جلالة الملك كارول ومدام ماجدا لوبيسكو
الغرام الأول
كان أول من تعلق بها الملك كارول الثاني ملك رومانيا هي السيدة زيزي لامبرينو، وقد تم الزواج بين الاثنين في عام ١٩١٨، وكان الملك لا يزال إذ ذاك الأمير كارول ولي العهد.
وقد أزعجت هذه العلاقة المرحوم الملك فرديناند، والد الملك كارول، واشتد غضبه لما بلغه نبأ الزواج الذي تم بين ابنه وبين السيدة لامبرينو، وأمر بإلغاء هذا الزواج. وذهب سماسرة البلاط والحكومة يعرضون على تلك السيدة مبلغًا كبيرًا من المال مقابل أن تتنازل عن الزواج، إلا أنها رفضت ذلك بتاتًا. وظل الأمير كارول مدة من الزمن على إخلاصه لهذه السيدة، وما لبث بعد ذلك أن ملَّ الحياة إلى جانبها، وأدرك أنه قد تورط في هذا الغرام، فرحل إلى الخارج بعيدًا عنها.
وقد ضيق الخناق على الأمير كارول بعد إعلان خبر هذا الزواج؛ إذ إنه خالف عندما عقده القانون العسكري الذي كان يخضع له؛ وذلك لأنه غادر بلاده إلى مدينة أودسا حيث تم الزواج دون الحصول على إجازة رسمية، كما قرر رجال الفقه بطلان هذا الزواج من الوجهة القانونية.
وقد كان لزواج الأمير كارول من السيدة زيزي لامبرينو ثمرة؛ هي غلام صغير اسمه الأمير مرسيا، وتحب أمه دائمًا أن تناديه باسم «برنس» أو أمير، وهي تعيش معه في الوقت الحاضر في إحدى المدن الفرنسية الصغيرة حيث يذهب الغلام إلى المدرسة مثل أي غلام آخر من أبناء الشعب.
وقد حدث في عام ١٩٣٦، لما وصل جلالة الملك كارول إلى باريس قادمًا من لندن، بعد أن اشترك في تشييع جنازة الملك جورج الخامس، أن ظنَّت السيدة زيزي لامبرينو أنها ربما تمكَّنت من إعادة علاقتها بجلالته؛ ولذلك أسرعت بالسفر إلى باريس للقائه، ولكنه رفض مقابلتها هناك ولم توفق في محاولتها.
الزواج
وفي عام ١٩٢١، تزوج الأمير كارول من الأميرة هيلانة اليونانية، ابنة الملك قسطنطين وشقيقة الملك جورج الثاني، الملك الحالي، وهي التي خلفت له الأمير ميشيل أو ميخائيل، ولي عهد رومانيا الحالي.
التنازل
ولما توفيت الملكة ألكسندرا في أواخر عام ١٩٢٥، سافر الأمير كارول ليشهد حفلة جنازتها، ولكنه لم يعد بعد ذلك إلى رومانيا، ولم يجتمع بأفراد أسرته في عيد الميلاد، وإذ ذاك لم يعد في الإمكان إخفاء الحقيقة عن الجمهور؛ فأعلن في يوم ٣١ ديسمبر سنة ١٩٢٥ أن الأمير يرفض العودة إلى بلاده، وأنه لا يزال في ميلان.
وأرسل إليه والده الملك فرديناند رسولًا يحضه على إنعام النظر في واجبه نحو أسرته وزوجته وبلاده، والعودة لاستئناف أعماله كولي العهد، ولكن الرسول عاد يحمل كتابًا من الأمير كارول، وفيه يعلن قراره الأخير؛ وهو التنازل عن حقوقه في وراثة العرش، وفي جميع الامتيازات التي له كعضو من أعضاء الأسرة المالكة. وقد نادى الملك — بعد أن وافق على تنازله — بحفيده الأمير ميخائيل الصغير وليًّا للعهد، وكان لا يزال إذ ذاك في الرابعة من عمره.
