الطويلة التي قضاها في مطاردة الظلم، بطريقةٍ تمزج بين دمعة العين وابتسامة الشفتين، ولكنها لا تتخلى أبدًا عن الإحساس بالرضا وبتأكيد الأمل أو بالأحرى رده إلى الذين يئسوا من الأمل …
«هذا يتعذب بنجاحه وثرائه، وذاك يتعذب بقوته وسلطته، وأنا أتعذب بالنظر إليهما كما يتعذب النهار بزحف الليل. هذا يتعذب بسبب حبه، والآخر يتعذب ببؤسه وفقره، وأنا أتعذب بالتفكير فيهما كما تتعذب الحياة بالموت الوشيك. هذا يتعذب بجشعه وطمعه، وذاك بتلذذه واستمتاعه، وأنا بعجزي عن مساعدتهما، كما يتعذب القلب بالقفص الصدري …»
لقد عاش «فريد» وأبدع لهدفٍ واحد هو تحقيق مهمة حياته، وقوام هذه المهمة كما حددها في قصيدة بهذا العنوان (١٩٨٣م) هي مطاردة الظلم حيثما أحس بوجوده:
«أن تلهث وتتعثر وأنت تطارد الظلم كما أفعل، شيء يمكن أن يملأ نفس أي إنسان بالرضا العميق، ولمَّا كنتُ أحس به دائمًا في الجو وأضعه على الدوام نصب عيني، فقد يساعدني ذلك على اتِّقاء شره في الوقت المناسب، أضف إلى ذاك سمعتي الطيبة التي اكتسبتُها كواحد من طلائع المكافحين للظلم، هذه السمعة الطيبة هي في الحقيقة شيء له قيمته ووزنه، وسوف تظل مرتبطة باسمي لوقتٍ طويل، ولهذا فأنا أشعر شعورًا حقيقيًّا بأنني مدِين للظلم بالشكر الجزيل، وماذا كان يمكنني بدونه أن أفعل بالبقية الباقية من حياتي؟»
هل كان من سوء حظه أم من حُسنه أن يلقى ما لقي من ظلم واضطهاد وهو يطارد الظلم والاضطهاد؟ لا شك أنه قد استطاع — بلغة الجدل — أن يقوم «برفع» سوء الحظ عن طريق التعبير عنه بكلماتٍ شعرية مفهومة ومتسقة ومؤثرة على كل من يقرؤها، ولا بد أنه اكتشف في النهاية أن التعبير عن سوء الحظ تعبيرًا شعريًّا جميلًا ومؤثرًا هو في حد ذاته نوع من الحظ السعيد …