ماري ملكة اسكتلندا واللورد بوثول
إلى اسكتلندا
نشأت ماري، ملكة اسكتلندا، في البلاط الفرنسي في الوقت الذي اشتهر فيه هذا البلاط بالمجون والفساد؛ فأثر عليها ذلك تأثيرًا سيئًا. وقد زفت إلى ولي عهد فرنسا، ابن هنري الثاني، قبل أن تبلغ السابعة عشرة من عمرها، وكان هو في الخامسة عشرة من عمره. وقد نقلت بمعاهدة الزواج تاج اسكتلندا إلى ملك فرنسا في حالة وفاتها دون ولد، ويقال: إن ماري كانت لا تميل إلى زوجها، بل إنها كانت تحتقره؛ نظرًا لمرضه الذي ما لبث أن قضى عليه بعد عام واحد من توليه عرش فرنسا في عام ١٥٥٩.
وفي نفس الوقت، توفيت في اسكتلندا الملكة الوالدة ماري جيز، فتولى الحكم نفر من النبلاء كثير التنازع؛ مما كان يستدعي ضرورة انتقال الملكة الصغيرة إلى هناك.
وانتقلت الملكة ماري من فرنسا إلى اسكتلندا وفي حاشيتها الشاعر الإيطالي ريزيو، الذي كان ينظم لها المديح وقصائد الغزل، ويغنيها لها على قيثارته بصوت جميل، وكانت الملكة تعجب بريزيو وأدبه وصوته وإخلاصه، كما كان هو أشبه بالكلب الأمين في ولائه لسيدته الملكة.
وبعد وصول الملكة إلى اسكتلندا بمدة قصيرة لاكت بعض الألسن اسمها مقرونًا باسم أحد النبلاء الشجعان، وهو اللورد بوثول، وكان مشهورًا بالدعابة والقوة. ولما كان من الضروري أن تتزوج الملكة حتى تجد إلى جانبها من يمكنها الاعتماد عليه في مهام الحكم، وتقضي على ما يشيع الناس عنها، فقد وقع اختيارها على اللورد دارنلي، ابن عمها وأول أصحاب الحق في عرش اسكتلندا وإنجلترا من بعدها.
مقتل ريزيو
وكان دارنلي رجلًا ضعيف الخلق، كثير الغرور، شديد الوقاحة، ولكنها أرغمت على الزواج منه بعد أن أخفقت في محاولتها الزواج بنبيل إسباني هو الدوق كارلوس، وقد أقبل عليها في أول ليلة للزواج وهو سكران؛ فكرهته منذ ذلك الوقت.
وعرفت الملكة بعد ذلك أن زوجها يشترك مع الخارجين عليها في مؤامراتهم، فصممت على الانتقام منه. وفي إحدى الثورات التي شبت ضد حكمها قامت بنفسها على رأس الجيش، ومزقت شمل الثوار ثم عادت منتصرة دون أن يتحرك زوجها من مكانه، وكانت إذا قارنت صفات الزوج بصفات اللورد بوثول المقدام الشجاع المخلص اشتدت كراهيتها لدارنلي.
وكان دارنلي يشعر ببغض زوجته له، ويحاول إصلاح الأمور بينهما فلا يوفق، حتى انتهى الأمر بأن اعتقد أن مصدر البلاء هو ريزيو الإيطالي، وكان يرى الملكة وهي تقرب ريزيو إليها وتستشيره في كل شيء، وتستقبله في مخدعها، وتتأثر لشعره وصوته فتتأجج نيران الغيرة في صدره.
ولما توهم أن ريزيو عشيق زوجته، وأنها تغلق بابها دونه من أجل هذا الشاعر صمم على قتله، وتآمر مع اللوردات موراي وروثفن ومورتون على تنفيذ ذلك، ونفذ عزمه فعلًا في مساء يوم ٩ مارس من عام ١٥٦٦، فدخل على الملكة في قصر هوليرود وطعن ريزيو بسيفه، على مشهد من الملكة، طعنات قضت على حياته.
واتضح بعد ذلك أن المؤامرة أوسع نطاقًا مما ظنت الملكة؛ إذ لم تقتصر على مقتل ريزيو، وإنما أعقبها سجن الملكة نفسها في قصر هوليرود حتى تخضع لرغبات الثائرين وتنفذ إرادتهم.
وقد عزَّ على الملكة أن يُقْتَل ريزيو وهو في حضرتها، وتسجن هي في قصرها؛ فأصرت على الانتقام، وصممت بعد إقماع الثورة على أن تتخذ من زوجها نفسه آلة للانتقام كما اتخذ منه الثوار أداة لإشعال ثورتهم.
وثيقة الخيانة
وكان من الغريب أن تفكر في استخدامه لمساعدتها في الانتقام من أعدائها بعد مقتل ريزيو وسجنها في قصرها، ولكنها جعلته يعتقد أن شركاءه في المؤامرات، أمثال مورتون وروثفن، إن هم في الحقيقة إلا أشد أعدائه حقدًا عليه في قلوبهم، على الرغم مما يتظاهرون به من الإخلاص له.
وقد صدق دارنلي ما سمع من زوجته الملكة وفزع له، فوشى بشركائه جميعًا، ولكنه طلب منها أن تصدر أمرًا بالعفو ونسيان الماضي، وإغفال ما صنعه ضدها المتآمرون، ففعلت، وإزاء ذلك عاد اللوردات الذين ثاروا إلى هدوئهم، فتمكنت هي من الفرار ليلًا من هوليرود يصحبها زوجها نفسه.
وأمل المتآمرون أن تحافظ الملكة على وعدها فتؤمنهم على سلامتهم وحياتهم؛ ولذا أرسلوا إليها وهي في «أدنبره» يطلبون منها أن تصدر وثيقة العفو عنهم كما وعدتهم.
ووافقت الملكة على إصدار وثيقة العفو، بشرط أن يعلنوا استنكارهم لحادث مقتل ريزيو وعداءهم لمدبريه.
وقد قبل المنفيون هذا الشرط بسرور، وعادوا لبلادهم، أما باقي أعضاء الذين أبوا المؤامرة فقد تفرقوا وهربوا كلٌّ إلى مخبئه.
وهكذا فازت الملكة ماري بحكمتها وسياستها، وأمكنها التغلب على معظم المتآمرين وضمهم إلى صفوفها.
وكانت الأخبار تصل إلى الباقين من الثوار في مخابئهم؛ فيزداد حقدهم عند سماعها، وقد بلغ غيظهم أقصى درجاته عندما أصدر دارنلي تصريحه بتبرُّئه من مؤامرة مقتل ريزيو، وعدم اشتراكه في أي شيء يتعلق بها، مع أنه في الحقيقة كان من أركان تلك المؤامرة؛ ولذلك استقبل الاسكتلنديون تصريحه بالضحك والسخرية لجبنه.
