المصارع المحتضر
(١)
(٢)
التمثال من المرمر، محفوظٌ في متحف الكابيتول بروما، والمصارع يحتضر. تميل الرأس إلى أسفل وتنظر العين المغمضة إلى الدم المتدفق الزاحف كالقدَر المعتم. أين الجرح الذي أصابه وأين الطعنة الدامية؟ لعلها في الجانب الأيمن من القفص الصدري وتحت الثدي الأيمن مباشرة، أو لعلها اخترقت الأحشاء بالنصل الناصع القاطع فتلوَّت ثنيات البطن من الألم. هل هو راضٍ مستسلم، مقتنع بفوات الوقت وقرب الموت؟ لا شك أنه صارَع ونازَل غريمه وثبت له في الضرب والطِّعان، ولا بُد أنه انتزع الإعجاب والتصفيق من أيدي النبلاء والكبراء والحِسان الفاتنات والفقراء والرعاع، لكن الشجاعة لم تنجه من شباك المكر والحيلة، فالتفَّت الخيوط حول الأسد المهزوم الذي ينتظر مصيره المحتوم ويتأمل سيفه الراقد أمامه، آخر ما تقع عليه عيناه قبل أن تخذله الذراع التي يستند إليها في لحظته الأخيرة. لأي شيء كان الصراع الذي فرضه السادة عليه؟ لأي هدف؟ هل حمل الدرع، ورفع السيف، وراح ينازل ويبارز من أجل قضية؟ هل كان يثأر لجرحٍ قديم أم ينقذ سمعةً مهددة؟ وماذا يفيده تحليل العلل والأسباب بعد أن حاصره الصمت وتراءى لعينيه المغلقتين شبح الموت؟ كل ما يتذكره الآن أن الأبواق الداعية للنزال قد ترددت في أذنيه، وأنه أخذ يهوي بسيفه على خصومه واحدًا بعد الآخر، ومع كل انتصار يسقط عدو ثم يظهر عدو جديد يظل يجالده ويراوغه ويهاجمه ويتراجع عنه ويتقدم إليه حتى يسقط بدوره فيضج هواء الساحة، المُثقَل بالخوف والصمت والترقُّب، بالتصفيق والهتاف. راحت شموع القوة تنطفئ في صدره واحدة بعد الأخرى، لكن الحياء كان يغلق فمه، والإصرار يحرك ذراعه ويده فيواصل النزال والصراع حتى يمتلئ القلب بمرارة السأم، ويتذوق الفم طعم التراب والعدم إلى أن استقرَّت الحربة في الصدر المنهوك، وهوى في دمه النازف فوق الدرع الصامد، وسقط السيف من يده وسط صيحات التهليل والتحذير والتشجيع والنداء.
ويمدد على الأرض جسده الطعين، ويثبِّت نظرته الجادة على الدم المنسكب من العمق الجريح، وتبتعد الأصوات وتتماوج الأصداء وتتوارى أشباح اللحظات المجيدة كالخفافيش الهاربة في عتمة كهفٍ مظلم. ويميل برأسه وهو يحتضر، وتتعلق العيون بالوجه المنحني على الجرح تطالع في قسماته آثار الغضب والخجل والتحدي المكسور الجناح والكبرياء المقهور والصمود الذي يشيِّع نفسه بنفسه إلى مرفأ السكينة والصمت والتسليم … وفي النهاية لا يبقى إلا الصمت والانتظار، وأصداء أصوات حشود الرومان الذين هللوا قبل قليلٍ بانتصاره ثم أخذوا الآن يستمتعون بمتابعة مشهد احتضاره … ولا يبقى للمصارع الشريف إلا أن يحرص، حتى في موته، على أن يسقط بشرف …
والقصيدة الأولى للشاعر الألماني باول هايزه (١٨٣٠–١٩١٤م) الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب عام ١٩١٠م، وكان بذلك أول أديب ألماني يحصل عليها … ولا بُد أن الشاعر قد رأى التمثال في روما خلال إحدى رحلاته العديدة إلى إيطاليا، وفي سياق اهتمامه بالآداب الرومانية — لا سيما الإيطالية والإسبانية — التي تخصص فيها وترجم كثيرًا عنها …
أما القصيدة الثانية فهي للشاعر السويدي إريك ليند يجرين (١٩١٠–١٩٦٨م)، كتبها سنة ١٩٤٧م، ونُشرَت مع قصائده التي ظهرَت سنة ١٩٦٢م في مدينة استوكهولم.