وقد حاول بعض الكتاب إذ ذاك، كما حاولوا عند تنازل الملك إدوارد الثامن عن عرش إنجلترا، أن يقحموا السياسة في الموضوع، فقالوا: إن لتنازل الأمير كارول صلة بتجهيز مصلحة الطيران الرومانية بطائرات جديدة؛ إذ كان ولي العهد بصفته رئيسًا لهذه المصلحة قد أوصى على طائرات ومحركات في مصانع دولتين من الدول الأجنبية، على الرغم من معارضة المصلحة نفسها التي كانت تريد أن توصي على الطائرات والمحركات في مصانع دولة أخرى، وقيل: إن الذي حدث بعد هذا هو أن طيارًا من خيرة الطيارين الرومانيين قتل وهو يقوم بتجربة إحدى الطائرات الجديدة، فعُدَّ الأمير مسئولًا وانتُقد تصرفه؛ إذ قيل: إن محركات الطائرات التي أوصى على صنعها بنفسه لم تكن من طراز جيد، وطلب المسئولون في السلاح الجوي إجراء التحقيق، وعارض الأمير في ذلك، ولكن الوزارة لم تعبأ بمعارضته.
ولكن ظهر فيما بعد أن السياسة لم تكن ذات شأن كبير في الموضوع، وأن الأمير لم يتنازل إلا تلبية لنداء القلب. وقد وافق المجلس الوطني في رومانيا على تنازل الأمير كارول عن العرش بأكثرية ٢٣٤ صوتًا ضد ٣ أصوات، وأعلن أن الأمير ميخائيل أو ميشيل هو ولي العهد، وتألف مجلس للنيابة عنه ضم البطريرك الأرثوذكسي، والأمير نقولا — عمه — ورئيس محكمة النقض والإبرام.
وفي يوم ٤ يناير من عام ١٩٢٦، وصل رسول خاص من البندقية إلى بوخارست يحمل كتابًا من الأمير كارول يكرر فيه نزوله عن حقه في العرش، ويعرب عن رغبته في اتخاذ اسم «سكاريات موناسترياتو». وهو اسم مشتق من أملاكه في موناسيير.
وقد حمل الرسول خطابًا خاصًّا من الأمير إلى قرينته الأميرة هيلانة كان مملوءًا بالعبارت المؤثرة الرقيقة، وقد أبلغها فيه أنه قطع علاقته الزوجية بها، وأنه يتنازل عن سلطته الأبوية على ابنه الأمير ميشيل ولي العهد، وأنه يصرح لها أن تطلب الطلاق منه! ويقال: إن الأميرة هيلانة أصيبت بالإغماء لما قرأت هذا الخطاب، وقالت: إنها لا تعرف السبب الذي يدفع زوجها الأمير كارول إلى هذا التصرف.
وروي أنه لما عقد مجلس العرش للنظر في تنازل الأمير كارول كان الملك مغمومًا، حتى لقد خشي أن يصاب بمكروه؛ ولذلك لم يتقدم أي واحد من أعضاء هذا المجلس بسؤال أو استيضاح عن تصرف الأمير.
وقيل إذ ذاك: إن من بين الأسباب التي دفعت الأمير كارول إلى التنازل الخلاف الشديد الذي استحكم مدة طويلة بينه وبين والده الملك فرديناند، وأنه لذلك قد يتولى عرش المجر الذي عرضه عليه بعض الوطنيين في تلك البلاد، ولكن لم يحدث شيء من هذا، وما لبث الأمير كارول أن رحل عن إيطاليا إلى إنجلترا، ثم إلى فرنسا؛ حيث عرف أنه يعيش مع اليهودية الحسناء ذات الشعر الأحمر: ماجدا لوبيسكو.
ولما تنازل الأمير كارول عن العرش تعهد ألا يعود إلى رومانيا قبل انقضاء عشر سنوات على تنازله، وأنه حتى بعد هذه المدة يجب أن يطلب ترخيصًا بالعودة من الملك.
عهد الملك الصغير
ولما توفي الملك فرديناند في ٢٩ يوليو من عام ١٩٢٧، انتقل العرش إلى حفيده الأمير ميخائيل ابن الملك كارول «الحالي»، وقد أسرع رجال البلاط الملكي الروماني إذ ذاك بإتمام إجراءات تتويج الملك الصغير؛ خوفًا من عودة والده وتعرض البلاد للخطر والفتن.