وكان أشد المتآمرين حقدًا على دارنلي وغيظًا منه لنذالته: روثفن، الذي لم يسعه وهو على فراش الموت، بعد ستة أسابيع من ذلك التاريخ، إلا أن يرسل إلى الملكة ماري بالوثيقة الأصلية التي وقعها دارنلي بإمضائه قبل أن يبدأ الثورة ضدها.
وقرأت الملكة ماري الوثيقة بعجب شديد؛ إذ رأت أن زوجها الملك لم يكتف فيها بأن يعلن انضمامه إلى المؤامرة، بل أعلن أنها تقوم بمحض إرادته وأمره، وأن كل مسئوليتها تقع على عاتقه هو، وأنه يُؤمِّن الثائرين ضد كل العواقب.
وكانت الوثيقة قاطعة بالخيانة؛ ولذلك أمرت الملكة باستدعاء زوجها لتواجهه بها، فلما مثل بين يديها قابلته بكل غضب وازدراء، وأخذت تسبه، وأبرزت له الوثيقة الممهورة بإمضائه، والتي كانت الدليل القاطع على خيانته، وأخيرًا قطعت كل علاقة لها به، وطردته من حضرتها باحتقار شديد، فخرج متحسرًا مغلوبًا على أمره.
في ظلام اليأس
خرج دارنلي يائسًا؛ إذ قد فقد أصدقاءه اللوردات الذين شاركوه في المؤامرة في مبدأ الأمر، ثم ما لبثوا أن نبذوه؛ لأنه تبرأ منهم وخانهم، وكذلك فقد الملكة بعد أن وضعت يدها على الدليل المادي على خيانته. وكانت الملكة تظهر له الازدراء كلما وقع نظرها عليه، وأصدرت أمرها بأن كل من يظهر الاحترام لزوجها سيجر على نفسه غضبها وعدم رضائها، وكان من أثر ذلك أن اضطر دارنلي إلى الانسحاب من القصر؛ لأن حياته فيه أصبحت مستحيلة لما يكتنفها من هزء واحتقار، ولبث يتجول حينًا من الزمان وقد أغلقت في وجهه الأبواب؛ إذ كان كل من يلقاه، سواء من أتباع الملكة أو من أعدائها، لا يقابله بغير الازدراء، واضطر في النهاية إلى الذهاب إلى صديقه لينوكس بمدينة جلاسجو، حيث أخذ يُسلِّي نفسه بالعبث مع كلابه وطيوره ونسائه.
لا شك أن الملكة أخطأت إذ تركت زوجها دون أن تنتقم منه، حتى أخذ يعبث ويتنقل حيث يشاء، وكان من الخير لو أنها انتهت منه دفعة واحدة فأمرت بنفيه أو إعدامه جزاء اشتراكه في المؤامرة، ولكن كان ما يبعثها على عدم الأمر بإعدامه هو نفس السبب الذي بعثها على طرده من قصرها شر طردة.
ذلك السبب الذي وقف حجر عثرة في سبيل تنفيذ مآربها وانتقامها من زوجها دارنلي هو علاقتها الغرامية باللورد بوثول؛ الرجل الذي كان لا يهتم بالوسائل في سبيل تنفيذ الأغراض، فقد خَشِيت الملكة أن يظن الناس أنها أعدمت زوجها من أجل بوثول؛ حتى لا يكون عليها ثمة رقيب يضايقها بحقوقه الزوجية.
مع بوثول
وجدت الملكة في بوثول صديقًا مخلصًا في الوقت الذي كانت فيه في أشد الحاجة إلى صديق؛ إذ كانت لا تجد رجلًا يمكنها أن تثق به. وكان بوثول قوي الشكيمة يمكن للمرأة أن تعتمد عليه. وهذا ما يعلل نفوذه العظيم على الملكة، وما أثاره في نفسها من عاطفة الحب القوي حتى غدت لا تستطيع أن تفارقه لحظة واحدة، أو تعصي له أمرًا.
وقد تجلى حبها لبوثول وتقديرها له أكثر من زوجها نفسه في الوصية التي كتبتها حين أوشكت أن تلد، وخشيت أن تموت في أثناء الوضع، فقد أوصت إذ ذاك لدارنلي بخاتمها ذي الماسة الحمراء الذي قدمه لها يوم زواجهما، ولكنها عينت بوثول وصيًّا على ولده إذا أدركها الموت، وأمرت أن تُسلَّم إليه مقاليد الحكم من بعدها!
وذهب زوجها دارنلي يزورها بعد أن ولدت الطفل، فقوبل في القصر بازدراء، وخاصة من بوثول الذي كان نفوذه قد ازداد إذ ذاك، وقابلت الملكة زوجها بفتور شديد في حين أنها أظهرت لبوثول كل حب وإخلاص أمامه؛ حتى اضطر أن يعود وقد ازداد حزنه وعاره.
وبعد مرور شهرين فقط، بعد أن صارت أمًّا، ذهبت لزيارة بوثول زيارة خاصة في «الوا»، وقد كانت هذه الزيارة فضيحة كبرى وُصمتْ بها الملكة، وما اتَّصل خبرها بدارنلي حتى رأى أن يقوم بمحاولة أخيرة ليستعيد حقوقه كزوج وملك، ولكنه لم ينجح في هذه المحاولة، وعرف أن حياته في خطر طالما كان في اسكتلندا، فعاد إلى عبثه ولهوه، ولم يظهر في القصر الملكي بعد ذلك إلا مرات معدودات.
وبعد ثلاثة أشهر، مرضت الملكة مرضًا خطيرًا في جدبورو وكادت تنتقل إلى العالم الآخر، وذهب زوجها دارنلي لزيارتها، ولكنه لم يمكث معها غير يوم واحد.
وكان بوثول قد أصيب قبل ذلك بثلاثة أسابيع بجروح خطيرة في مناوشات حدثت على الحدود، وظل طريح الفراش في دير مهجور، فما اتصل نبأ ذلك بالملكة حتى سارعت إلى الذهاب لرؤيته — وكان بينها وبينه نحو ثلاثين ميلًا — وعادت في نفس اليوم وقد أثر البرد في صحتها تأثيرًا سيئًا فمرضت.
وقد سمع دارنلي بهذه القصة، بل لقد زار بوثول في جدبورو فاحتقره بوثول وأساء معاملته، كما كان يفعل كل من يقابله، ولكنه كان يتألم من احتقار بوثول له أكثر من أي شخص آخر؛ وذلك لعلمه أن بوثول هو عشيق زوجته.
فك العقدة
ووصلت الأمور بين الملكة وزوجها إلى حد لا يمكن الاستمرار عليه كما أعلنت هي في القصر وهي لا تزال تعاني آثار المرض.
وجلست في غرفة واسعة إلى جانب المدفأة وقد غاض قلبها والتفت بعباءة تقيها البرد، وكانت شاحبة الوجه، وقد ظهرت هالة زرقاء على عينيها من تأثير المرض الذي عانته، ثم تأوهت وقالت: كم أود أن أموت!
