تقديم
لا أدري لماذا كلما طالعت كتاب «رءوف عباس حامد» «مَشَيْناها خُطًى» — وقد طالعته غير مرة — تُطَوَّف بخاطري أبيات تسلَّلت إلى حافظتي في شبابي الغارب؛ أولها:
قالها عربي كان يخشى على قومه العرب من قومه العرب، لكن هؤلاء العرب جدَّدوا معه ما سبق أن حذَّرهم منه جَدٌّ له، فلم يُصغوا إليه، ولمَّا وقعت الواقعة قال ذاك الجد:
تُطَوِّف بخاطري كذلك تلك الأبيات من رائعة «أمل دُنْقُل» «البكاء بين يدَي زرقاء اليمامة»:
عرفت «رءوف عباس» قبل سنوات وسنوات، فعهدته فارسًا في زمان غاب عنه الفرسان، وصار الميدان يعجُّ بالخِصيان، ومن ليس لهم في المكان مكان.
وأعترف بأنني طالعت الكتاب قُبَيل أن يدفع به صاحبه إلى المطبعة فاستبدَّ بي الدَّهَش؛ لِمَا راعني فيه من جَراءة جاوزت الحدود، في عالم من السدود والقيود، وأشفقت عليه من وَخْش الأرض وهَوامها، وذباب الصحراء وطَغامها، واقترحت عليه أن يستأنس برأي من يراه من أهل الذكر، فربما كان لهم مع رأيه رأي، لكنه أبى، فسلَّمتُ أمري إلى الله.
كانت المفاجأة أن الكتاب — وقد صدر في نهايات العام — صار كتاب العام، ونفد قبل أن يغيب ذاك العام، فأُعيد طبعه ونفِدت طبعته في أيام، فعبَرَ البحر إلى بلاد الشام، لتظهر له طبعة ثالثة رائعة، وها أنا أحوز الفضل في تحرير طبعة رابعة ورائعة.
هذه الطبعة تختلف عن سابقاتها؛ فهي تضم إلى جانب الكتاب مقالات عن الكتاب ومقابلات مع الكاتب، ومحاضرَ للقضايا التي رُفعت ضده، والقضية التي رفعها ضد أحدهم، والأحكام التي أنصفته، والتي تشي بأنه ما يزال في بلادنا قضاء، وتشي كذلك بأن الغد أجمل من اليوم، وربما يأتي زمان غير الزمان، فيستريح «آرثر الملك» أينما كان؛ لأن ما كان يتطلَّع إليه من سلام، لا بد وأن يتحقَّق في قابل من الأيام.
كنت أتمنَّى أن أدرج على ما درج عليه أسلاف لنا، فأكتب حاشيةً على الكتاب أو ذيلًا أو صلة؛ فالحديث ذو شجون، آه من تلك الشجون! لكنني رأيت أن أُرجئ ما كنت أتمنَّى إلى مستقبل أراه قريبًا.
•••
سعدت بما كتب عن الكتاب؛ فقد لمس أوتارًا في نفوس شرفاء، أجمعوا على شرفه وشرف كاتبه، وأجمعوا على أنه حَجرٌ أُلقي في بِركة آسنة. كم هي تلك البركة آسنة!
الكثرة الغالبة من هؤلاء الشرفاء كان تركيزهم على الجامعة، وما يجري داخل الجامعة، وهذا في ذاته صحيح، لكن الكتاب — أحسب — أكبر من أن يكون كتابًا عن أزمة جامعة؛ إنه كتاب عن أزمة وطن، والجامعة في القلب من هذا الوطن. والكاتب إذ يروي سيرته، فهو يروي سيرة وطن عبر خمسين سنةً من عمر هذا الوطن، ويصوِّر ما آلت إليه حاله من غَسَق إلى فَلَق، ومن هذا الفلق إلى غسق آخر ثم عتَمة فمغيب، يكاد ينتهي به إلى بحر الظلمات.
ملاحظة أخرى مهمة، هي إن غالب هؤلاء الشرفاء، أعطَوا مضمون الكتاب عنايةً تفوق عنايتهم بشكله الفني، وأُعطي لهذا المنحى تفسيرًا، خلاصته إن حال الجامعة وحال الوطن تردَّتا على الأصعدة كافة إلى هاوية أخشى أن تكون سحيقة. هذه الحال هي التي حفَّزت هؤلاء لأن يكتبوا ما كتبوه.
اليسير من هؤلاء عُنوا بشكله الفني عنايتهم بمضمونه، وأزعم إنني أحدهم، يشاركني على نحو أو آخر «عبد المنعم رمضان» و«حلمي سالم» و«أحمد الخميسي» و«نصار عبد الله» و«سليمان عُرَيْبات». فالكتاب عنوان لمرحلة جديدة في فن السيرة الذاتية، وهو جنس أدبي بدأه في عصرنا الحديث «طه حسين»، وبلغ قامةً عالية عند «لويس عوض»، وبلغ قامةً أخرى عاليةً عند «رءوف عباس».