وقد توج الملك ميخائيل في الأسبوع الأخير من شهر يوليو عام ١٩٢٧، حيث اجتمع البرلمان الروماني في شكل مؤتمر، وأقيمت في صدر قاعة الاجتماع منصة عالية جلس عليها مطران بوخارست. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، نهض رئيس مجلس الشيوخ وأعلن وفاة الملك فرديناند، وتولى الأمير ميخائيل المُلْك، وفي تلك اللحظة دخل الأمير ميخائيل من باب القاعة وقد أمسك بيد أمه الأميرة هيلانة التي هجرها والده، فقوبلا — الابن والأم — بهتاف شديد رددت جوانب قاعة الاجتماع صداه. وكان الأمير الصغير، وهو في الخامسة من عمره، يرتدي ملابس البحارة البيضاء اللون.
ولما ساد الهدوء في القاعة أعلن أعضاء مجلس الوصاية أنهم يقبلون إدارة شئون المملكة بالنيابة عن الملك الصغير، ثم أقسموا يمين الإخلاص لجلالته، وأعلنوا بعد ذلك ثقتهم بالوزارة القائمة، وعدم قبولهم استقالتها.
وعاد الملك الطفل بعد ذلك إلى القصر الملكي مع الأميرة والدته، وكانت الجماهير المحتشدة تقابله بحماس عظيم، ولما وصل إلى جناحه الخاص بالقصر سأل أمه قائلًا: لقد كان كل ما رأيته بديعًا، ولكن لماذا كان الجميع يبكون؟
وكتمت أمه حزنها العظيم الذي كان الطفل لا يدرك سببه الحقيقي، وقالت له: إنهم يبكون جدك الذي مات.
فأطرق الصغير لحظة ثم سألها: ولماذا لم يعودوا ينادوني منذ أمس بيا صاحب السمو الملكي كما كانوا يفعلون قبلًا؟
فأجابته: لأنك صرت الملك ميخائيل، وأصبح واجبًا عليك أن تكون شريفًا كثير الجد.
فسألها الولد محزونًا: ولكن أخبريني يا أماه: هل ستمنعونني من اللعب بلعبي بعد اليوم؟
•••
وقد ساد التنافس بين الأحزاب في إبان حكم الملك الصغير كما هي العادة، وأهملت المرافق الحيوية للبلاد، وأخذ جميع العقلاء والزعماء يوجسون خوفًا على مستقبل رومانيا، ويتطلعون إلى الرجل الذي يمكنه إنقاذ البلاد من حالة الفوضى التي تردت إليها.
ولم يكن ذلك الرجل البعيد عن بلاده، ولم تكن السيدة التي إلى جانبه، لم يكن أحدهما غافلًا عن الحالة وعما يدعو الواجب إلى عمله.
العودة
على الرغم من تعهد الأمير كارول بعدم العودة إلى رومانيا قبل انقضاء عشر سنوات على تنازله، وبدون الحصول على تصريح من الملك، حدث في يوم ٧ يونيو من عام ١٩٣٠، أن وصل سموه على متن طائرة فرنسية إلى كلوزنبرج في مقاطعة ترنسلفانيا، فاستقبله لفيف من الضباط بمظاهر الحماسة ورحبوا به، ومن كلوزنبرج استقل طائرة رومانية نقلته إلى بوخارست العاصمة، ومن مطار بوخارست ركب سيارة إلى القصر الملكي. وكان أفراد الشعب قد عرفوا بعودته فاجتمعوا في الطرقات وهتفوا له بحماس شديد! ولما وصل إلى القصر استقبله الحرس الملكي استقبالًا وديًّا، وعانقه شقيقة الأمير نيقولا عضو مجلس الوصاية على العرش.
وقد دبرت عودة الأمير كارول إلى عرش رومانيا تدبيرًا محكمًا، ووضعت خططها بعناية وحذر، وقد انتشر نبأ عودته في جميع أنحاء البلاد بسرعة البرق. ولما بلغ مسامع النواب في مجلسهم تعالى هتافهم. وكل ذلك لأن الشعب كان قد ملَّ حالة الفوضى وتنازع الأحزاب على الحكم، والفساد السياسي الذي أخذ في الانتشار، واعتبر الأمير كارول لذلك منقذ البلاد، كما انضم الجيش إلى جانبه.
وتمهيدًا لعودة الأمير كارول أبلغ أصدقاءه في فرنسا قبل خمسة أيام من تاريخ عودته أنه قد قطع علاقته بالسيدة ماجدا لوبيسكو التي كان يقيم معها في قصره بمقاطعة نورمنديا. وقد نشر أصدقاؤه الخبر الذي كان له أحسن الأثر في رومانيا، وكان من العوامل التي ساعدت على ترحيب الشعب به.