وكان عشيقها بوثول إذ ذاك يتكئ على ظهر مقعدها وقد ظهر بوجهه العبوس وأنفه الأقنى ولحيته الكثة، وتظاهر بأنه يتأوه مثلها وهو يقول: لم أقف في حياتي أمام عدو وتمنيت أن أموت.
وما لبث أن خفض من صوته وهو يملي أوامره على سكرتيره، الذي كان جالسًا إلى مائدة على مقربة منها وهو يكتب ما يمليه عليه سيده.
وفجأة رفعت إليه الملكة عينيها وسألته: أي أوامر تملي؟
وعندما أجابها رفعت يدها وأشارت إشارة السلب وهي تقول: كلا! ليس هذا هو الطريق.
وتحرك بوثول حتى واجهها وظهره إلى المدفأة، ولم يُعنَ بأن يخفض صوته وهو يحادثها، بل قال ببرود: هناك شيء آخر، وقد قررت ذلك من قبل.
فقالت له: وما الذي قررته؟
إذ ذاك خاطبها بصوت أجش حتى ظهر الخوف والاهتمام على وجهها وهو يقول لها: إن ما قررناه يتعلق بفك قيودك. لا تخافي شيئًا؛ إن الشريف مواري نفسه هو الذي اقترح ذلك وأسرَّه إلى لثنجتون، وما ذلك إلا لمصلحة اسكتلندا ومصلحتك.
ثم رفع صوته مناديًا إياهما.
وحضروا جميعًا تلبية لندائه، واجتمعوا في الغرفة فكان منظرهم غريبًا، والملكة بينهم تظهر على وجهها أمارات الاهتمام والخوف والضعف، أما بوثول فكان شكله يدل على العظمة والقوة وقد لبس أفخر ملابسه، أما آرجيل ولثنجتون فكانا مُتَّشحينِ بالسواد.
ووجه بوثول الحديث للثنجتون فقال له هازئًا: إن جلالة الملكة تهتم بسماع الطريقة التي يمكن بها أن تفك عقدة زواجها.
ورفع لثنجتون نظره إلى الملكة وفرك يديه وضغط على شفتيه ثم قال: فك العقدة! ها! ها! من الخير هنا أن نستعمل طريقة الإسكندر؛ وهي قطع العقدة للتخلص منها مرة واحدة وإلى الأبد.
قال ذلك وقد أدار بصره في الغرفة، ولكن الملكة صاحت: لا! لا! لن أدعكم تقتلونه.
ولكن بوثول قال لها: ولكنه يا سيدتي لم يكن على شيء من الشفقة التي تظهرينها الآن.
وكان يقصد بذلك طبعًا أن يُذكِّرها بمقتل ريزيو، وبأن زوجها هو الذي دبَّر ذلك الحادث، كأنه هو نفسه كان يحب ريزيو!
فقالت الملكة: ولكن على الرغم مما صنعه زوجي؛ فإني لا أوافق البتة على قتله.
فقال آرجيل: ولكن، يا مولاتي، يمكننا أن نقدمه إلى المحاكمة بتهمة اشتراكه في سجن جلالتك في هوليرود بعد حادث مقتل ريزيو.
وفكرت في ذلك برهة ثم هزت رأسها وقالت: ولكن الوقت متأخر جدًّا، وكان يجب أن نصنع ذلك منذ أمد بعيد؛ إذ سيقول الناس الآن: إننا لم نقدمه إلى المحاكمة بعد مرور هذه المدة على الحادث إلا لنتخلص منه لسبب من الأسباب.
ولم تفكر الملكة في غير وسيلة الطلاق للتخلص من زوجها، وظهر الاهتمام جليًّا على وجهها وقالت: لقد فكرت في الطلاق، ويعلم الله أنني لا أريده لغرض في نفسي. هل الطلاق ممكن بتمزيق أمر البابا الذي صرح فيه بالزواج؟
فرد عليها آرجيل قائلًا: نعم، إن الزواج يعد لاغيًا بعد تمزيق ذلك الأمر. ثم نظرت إلى بوثول وإلى نار المدفأة ووضعت يدها على وجهها وقالت: نعم، لا ريب أن الطلاق هو خير الوسائل.
ولكنها ما لبثت أن رفعت بصرها فجأة، فرأوا في عينيها مظاهر الشك والخوف، وقالت: ولكن في هذه الحالة ماذا يحدث لولدي؟
فقال لثنجتون ببطء بعد أن هز كتفيه وحرك يديه، وما لبث أن شبكهما ثانية: نعم، إن هذه هي العقبة التي اعترضت سبيلنا ونحن نبحث هذا الأمر؛ فلا ريب أن ذلك مما يجعل توليه بعدك محفوفًا بالمصاعب والأخطار.
فصاحت وهي تطلب منه أن يوضح أفكاره: إنك تعني أنه سيعتبر ابنًا غير شرعي، أليس كذلك؟
فقال السكرتير: نعم، هذه هي الحقيقة يا مولاتي، ولن يكون جزاؤه غير ذلك.
وهنا قال بوثول: وما دام الأمر كذلك، فهذا ما يعود بنا إلى طريقة الإسكندر، فما دامت الأصابع لم تفلح في حل العقدة وجب استعمال السكين في قطعها.
إذ ذاك ارتعدت الملكة وانكمشت في ملابسها، فانحنى إليها لثنجتون وخاطبها بعطف ولطف متمتمًا: دعي لنا الأمر يا مولاتي، وسنجد الوسيلة لتخليص جلالتك من ذلك الأحمق دون أن نمس شرفك، أو نلحق الضرر بحقوق ولدك.
وأخذت الملكة تنظر إلى وجه كل واحد منهم وكأنها تود لو تمكنت من قراءة أفكاره، ثم ما لبثت أن أعادت نظرها إلى نار المدفأة وتحدثت بسكون فقالت: أرجو ألا تصنعوا شيئًا يمس شرفي ولا يرضاه ضميري.
ثم أردفت بلهجة من تؤكد كل كلمة تقولها: بل إنني أرجوكم أن تدعوا الأمر حتى يقضي فيه الله بما يريد.
ونظر لثنجتون إلى الاثنين الآخرين ونظرا إليه، ثم فرك يديه بسكون وقال: ثقي بنا يا مولاتي، وسنحل المسألة بشكل يرضيك ويوافق عليه البرلمان!
ولم تجب الملكة على هذا الطلب؛ ولذا فقد أرضاهم أن يجدوا في سكوتها دليلًا على موافقتها، وأسرعوا ثلاثتهم إلى الاجتماع باثنين آخرين هما: جنتلي وبلفور، واتفق الخمسة على إهلاك دارنلي، زوج الملكة، الذي كانوا يطلقون عليه اسم «الأحمق الصغير، والطاغية المتكبر».
وقبل عيد الميلاد أصدرت الملكة أمرها بالعفو عن سبعين شخصًا من المتهمين بالاشتراك في مقتل الذين قست في الحكم عليهم من قبل لما ثبتت عليهم تهمة الاشتراك.
وقد رأى العالم في ذلك العفو مظهرًا جميلًا من مظاهر الإحسان والعطف الملكي على الرعايا، وأثنى على ملكة اسكتلندا، ولم يعرف غير قلائل أن هذا العفو لم يكن غير الثمن الذي تدفعه الملكة مقابل تخليصها من زوجها دارنلي؛ مما يدل على موافقتها التامة على أن العقدة التي لا يمكن حلها يجب قطعها.
وفي نفس اليوم الذي أصدرت فيه الملكة أمرها بالعفو ذهبت في صحبة بوثول لزيارة اللورد رمند؛ حيث مكثا في ضيافته نحو أسبوع، ومن هناك ذهبا معًا إلى مدينة «توليبردين»، وكانت تلك التنقلات غذاء الأقاويل والإشاعات والفضائح التي تذاع عن علاقتهما غير الشريفة.
هل عاد الحب؟
غادر دارنلي زوج الملكة مدينة «سترلنج» حيث كان يعيش عيشة تاعسة؛ إذ كان الأشراف يتجاهلونه، وكان في حاجة إلى المال لقضاء ضروريات حياته حتى اضطر إلى الاستغناء عن خدمه، وأصابه المرض إذ ذاك فأشيع أن السم قد دُسَّ له، ولكن ما لبث الناس أن رأوه وقد شوه وجهه الجميل؛ فعرفوا أن المرض الذي أصيب به لم يكن إلا نتيجة لحياة التهتك التي يعيشها.
ولما عرف أنه قد وصل إلى أبواب الموت أخذ يكتب خطابات استعطاف إلى الملكة، ولكنها كانت تتجاهله، ولا تُعنى به ولا بخطاباته، وقد اطمأنت عندما سمعت عن مرضه؛ إذ ظنت أنه قد يقضي عليه فيموت موتًا طبعيًّا قبل أن يمسه الآخرون بسوء، فلما سمعت بتحسن صحته ذهبت لزيارته في جلاسجو.
ولما دخلت الملكة إلى غرفة زوجها المريض الذي هجرته منذ زمان، وجدته في فراشه وقد وضع على وجهه قطعة من النسيج الرقيق ليخفي التشويه الذي لحقه، فتأثرت تأثرًا شديدًا حتى ليقال: إنها ركعت على ركبتيها بجانب فراشه، وأخذت في البكاء على مرأى ومسمع من حاشيتها وأتباعه، واعترفت بندمها الشديد على الماضي.
وتبع ذلك الصلح، وأخذت تظهر له الحب والعطف والاهتمام بشأنه، وأخبرته بضرورة انتقاله إلى مكان آخر يتمتع فيه براحة أكبر، ويكون لائقًا بمركزه الرفيع، وسُرَّ هو وقَبِل أن يعود معها إلى هوليرود، ولكنها قالت له: لا يمكننا الذهاب إلى هوليرود خشية أن تنتقل عدوى مرضك إلى ابنك الصغير.
فسألها: إلى أين نذهب إذن؟
ولما ذكرت له قصر «كريجميلر» هب واقفًا من فراشه، فوقعت قطعة القماش التي كانت تخفي وجهه، وظهر ما لحقه من التشويه، فما وسع الملكة أن تخفي اشمئزازها من بشاعة منظره المرعب إلا بكل صعوبة، وصاح هو: إلى كريجميلر! إذن فلقد كان حقًّا ما أخبروني.
فقالت وهي تحدق فيه النظر وقد شحب وجهها: وبماذا أخبروك؟
وكانت أخبار ما حدث في قصر كريجميلر قد وصلت إلى مسامعه، فأخبرها أنه سمع بأن خطابًا قد قدم إليها في ذلك القصر لتمهره بإمضائها، وأنها رفضت الإمضاء.
فقالت له: كذب وهراء كل ما أخبروك! فإني لم أر أي خطاب ولم أوقع، بل ولم يطلب إليَّ أن أوقع أي خطاب! وإنني لأقسم على صحة ذلك. أما ذهابك إلى قصر كريجميلر فإنني لا أضطرك إليه، ولك ملء الحرية في أن تذهب إلى أي مكان تشاء.
فاطمأن قليلًا واعتقد في صدق كلماتها ثم قال: هناك منزل كيرك أوفيلد، وله حديقة غناء، وهو يطل على أخصب بقاع أدنبره، وأنا في أشد الحاجة إلى الهواء النقي، وقد نصحني الأطباء بعمل حمامات كثيرة للتخلص من هذا المرض. لا ريب أن منزل كيرك أوفيلد يصلح إذا وافقت على ذلك.
ووافقت هي في الحال وأصدرت أوامرها بإصلاح ذلك المنزل، وبنقل بعض الأثاث الموجود في قصر هوليرود لتزيين مدخله حتى يكون لائقًا بقدر الإمكان لسكنى ملك.
وانتقلا بعد بضعة أيام إلى ذلك المنزل، فما لبثت شكوكه أن هدأت؛ إذ رأى ما تحيطه به من عطف وحب، وخاصة لوجود كثير من أتباعه هناك.
وأخذ حبهما ينمو من جديد إبان الاثني عشر يومًا التي قضاها وهو يتماثل إلى الشفاء في منزل كيرك أوفيلد، وكانت هي كثيرة العبث واللهو معه كما تكون المرأة مع عشيقها، حتى أخذ الناس يتحدثون عن عودة حب الملكة لزوجها، وأملوا بأن يكون ذلك الصلح سلامًا للأمة، وهناء يستفيد منه الجميع، ولكن على الرغم من ذلك كان هناك من ينظر إلى ذلك الصلح بعين الحيرة والاستغراب، ويبحث عما إذا كان في خلق المرأة وعاطفتها ما يسمح بمثل ذلك التغير الفجائي من الكراهية الشديدة إلى الحب؟
مخاوف وشكوك
وكان دارنلي ينام في الدور الأعلى من المنزل في غرفة أثثت أثاثًا فاخرًا، وفرشت أرضها بالأبسطة الشرقية، ووضع له بجانب الفراش ذلك الحمام الخاص، الذي كان جزءًا من علاجه، وعدة مقاعد وثيرة.
أما الملكة فكانت تنام في غرفة بالدور الأسفل تحت غرفة زوجها تمامًا، وكانت نوافذها تطل على الفضاء الواسع، أما بابها فيؤدي إلى الممر الموصل إلى الحديقة.
وكأن الحياة هناك قد راقت للملكة على الرغم من أنها لم تكن تزور قصر كيرك أوفيلد في الماضي إلا نادرًا، وكانت تمضي شطرًا كبيرًا من اليوم في غرفة زوجها لتُسلِّيه في فترة نقاهته من مرضه. أما الوقت الذي لم تكن توجد فيه في غرفة زوجها فقد كانت تسير أثناءه للنزهة في الحديقة، وكثيرًا ما كان زوجها يسمعها تغني وهو في فراشه.