وكان رئيس الوزراء، المسيو مانيو، والأمير نيقولا يعلمان بموعد وصوله إلى العاصمة؛ ولذلك وقفا عند باب القصر الملكي لاستقباله عند وصوله، وكان معهما مدير البوليس. أما والدته الملكة ماري فلم تكن تعرف شيئًا عن عودته؛ ولذلك فإنها كانت قد اجتازت الحدود الرومانية عند منتصف الليل في طريقها إلى «أوبرمرجاو»؛ حيث تمثل رواية آلام المسيح في كل عام.
وأما زوجته الأميرة هيلانة، فلم تشأ أن تضع العراقيل في طريقه، أو بالأحرى لم يكن في وسعها أن تفعل ذلك، ولكنها لم تخف ميلها إلى عدم استئناف الحياة إلى جانبه.
وقد اختلف أعضاء وزارة المسيو مانيو بشأن الخطة التي يجب على الوزارة أن تتبعها إزاء عودة الأمير كارول، ولما اشتد الخلاف استقالت الوزارة، وقبل مجلس الوصاية استقالتها، وكلف المسيو ميرونسكو، وزير الخارجية في الوزارة المستقيلة، بتأليف الوزارة الجديدة في الحال، فألفها بعد ساعة واحدة من استقالة وزارة المسيو مانيو.
وفي يوم ٨ يونيو، اجتمع كل من مجلسي النواب والشيوخ على حدة، وقررا إلغاء وثيقة تنازل الأمير كارول عن العرش، وعيَّن الملك ميخائيل وليًّا للعهد؛ فصار أميرًا من جديد.
لم آت للثأر من أحد! ولكني أود أن أؤلف بين قلوب جميع أفراد الشعب الذين يريدون أن يتعاونوا معي في سبيل ترقية البلاد.
إنني مصمم على حفظ البلاد من الانقسام، ولهذا الغرض يجب الحصول على معاونة جميع العناصر الحية في البلاد، وبدون الاتحاد لا يمكن أن نظهر أمام حسادنا أمة قوية يسهر عليها جيش منظم يحمل أحدث الآلات العصرية.
وقد تمت جميع هذه الحوادث في خلال ٤٨ ساعة، وقيل: إن الملك بعد أن استتب له الأمر حاول إزالة الخلاف بينه وبين الأميرة هيلانة، وقيل: إن الأميرة هي التي رفضت الصلح، وصممت على عدم العودة إلى مطلقها الملك، فلم يسع هذا الأخير إلا أن ينزع عنها ابنها ولي العهد؛ ليشرف على تربيته ودراسته بنفسه. وقد كان انتزاع الأمير الصغير من أحضان والدته مؤثرًا للغاية؛ إذ إنه أذرف الدمع وكرر أنه لا يريد مفارقة أمه! ولكن والده وعده بأنه لن يحرمه من رؤية والدته من وقت لآخر.
وقد تأكد الناس أن علاقة الملك كارول بالسيدة ماجدا لوبيسكو لم تقطع؛ إذ ما لبثت الأخبار أن جاءت من فرنسا تقول: إن السيدة قد غادرت قصر نورمنديا، وأنها تنوي السفر إلى سويسرا، ومنها إلى بوخارست.
الصديقة المخلصة
بعد أن عاد الملك كارول إلى العرش الروماني شغلت أوروبا كلها بالحديث عن ماجدا لوبيسكو، وخاصة بعد أن رفضت زوجه الأميرة هيلانة اليونانية أن تعاشره من جديد، وقنعت بأن ترى ابنها المحبوب الأمير ميخائيل في فترات متقطعة من كل عام، بعد أن كانت لا تفارقه لحظة واحدة مدة غياب والده خارج البلاد.
وبعد أن غادرت الأميرة هيلانة بوخارست، العاصمة الرومانية، حضرت إليها ماجدا لوبيسكو، وكان الملك قد أعد لها قصرًا فخمًا تعيش فيه كما تعيش الملكات؛ إذ أحاطها جلالته بجميع مظاهر العظمة، وكان يلبي جميع طلباتها حتى قيل عنها: إنها القوة الخفية وراء العرش؛ مما أدى إلى كراهية حزب «الحرس الحديدي» لها، هذا فوق أصلها اليهودي الذي جرَّ عليها نقمة هذا الحزب أيضًا؛ إذ من بين مبادئه مناهضة نفوذ اليهود في رومانيا؛ لأنه يتهمهم بتدبير مقتل رئيس الوزراء المسيو دوكا.