لم تظهر الملكة ماري لزوجها الحب في أوانه كما أظهرته في تلك الآونة، اللهم إلا عقب زواجهما مباشرة؛ ولذا فقد غادرته شكوكه، إلا أن ذلك النعيم لم يدم مدة طويلة؛ إذ ما لبث أن وصل إليه اللورد روبرت يحمل إليه تحذيرًا ألقى الرعب في قلبه، فقد أخبره أنه إذا لم يغادر ذلك المكان في الحال؛ فإنه لن يغادره إلا بعد أن يفقد حياته، وصارح دارنلي الملكة بتلك الإشاعة التي وصلت إلى مسامعه عن طريق اللورد روبرت، فأنكرت كل شيء، وأرسلت في الحال تستدعي اللورد روبرت، وسألته أمام زوجها عما ذكره، فما وسعه غير الإنكار، وقال: إنه لم ينذر الملك بشيء، وأن كل ما هنالك قد يكون سوء فهم لحديثه، بل وأضاف إلى ذلك أن حديثه لم يتعد حالة الملك الصحية التي ربما تقتضي تغيير طريقة العلاج، والبحث عن هواء أنقى من هواء تلك البقعة.
ولم يدر دارنلي أي القولين يصدق، وعاودته شكوكه ووساوسه، إلا أنه مال إلى تصديق زوجته ماري التي أكدت له سلامة حياته، وكان يشعر بالطمأنينة ما دامت إلى جانبه.
وقد رضيت الملكة أن تقضي بضع ليالٍ من كل أسبوع في قصر كيرك أوفيلد؛ ليطمئن زوجها ويأمن على سلامته. وفي الأسبوع الأول من شهر فبراير قضت الملكة مع زوجها في قصر كيرك أوفيلد ليلة الأربعاء وليلة الجمعة، وكانت تنوي قضاء ليلة الأحد لولا أن خادمها سبستيان — الذي اصطحبها من فرنسا، والذي كانت تقدر إخلاصه — كان ينوي الزواج في ذلك اليوم، وقد وعدته جلالتها بأن تحضر الحفلة الراقصة التي سيُحييها من أجل هذه المناسبة السعيدة في هوليرود.
وعلى الرغم من ذلك لم تهمل زوجها في ذلك اليوم، بل ركبت في المساء بصحبة بوثول وهنتلي وآرجيل وآخرين تقصد كيرك أوفيلد، ولما وصلت بصحبة هؤلاء إلى القصر تركتهم في الدور الأول يقتلون الوقت بلعب الورق، وصعدت هي إلى غرفة زوجها في الدور العلوي وجلست إلى جانب فراشه، فلاحظت على وجهه أمارات الاضطراب كأنه يتوقع حدوث شيء، وما كادت تجلس إلى جانبه حتى بدأ يلحف في الرجاء فقال لها: لن تتركيني هذه الليلة، أليس كذلك؟
فقالت: يا للأسف! يجب أن أغادرك؛ فإن سبستيان يتزوج هذه الليلة، وقد وعدته بحضور الحفلة.
فتأوه وقد ازداد اضطرابه ثم قال: سأشفى قريبًا، وإذ ذاك سيغادرني كل ما أشعر به من اضطراب يزيد في إزعاجي، أما الآن فإنني لا أحتمل أن تغيبي عن نظري. إني أشعر بالراحة ما دمت إلى جانبي، وأحس أن كل شيء يجري في مجراه، أما إذا ابتعدت عني فإن نفسي تمتلئ بالخوف واليأس وأنا وحدي في هذا المكان.
فسألته: ومم تخاف؟
فقال: إنني أخاف تلك الكراهية الحية التي يحس بها الجميع من نحوي.
فقالت: إنك لتصور لنفسك أشباحًا تزعجك.
وصاح في تلك اللحظة صيحة رعب وهو يحاول القيام من فراشه: ما هذا؟ أصغي إلى هذا الصوت!
وأصغت فسمعت صوت وقع أقدام في الغرفة السفلى، وصوت وقوع شيء على الأرض، فقالت: لا ريب أن هذه أصوات الخدم وهم ينظمون غرفتي.
فسألها: ولماذا يرتبونها ما دمت لا تنامين فيها هذه الليلة؟
ثم رفع صوته ونادى خادمه الخاص.
وسألته هي بدورها وقد شعرت بالخوف: وماذا تريد من خادمك؟
فلم يجبها، وأمر خادمه بالنزول لرؤية ما يحدث في الغرفة السفلى، ونزل الشاب. ولو قدر له أن يؤدي مهمته بإخلاص لرأى أعوان بوثول من هاي وهبرن ونيقولا هيبرت خادم الملكة يشتغلون بتعبئة رصاص ومقذوفات نارية أخرى لوضعها تحت غرفة الملك، إلا أن الخادم في طريقه قابل بوثول نفسه وقد التف في عباءة واسعة، ووضع قبعته على رأسه، وسأله بوثول عن المكان الذي يقصد فأخبره.
فقال له بوثول: لا شيء هناك سوى أنهم يشتغلون بنقل فراش جلالة الملكة من مكانه حسب رغبتها.
وتأثر الخادم من وجه بوثول الذي كان يدل على الأمر والقوة، وكان يسد عليه طريقه بقامته؛ ولذا فضل عدم المقاومة، وعاد إلى الملك وأخبره بما سمعه من بوثول كأنه ذهب بنفسه ورأى ما يروي.
واطمأن دارنلي قليلًا وانسحب الخادم، فقالت الملكة ماري: ألم أخبرك بما هناك؟ ألم تكن كلمتي كافية؟
فأخذ دارنلي يرجوها قائلًا: سامحيني على شكوكي! إنني لا أشك فيك مطلقًا بعد أن أظهرت كل هذا العطف على ما أصابني من مِحنٍ.
وتأوه ثم نظر إليها بحزن وأسى وأردف قائلًا: كم أود لو كان الماضي يختلف في وقائعه عما حدث بيني وبينك! أظن أنني كنت صغيرًا حين وليت الحكم؛ كنت في صغري أستمع لمشورة السوء، وكنت شديد التأثر بالغيرة، سريع الخضوع لسيئاتها ورذائلها، ولما شئت أن تطرديني من لدنك أخذت أتجول في العالم الواسع بلا صديق، فأسرني الشيطان بشروره، ولكنك إذا وافقت على أن ندفن الماضي في قبور النسيان؛ فسأصلح كل شيء، وستجدين أنني أكبر قيمة بما يخطر لك.
وقامت هي وقد ابيضت شفتاها، وأخذ جسمها يرتعش تحت عباءتها، واتجهت إلى النافذة وأخذت تطل منها، أخذت تنظر من النافذة إلى ذلك السكون والليل المحيط، وكانت قدماها لا تقويان على حملها من شدة ارتعادهما.
وصاح هو: لماذا لا تجيبي؟
فقالت وصوتها يرتجف: أي جواب تريد؟ أولم أجبك من قبل؟
ثم أردفت وهي لا تكاد تقوى على الحديث: أظن أن الوقت قد أزف للرحيل.
وسمعا إذ ذاك صوت وقع أقدام على السلم وصوتًا أشبه بصليل السيوف، وما لبث باب الغرفة أن فتح وظهر بوثول على بابها وهو ملتف في عباءته الحمراء، وأحنى كتفيه عند الباب، وكانت في عينيه الواسعتين نظرة ساخرة ألقاها على دارنلي؛ فبعث بالخوف والغضب إلى قلبه في الحال، وقال بوثول يخاطب الملكة: لقد أوشك الليل أن ينتصف يا مولاتي.
كان بوثول قد حضر في الوقت المناسب ليذكر الملكة بأن كل شيء قد تم لتنفيذ ما اتفق عليه من قبل دون مراعاة لعطف أو شفقة.
وقالت الملكة: هأنذي قادمة.
ولبث بوثول ينتظر ليُعجِّل من قيامها، إلا أن الملك أخَّرها قليلًا.
وأخذ بوثول يلحف في الرجاء ودارنلي يقول: انتظري لحظة واحدة، كلمة واحدة.
ثم خاطب بوثول قائلًا: دعنا نتحدث وحدنا يا سيدي وغادرنا.
ولكن على الرغم من أنه الملك لم يطعه ذلك الجبار عشيق الملكة، ولبث ينتظر أمر الملكة دون أن يتحرك، فلم يغادر الغرفة إلا بعد أن أشارت إليه تطلب منه الخروج، بل حتى بعد أن أمرته الملكة بالخروج لم يكن منه إلا أن انتقل إلى الجانب الآخر من الباب؛ وذلك كي يكون قريبًا منها يساعدها إذا بدا منها ما يدل على الضعف في تلك الساعة الرهيبة.
وأخذ دارنلي يجاهد حتى تمكن من الجلوس في فراشه، ثم أمسك بيدها وأخذ يرجوها: لا تغادريني، بربك لا تغادريني.
فصاحت بصوت يظهر الاضطراب في نبراته: ولكن ما هذا؟ هل تريد أن ييأس سبستيان من حضوري ويحزن لذلك، وهو الذي يحمل لي الكثير من الحب والإخلاص؟
فقال: لقد فهمت. إذن فأنت تهتمين بسبستيان أكثر من اهتمامك بي.
فقالت: إن هذا من الجنون؛ فليس سبستيان إلا خادمي المخلص.
فقال: أولست أنا كذلك خادمك المخلص؟ ألا تصدقين أن كل غرضي سيكون منذ الآن أن أخدمك بإخلاص. آه! ولكن شفقة لضعفي، إنني ممتلئ بالخوف والتشاؤم هذه الليلة. اذهبي إذا كان واجبًا أن تذهبي، ولكن دعيني أسمع — على الأقل — تأكيدًا لحبك، وعِدِيني بالحضور غدًا بحيث لا تفترقين عني مرة أخرى.
نظرت الملكة إلى ذلك الوجه الأبيض الشاحب الذي كان يتذلل صاحبه إلى هذا الحد، والذي كان رائع الجمال في الماضي، فاضطربت نفسها، ولم تشعر بالقوة إلا عندما ذكرت أن بوثول ينتظرها بالباب، وأنه يسمع كل ما يدور بينها وبين زوجها من حديث.
وحدث بعد ذلك أن خلعت خاتمًا من أحد أصابعها ووضعته في أحد أصابعه وقالت: إليك الدليل على صدق وعدي وحبي؛ فاسترح ونم مطمئنًا.
وقد انتُقِدَت الملكة على تصرفها هذا ولامها الكثيرون عليه، بل لقد اعترف موراي نفسه فيما بعدُ لما له من صلة بالمسألة، بأن ما صنعته الملكة من نزع خاتمها ووضعه في أصبع زوجها لمما تستحق عليه أشد اللوم. والظاهر أنها قصدت من ذلك أن تضع حدًّا للمنظر المؤثر الذي كان يزعجها، وقد تمكنت فعلًا من إنقاذ موقفها بذلك العمل.
إنذار خفي
وغادرت الملكة زوجها وقد شحب وجهها وبدا عليه الاضطراب، ووصلت إلى الباب ووضعت عليه يدها تحاول فتحه، ولكنها تريثت وأعادت النظر إلى زوجها، ويظهر أنها اشمأزَّت من نفسها عندما فكرت في خيانتها له، خاصة عندما رأته يبسم لها وقد عادت الثقة إلى وجهه. ولا شك أنها شعرت بالرغبة في تحذيره إذ ذاك، ولكن بوثول كان قريبًا منها، فعرفت أن أي كلمة تذكرها لزوجها سيكون معناها تعجيل المأساة مع اقترانها بنتائج خطيرة قد تمس بها.
ولكي تتغلب على ضعفها استعادت ذكرى دافيد ريزيو الذي قتله دارنلي وهو على مقربة منها، والذي كانت تنتقم له في تلك الليلة، ولكن غريزة المرأة لم تغادرها حتى في تلك اللحظة، بل لقد تغلبت عليها، فبدلًا من أن تجد في ذكرى ريزيو ما يشجعها على الانتقام من زوجها وجدت من تلك الذكرى وسيلة لتحذيره.
وقفت شاحبة مضطربة عند الباب، وألقت عليه آخر كلماتها له بصوت يتخلله الاضطراب فقالت: لقد قتل دافيد ريزيو في مثل هذا الوقت بالضبط من العام الماضي.
وبعد ذلك، أسرعت إلى بوثول الذي كان ينتظرها، وما وصلا إلى السلم حتى تمهلت الملكة ثم وقفت وقد وضعت يدها على كتف بوثول وأخذت تهمس بخوف: هل من الضروري عمل ذلك؟ هل من الضروري؟
كان النور ضعيفًا، ولكنها على الرغم من ذلك رأت ذلك النور الذي يلمع في عينيه وهو يتكئ إلى ناحيتها وقد وضع يده على وسطها وجذبها إليه بذراعه القوية، وهكذا تمكن بإرادته الحديدية من أن يجعلها تسير في الطريق الذي اختطه لها.
كانت الجياد قد أعدت في الخارج، وكان هناك عدد كبير من الأشراف في انتظارها لمرافقتها في الطريق إلى قصر هوليرود لحضور حفلة زواج خادمها سبستيان، وكذلك كان نحو ستة من الخدم يحملون المشاعل، وكانت اللادي ديز تنتظر مولاتها. وتقدم أحد الرجال لمساعدتها على الركوب، ولكنه كان أسود اليدين والوجه من تأثير البارود والمفرقعات الأخرى التي كان يعدها، حتى إنها لم تعرفه، وضحكت ضحكة عصبية مغتصبة حين سألته عن اسمه فذكره لها وصاحت: أيها اللورد، لِمَ اسودَّ وجهُك؟
ثم ركبت جوادها، وسارت بصحبه الأشراف يتقدمها الخدم من حملة المشاعل؛ لينيروا لها الطريق، إذ كان الوقت بعد منتصف الليل.