وقيل: إن القصر الذي تعيش فيه ماجدا لوبيسكو في بوخارست كان يحوي آلة تليفون في كل غرفة حتى غرفة الحمام؛ وذلك حتى لا تجهد السيدة نفسها إذا شاءت أن تتحدث من إحدى الغرف بالانتقال إلى مكان التليفون.
ويقال: إن إحدى آلات التليفون كانت تتصل رأسًا بحجرة الملك الخاصة في القصر، حتى يستطيع جلالته أن يتحدث إليها في أي وقت دون وساطة «السنترال»، وبغير أن يمكن لأي إنسان أن يستمع للحديث.
وكان قصرها محاطًا بالحرس والبوليس السري؛ وذلك لأنها مطمح المصورين والرسامين والصحفيين الذين يقصدون القصر في كل صباح لكي يفوزوا بصورة أو حديث، فكانوا يعودون خائبين.
وتمتاز ماجدا لوبيسكو فوق جمالها الفتان بذوقها السليم، وحسن اختيارها للملابس، وحبها للماس والفراء والسينما.
وهي شديدة الإخلاص للملك حتى إنها ترفض الظهور معه في أي حفلة من الحفلات؛ ولذلك كثيرًا ما كانت تتخفى في ملابس خاصة، وتجلس بين أصدقائها وصديقاتها في مكان منعزل أثناء تلك الحفلات ترقب تحية الجماهير لمولاها وقد انبسطت أسارير وجهها فرحًا، وامتلأت نفسها فخرًا وزهوًا بصداقة جلالته التي أنعم بها عليها، وهي تقنع بهذا كله وهي في ركنها دون أن يلحظها أو يعرفها أحد.
اذكري هيلانة!
في أواخر عام ١٩٣٤، اتهم الرومانيون ماجدا لوبيسكو بتضخم نفوذها في البلاط، وأخذ حزب الحرس الحديدي يفكر فيما عساه أن يفعل لكي يخلص البلاد من نفوذها؟
وقد أخذ أعداؤها يدبرون الدسائس والمؤامرات حتى قيل: إنهم أرسلوا إليها تهديدًا بالقتل، اضطرت على أثره أن تغادر قصر الملك كارول الصيفي في ضاحية سينايا الذي كانت تتردد عليه من وقت إلى آخر، وأصبحت حياتها تعسة جدًّا بعد ذلك؛ إذ كانت كلما ظهرت أمام الجمهور في مجتمع من المجتمعات، أو مسرح من المسارح، تعالت الصيحات في وجهها تصم الآذان، وهي تنادي بها: «اذكري هيلانة! اذكري هيلانة!»
كانت هذه صيحة الأعداء الذين اتخذوا من زوجة الملك السابقة الأميرة هيلانة رمزًا للحق والطهر والعفاف ضد سلطان ماجدا لوبيسكو. وكانت هذه الصيحات تلاحقها في كل مكان، وكثيرًا ما كانت تفتح الغطاء وهي تجلس على مائدتها لتناول الطعام فتسقط منه ورقة عليها: «اذكري هيلانة!» كما أنها قد تركب سيارتها فتجد بها ورقة مطوية، ولكنها لا تقرؤها بل تقذف بها من النافذة توًّا؛ وذلك لأنها تعلم جيدًا ما بها.
وأغرب ما حدث لها هو أنها كانت تستمع للراديو في ذات مساء وهي في منزلها، فإذا بالنغمات الموسيقية التي كانت تصغي إليها تقطع فجأة، وإذا بها تسمع الراديو يصيح بها: «اذكري هيلانة!»
ولم تلبث الموسيقى أن عادت بعد لحظة.
وهكذا كان ذلك الإنذار يلاحقها أينما ذهبت حتى لم تجد بدًّا من أن تغادر البلاد في رحلة إلى الخارج، رافقها في خلالها المسيو ديمتريسكو، سكرتير الملك كارول.