الانفجار
لقد قتل دافيد ريزيو في مثل هذا الوقت بالضبط من العام الماضي.
أدرك دارنلي أن نفس هذه الكلمات ليست صحيحة، وأن قائلتها لم تتحر الصحة وهي تذكرها، فإن ذكرى مرور عام على مقتل ريزيو كانت تقع بعد مرور شهر كامل على ذلك التاريخ الذي ذكرته الملكة! وتساءل دارنلي عما يدفع الملكة إلى تذكيره قبل رحيلها بما اتفقا على دفنه في قبور النسيان؟ وفي الحال أجاب نفسه بنفسه، وعرف أنها قصدت إنذاره بأن الانتقام قريب الوقوع، وتذكر إذ ذاك كل ما وصل إلى مسامعه عن الأمر الملكي الذي وُقِّع في قصر كريجميلر، وذكر كذلك إنذار اللورد روبرت له، وهو الإنذار الذي أنكره أمام الملكة، وذكر إذ ذاك كلمات الملكة التي وجهتها إليه عقب مقتل ريزيو؛ فقد قالت له: «فكِّر فيما تسمع مني الآن، فكر فيه واذكره؛ فإنني لن أستريح بتاتًا قبل أن أسبب لك مثل هذا الحزن الذي أشعر به الآن!»
وذكر بعد ذلك صيحتها التي تمثل فيها الألم وحب الانتقام الوحشي وهي تقول بالفرنسية: لن أنسى، لن أنسى إلى الأبد! نعم، إلى الأبد! وزادت مخاوفه زيادة هائلة ولم تهدأ في النهاية إلا حين نظر إلى أصبعه فرأى الخاتم الذي وضعته فيه دليلًا على تجدد عهد حبها. نعم! لا ريب أن الماضي قد مات ودفن، حتى إذا هدده الخطر فهي ستحميه بلا شك، وستكون درعًا فولاذيًّا يقيه شر الحوادث. هذا ما ظنه وصمَّم على أن يسألها عنه عندما تحضر في اليوم التالي، ولا ريب أنها ستكون أكثر صراحة، وستفتح قلبها له ولا تخفي عنه شيئًا، ولكن على الرغم من كل هذا احتاط لتلك الليلة حتى لا يؤخذ على غرة.
أرسل دارنلي خادمه وطلب منه أن يغلق جميع الأبواب بإحكام، فصدع الخادم لأمر سيده وأقفل جميع الأبواب ما عدا الباب الذي كان يؤدي إلى الحديقة؛ إذ لم يكن هناك ما يُغلَق به، علاوة على أن مفتاحه كان مفقودًا، ولكنه لم يخبر سيده بذلك لئلا يزيد في غضبه وحدَّتِه الظاهرة على وجهه.
وطلب دارنلي أن يحضروا إليه الكتاب المقدس ليقرأ فيه استعدادًا للنوم، وجلس الخادم على مقعد في ركن الغرفة وقد غلبه النعاس، وهكذا أخذت الساعات تمر، وفي النهاية نام الملك نومًا خفيفًا، ولكنه ما لبث أن قام من نومه فزعًا حوالي الساعة الثانية صباحًا، وجلس في فراشه وقد امتلأ رعبًا دون أن يعرف لرعبه سببًا، وأخذ يصغي بأُذنين مرهفتين وقد كاد قلبه يكف عن الحركة.
وأخيرًا تمكن من أن يفطن إلى الصوت الذي أيقظه، وكان ذلك الصوت يشبه الصوت الذي سمعه من قبل حين كانت زوجته الملكة ماري معه، وظن أن هناك شخصًا يتحرك، ولكنه ما لبث أن كف عن الحركة حين بدأ هو يصغي، وعاد السكون الشامل إلى القصر، ولكنه لم يعد إلى قلب الملك المسكين، بل ازدادت مخاوفه.
وأطفأ الملك النور، ونزل من فراشه، وسار إلى النافذة وأطل منها على الفضاء والظلام الدامس الذي لم يكن ينيره غير ضوء ضئيل منبعث من جزء صغير من القمر، وكان لا يزال في الربع الأول، وخيل إليه أن شبحًا يتحرك في الظلام، فأخذ يُنعم النظر ويراقبه وقد اشتد رعبه. لم يكن هناك شبح واحد، بل لقد كانت هناك أشباح عدة تتحرك بين الأشجار، ورأى وهو يراقبها شبحًا يخرج من المنزل وهو يجري، وما لبث أن التحق بالآخرين في الحديقة، ورأى أنهم قد صاروا مجموعة كبيرة: «ترى ماذا يقصدون؟» أخذ دارنلي يسأل نفسه هذا السؤال، ثم ما لبث صدى صوت كلمات ماري الأخيرة أن رنَّ في أذنيه وسط ذلك السكون: «لقد قتل دافيد ريزيو في مثل هذا الوقت من العام الماضي!»
واشتد رعبه فما وسعه إلا أن يقفز من الغرفة إلى حيث كان خادمه نائمًا على المقعد، وأخذ يهزه هزًّا عنيفًا وهو يقول له هامسًا بصوت أجش: قم أيها الغلام، قم، قم؛ فقد هاجمنا الأعداء.
كان دارنلي يريد أن يصرخ بهذه الكلمات، ولكن صوته خانه؛ إذ تملك الرعب كل جزء من جسمه حتى حنجرته.
واستيقظ الخادم في الحال، وأسرع الاثنان — والملك بلباس نومه الذي نزل به من فراشه — وخرجا من الغرفة في الظلام الدامس وهما يتلمسان الطريق إلى أن وصلا إلى النوافذ الخلفية التي كانت موجودة في الردهة، وفتح دارنلي نافذة منها وأرسل الخادم ليأتيه بغطاءٍ تَمكَّنا بواسطة ربط طرفه في النافذة من النزول إلى الحديقة، وما وصلا إليها حتى أسرعا إلى الحائط يقصدان تسلقه للهرب من القصر كله.
كان الخادم يسير في المقدمة والملك يتبعه وأسنانه تصطك من تأثير البرد والخوف الذي تملَّكَه، إلا أنه في تلك اللحظة عينها خُيِّل إليهما أن الأرض قد مادت تحت أقدامهما، فوقعا على وجهيهما دون أي إنذار سابق، وما لبثا أن رأيا ضوءًا قويًّا جدًّا أنار الظلام السائد، وصحبته أصوات فرقعة هائلة مرعبة كأن الأرض كلها قد تأثرت بها.