وقيل بعد ذلك: إنها تزوجت من المسيو أنتونيانو الذي كان الياور الخاص للملك كارول، وأن الزواج قد تم في المفوضية الرومانية في فيينا، طبقًا للطقوس الدينية المسيحية الأرثوذكسية، وأن شاهدي الزواج كانا محافظ بوخارست وأحد ضباط الجيش الروماني العظام.
ولما كان المسيو أنتونيانو من أمهر حملة السيف في رومانيا، فقد خرست الألسنة التي طالما تكلمت عن مدام ماجدا لوبيسكو؛ لما عرف أصحابها أن المتكلم عن ماجدا بعد ذلك إنما يتكلم عن مدام أنتونيانو المبارز المشهور.
في فرنسا
وفي أوائل عام ١٩٣٦، سافر بعض الملوك إلى لندن للاشتراك في تشييع جنازة المرحوم جورج الخامس، وكان من بين الذين سافروا الملك كارول؛ نظرًا للصلات القائمة بين الأسرة المالكة في إنجلترا والأسرة المالكة في رومانيا عن طريق الملكة الوالدة ماري في رومانيا.
وانتهز الملك كارول فرصة عودته عن طريق باريز والتقى بالسيدة ماجدا لوبيسكو، وكان لم يرها منذ أن سافرت إلى فيينا، وقضى الملك كارول عطلة نهاية الأسبوع معها بعيدًا عن باريس وصخبها بما يزيد عن مائة وعشرين ميلًا، ولم يصحب معه في هذه الرحلة سوى اثنين من أشد أخصائه إخلاصًا له، وترك باقي رجال الحاشية في باريز.
واحتاطت الحكومة الفرنسية لهذه الزيارة؛ فأحاطت القصر الريفي الذي نزل فيه الملك مع مدام ماجدا لوبيسكو برجال الحرس الذين كانوا يمنعون أي شخص من الاقتراب، كما أنها أرسلت ستة من أمهر رجال البوليس السري لكي يتبعوا الملك ليل نهار ما دام في داخل الحدود الفرنسية. وقد لاقى هؤلاء المساكين أعظم المشاق في سبيل أداء واجبهم على الوجه الأكمل؛ وذلك لأن الملك أصر على أن يكتم عنهم خبر رحلته إلى الريف الفرنسي مع السيدة ماجدا لوبيسكو.
ففي اليوم الذي حدده الملك لانتقاله إلى الريف، خرج في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر تاركًا وزراءه يوقِّعون على اتفاقية تجارية مع الحكومة الفرنسية، وارتدى هو بذلة عادية، ووضع ملفعة حول عنقه، ثم غادر الفندق من بابه الخلفي، وركب سيارة أحد أصدقائه، وكانت تحمل رقمًا إنجليزيًّا.
واعتقد الملك أنه تخلص من رجال البوليس السري، ولكن لم تمض عليه دقائق وهو في الطريق حتى رآهم قد لحقوا به؛ فأرسل إليهم كبير أمنائه يقول لهم: إن جلالة الملك يكون شاكرًا جدًّا لو أعفيتموه من متابعته اليوم؛ وذلك لأنه يريد أن تبقى رحلته هذه سرًّا خاصًّا.
وكان هذا كل ما يتمناه رجال الشرطة، ولكن الأوامر التي صدرت إليهم كانت صريحة لا تقبل التأويل، فأصروا على متابعة الملك إلى حيث التقى بمدام ماجدا لوبيسكو، وكانت تضع حجابًا كثيفًا على وجهها.
وانطلقت بهما السيارة بأقصى سرعتها، وسيارة البوليس السري تلاحقها حتى وصلت الاثنتان بعد الساعة السابعة بقليل إلى القصر الريفي القائم على مقربة من قرية «بيلام»، على الرغم من أن الملك حاول في الطريق أكثر من مرة أن يضلل سيارة البوليس.
الأمير
وانتشر خبر وصول «الأمير» بسرعة في تلك القرية. ونقول «الأمير» لأن سكان القرية ما يزالون يعرفون جلالة الملك كارول باسم «الأمير»، وذلك لأنهم يطلقون عليه هذا اللقب منذ كان أميرًا تخير هذا القصر البعيد للإقامة فيه إلى جانب من يهوى قلبه.
وقد سُرَّ سكان القرية بوجود «الأمير» بينهم من جديد يستعيد ذكريات الماضي العذبة أو المرة، وكان أكثرهم سرورًا التجار الذين وصلت إليهم الأوامر بإرسال ما يحتاج إليه القصر.
وفي المساء ذهب عمدة القرية يرحب بالملك!
ولكن لم يغادر الملك أو مدام ماجدا لوبيسكو القصر مدة وجودهما في القرية.
إلى بوخارست
والظاهر أن الأيام التي قضاها الملك في باريز مع السيدة ماجدا لوبيسكو أثرت على جلالته وعليها، حتى إنه لم تمض مدة قصيرة بعد رحيل الملك حتى لحقت به السيدة إلى بوخارست من جديد، وأقامت في «الفيلا» الخاصة به بضواحي العاصمة.
وكانت شَجاعةً عظيمة منها؛ إذ ما كادت تعود حتى بدأ نسج المؤامرات من جديد في بوخارست، وعقد حزب الحرس الحديدي اجتماعًا وضع فيه قائمة بمن تدعو مصلحة البلاد إلى التخلص من حياتهم بسرعة، وكان في رأس القائمة اسم ماجدا لوبيسكو، أو «مدام دى بومبادور» البلقان كما شاءوا أن يطلقوا عليها.
واتصل خبر المؤامرة برجال البوليس الروماني، فقبضوا على بعض المشتبه فيهم، أما ماجدا لوبيسكو فلم تُظهر أقل اهتمام بالمؤامرات والدسائس التي تحاك لها، بل بالعكس، كثيرًا ما تمتعض مما يتخذه البوليس من احتياطات للمحافظة عليها.
المستشارة الحسناء
وتتناول السيدة ماجدا لوبيسكو الغداء على المائدة الملكية في كل يوم، وهي تزور الملك بعد أن يكون قد انتهى من مقابلاته الرسمية، كما أنهما يتناولان العشاء معًا مرتين كل أسبوع، وبعد العشاء يلعبان الورق مع بعض الأصدقاء، أو يشهدان رواية سينمائية في القصر.
والملك يستشيرها في شئون الدولة كما يستشير الرجل أقرب النساء إليه وأخلصهن له، وليس حقيقيًّا ما تتهم به من أنها تتداخل في كل شيء، بل الحقيقة أن الملك إذا استشارها في شأن من الشئون لا تتردد في إبداء رأيها، وهو الرأي الصواب في أغلب الأحيان.
وفي الأوقات التي لا تكون فيها ماجدا لوبيسكو مع الملك كارول تلازم أصدقاءها، وتتناول العشاء خارج منزلها، وتذهب لمشاهدة التمثيل. كل هذا والبوليس السري يلازمها.
وهي تقوم بكثير من أعمال الخير في السر والجهر؛ مما يجعل الجمهور يميل إليها.
ويقولون: إن جلالة ملك رومانيا أصبح لا يستغني عن مشورتها، كما أن عدد الرومانيين الذين يعتقدون أن رومانيا نفسها أصبحت لا تستغني عن خدمتها السياسية، وأنها قوة كامنة من وراء التاج، يزداد باستمرار.
من هي مدام لوبيسكو؟
أوشكت أن تبلغ الأربعين من عمرها، ومع هذا تبدو أصغر سنًّا من حقيقتها بكثير، وهي تتميز بشعر أحمر اللون.
ويقال: إن السر في قوة هذه السيدة شخصيتها الساحرة، ومقدرتها السياسية التي لا ينكرها عليها أعداؤها أنفسهم، وانقسام معارضيها في الرأي على أنفسهم.
وهي مشهورة بأنها أكثر سيدات بوخارست الجميلات أناقة ورشاقة، كما أن مجموعة حليها قد بلغت قيمة التأمين عليها ٥٠ ألفًا من الجنيهات! وقد قدم لها الملك قطعًا كثيرة من هذه الحلي.
ويقال: إنها في المدة الأخيرة أصبحت محبوبة من أفراد الشعب، وأنها قد بدأت تضع أصبعها في كثير من الشئون المالية والحربية التي تهم المملكة بأسرها، كما أن سخاءها مع الفلاحين جعلهم يرحبون بها في كل مقاطعة تنزل بها.
تلك هي المرأة التي يتضخم نفوذها يومًا بعد يوم في بلاد البلقان، حتى أصبحت تستحق لقب دي بومبادور.
ويكفي فخرًا لها أنها أفلحت في المحافظة على حب الملك ١٤ عامًا متتالية.