ولبث الملك والخادم بضع لحظات حيث وقعا وقد فقدا نصف شعورهما، وكان الخير لهما لو أنهما استمرَّا منكفئين على الأرض حيث كانا، إلا أن دارنلي استعاد شعوره بسرعة وقفز واقفًا على قدميه، ثم جذب إليه الخادم وأعانه على الوقوف معه، وبدأ يتحرك، فما لبث أن سمع صوت صفير منخفض ينبعث خلفه من الظلام، ونظر من وراء كتفه إلى القصر فرأى الدخان وقد بدأ يتصاعد منه. وفي وسط ذلك الدخان المتكاثف لاحظ الأشباح التي رآها من نافذة غرفته وقد بدأت تتحرك في الظلام وتقترب منه، فعرف أنهم قد شاهدوه؛ فإن لباس النوم الأبيض الذي كان يلبسه دلَّهم على مكانه في الظلام.
وصرخ صرخة خافتة وهو يجري نحو حائط الحديقة وخادمه يتعثر من خلفه، وسمعا خلفهما وقع أقدام كثيرة، ما لبث أن وقعا أسيرين وقد أحاط بهما الرجال، وأخذ الملك يلتفت يمينًا ويسارًا علَّه يهتدي إلى مخرج من بين هذه الدائرة القاتلة من الرجال الذين كانوا يحيطون به وبخادمه، ويُكوِّنون أمامهما سدًّا منيعًا، وصاح بصوت ضعيف وهو يحاول يائسًا أن يسأل بشيء من السلطة: ماذا تريدون؟ ماذا تريدون؟
وتقدم إليه رجل ملتف في عباءة، وكان بوثول، وقال له: إننا نريدك أنت أيها الأحمق.
وغادرت الملك تلك العظمة الملكية التي لم يحسن الظهور بها في يوم من الأيام، غادرته نهائيًّا، فأخذ يصيح: الرحمة! الرحمة!
فأجابه الطاغية بوثول: تطلب الرحمة التي أظهرتها في الماضي لدافيد ريزيو؛ أليس كذلك؟ ها! ها!
وسقط دارنلي على الأرض وحاول أن يقبل قدمي القاتل، إلا أن بوثول مرَّ فوق جسمه، ثم أمسك بلباسه ونزعه عن جسمه المرتعد، وربط أكمام اللباس في عنق الملك، وأخذ يشدهما بقوة وقسوة، ولم يتركهما إلا بعد أن كفَّ الملك المسكين عن الحركة، فعرف أن الحياة قد غادرته.
وذهبت الملكة ماري، بعد أربعة أيام من هذه الحادثة، لرؤية جثة زوجها في كنيسة قصر هوليرود حيث نقلت بعد قتله، ووصف أحد معاصريها تلك الزيارة فذكر أن الملكة أطالت النظر إلى جثة زوجها، وقال: «إن نظرتها إلى جثة زوجها لم تكن فقط خلوًا من أي شعور بالحزن، بل كانت تدل على الرضاء والتشجيع.»
ودفنت الجثة سرًّا بعد ذلك إلى جانب جثة ريزيو، فاجتمع القاتل والمقتول في نهاية الأمر جنبًا إلى جنب.
نهاية العاشقين
اتُّهمت الملكة ماري بطريق غير مباشر بأنها قاتلة زوجها اللورد دارنلي، وعُرف أن الجريمة دُبِّرت بعلمها، وأن فاعلها الأصلى هو اللورد بوثول صديقها المخلص. وقد ثار أعداء الملكة لهذه الجريمة، وأخذوا في تحريض الناس ضدها، وكانت النتيجة أن قُدِّمَ بوثول للمحاكمة بتهمة نسف قصر كيرك أوفيلد وقتل دارنلي، ولكن المحكمة برَّأته في النهاية.
وبعد تبرئة بوثول دبَّر جريمة أخرى هي اختطاف الملكة في الظاهر، ولكن غرضه الحقيقي كان نقلها والاستئثار بها في قصر دنبار؛ ولذلك سامحته ماري على اختطافها من قصرها، وبعد أن تم الطلاق بينه وبين زوجته تزوجته هي. ويشك الكثير في صحة هذا الزواج الذي تم بين الملكة ولورد بوثول؛ لأنه لا يطابق قوانين الكنيسة الكاثوليكية. والظاهر أن الملكة نفسها كانت تشك في صحته؛ حتى إنها تزوجته مرة أخرى فيما بعدُ طبقًا لقواعد الكنيسة البروتستنتية.
ولكن البلاد ما لبثت أن ثارت ضد حكم ماري ولورد بوثول بتحريض النبلاء واتحادهم، وشبت الحرب الأهلية، فهزم فيها بوثول واضطر إلى التسليم. وقد طلب منه النبلاء أن يغادر اسكتلندا في الحال، فخضع لأمرهم على أن تظل زوجته الملكة على عرشها، وسافر بوثول إلى بلاد النرويج حيث قبض عليه، وأرسل من هناك إلى كوبنهاجن عاصمة الدانيمرك، وألقي به إلى غياهب السجن.
أما الملكة، فإن النبلاء بعد أن أمنوا شر زوجها المحارب أمروا بالقبض عليها، وسجنوها في قلعة لوك ليفن، بعد أن وقَّعتْ وثيقة بالتنازل عن العرش لابنها الصغير جيمس. وفي عام ١٥٦٨، تمكنت ماري من الهرب من سجنها بمساعدة بعض أنصارها، وجمعت جيشًا صغيرًا، ولكنها ما لبثت أن هزمت، فاضطرت إلى الهرب إلى إنجلترا، ووضع نفسها تحت حماية اليصابات ملكة إنجلترا، ولكنها كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإن اليصابات كانت شديدة البغض لها؛ لأنها تعرف أنها صاحبة الحق الأول في عرش إنجلترا الذي تتبوَّءُه هي، ولما كان ينقل إليها كثيرًا من أن ماري تتطلع إلى هذا العرش وتنوي أن تضمه إلى عرش اسكتلندا في يوم ما.
ولذلك قبض على ماري، ملكة اسكتلندا، بمجرد دخولها في حدود إنجلترا، وظلت مدة ١٩ عامًا تنقل من سجن إلى آخر.
وقد وجدت لها بعض الأنصار في إنجلترا، فأخذوا يدبرون فرارها من السجن، وأخيرًا في عام ١٥٨٦، اكتُشفت مؤامرة واسعة النطاق دبَّرها أحد أنصار قضيتها، واسمه بابنجتون، فقُدِّمت الملكة إلى المحاكمة بتهمة اشتراكها في المؤامرة.
وأنكرت الملكة أثناء المحاكمة اشتراكها في المؤامرة، كما أنها لم تعترف بهيئة المحكمة التي تنظر قضيتها، ولكن المحكمة أدانتها وحكمت عليها بالإعدام، فنفذ فيها الحكم يوم ٨ فبراير من عام ١٥٨٧، واطمأنت اليصابات قليلًا على عرشها.
أما اللورد بوثول، فقد بقي في سجنه هو الآخر حتى جُنَّ ومات في ١٤ أبريل من عام ١٥٧٨.
وقد تولى ابنُ ماري عرش إنجلترا واسكتلندا فيما بعدُ باسم جيمس السادس في اسكتلندا، وجيمس الأول في إنجلترا، فكان في ذلك العزاء بلا ريب لوالدته وهي في قبرها.