ملاحظة أخيرة، هي أن معظم من كتبوا عن الكتاب لا يعرفون صاحب الكتاب، أو أن معرفتهم به يسيرة، وهذا من شأنه ترجيح كفة صدقه؛ فليس ثَم وراء، ربما تشوبه منافع ومنازع وأهواء، ولن أُنوِّه إلى ما قالوه، إنما آتي بقطوف ممَّا قالوه.
«جدارية مصرية تشع حبًّا وأملًا … وحرية.»
«واحد من أروع كتب السيرة الذاتية في تاريخ الكتابة العربية.»
«شفاف كندى الفجر الوديع. قوي كصخور المقطَّم المطلة على القاهرة في حنو. عنيد كمن تجري في شرايينهم دماء الجنوب الساخنة الطيبة. وديع، وعاصف ساخر وألمعي.»
«ترك شهادةً أخلاقية رفيعة عن دَور المثقَّف في الدفاع عن الحق، ومحاربة الفساد.»
«سيرة مدهشة أخطأت في تأجيل قراءتها عدة أشهر.»
«ما هذا الشلال النقي الذي هطل علينا يا دكتور رءوف، ونحن نقرأ لك هذا الكتاب المخلص الشجاع.»
«هذه مصر وأنت ابنها فتدفَّقا معًا؛ فكلاكما نهر.»
واحد فقط ممن كتبوا عن الكتاب، تفرَّد عن سائر الكُتاب، فكان لحنًا نشازًا على سيمفونية جميلة. هذا الكاتب هو «عبد العظيم رمضان» — رحمه الله — فقد نشر مقالَين يحفلان بثغرات أجل من أن تُحصى، ولن أُدافع عن «رءوف عباس»؛ فقد تكفَّل هو بالدفاع عن نفسه، كما أن القضاء المصري النزيه أنصفه. لكنني أُنوِّه إلى مثال واحد على تلك الثغرات؛ فهو يشكِّك في أرقام توزيع الكتاب، ولو كان — رحمه الله — على قيد الحياة، لأشرت عليه بمراجعة جريدة الأهرام (الأربعاء، ٢٩ من ديسمبر، ٢٠٠٤م)، وكان قد مرَّ أربعة وعشرون يومًا فقط على صدور الكتاب، ليتضح له أن هذا الكتاب في طبعته الأولى نفد، وأن بعض الكُتَّاب يعتبرونه — رغم صدوره في نهايات العام — كتاب العام.
يبقى بعد ذلك أن نتذكَّر أن رمضان وصحبه (وهم أربعة وليسوا ثمانيةً كما يَدَّعي)، رفعوا دعويَين ضد «رءوف عباس» يطالبون بسجنه، فضلًا عن تعويضهم مدنيًّا، في حين رفع رءوف دعوى ضد «رمضان»، لكنه لم يطالب بسجنه؛ لموقف مبدئي له من الدعاوي السالبة للحريات. أنا — إذن — أتخذ مكاني إلى جوار «محمد الغيطي» (راجع مقاله) فأرفع له القبعة.
•••
أتوقَّف عند هذا الحد، وأُعاود حال الوطن، وحال الجامعة التي تنتمي إلى هذا الوطن، أمَّا عن الوطن فيكفينا مراجعة تقارير التنمية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، خصوصًا تقريرها عن العام ٢٠٠٤م وتقارير منظمة العفو الدولية (أمنستي) وغيرها من تقارير توضِّح أن مصر التي عرفتها في شبابي الذاهب لم تعد هي مصر التي أعرفها اليوم، وليس يلوح في الأفق بارق، يجعلنا نتفاءل بمستقبل واعد.
أما عن الجامعة، وما أدراك ما الجامعة! فقد تخلَّت عن دَورها كقاطرة للمجتمع إلى عالم لا يُقيم وزنًا لمن لا يُقيم للعلم — أي الجامعة — وزنًا، وآتي هنا بمقتبس من مقال «عصام العريان» روايةً عن العالم الكبير «محمد القصاص».
أقامت كلية العلوم بجامعة القاهرة مرصد القطامية، وكان الثالث في العالم قبل أمريكا الشمالية، كان ذلك عام ١٩٥٠م.
ساعد الاتحاد السوفييتي مصر في إقامة المفاعل الذري جنبًا إلى جنب الهند عام ١٩٥٤م. أين الهند الآن وأين المشروع النووي المصري؟ الهند لديها أسلحة ذرية وهيدروجينية، ومصر تُحوِّل المشروع النووي في الضبعة إلى منطقة سياحية.
«كان ترتيب قسم الكيمياء بعلوم القاهرة عام ١٩٦٠م تقريبًا العاشر على مستوى العالم، الآن ليس له ترتيب تقريبًا.»
انتهى المقتبس … وليس لديَّ من تعليق سوى أن الجامعة المصرية صارت صفرًا كبيرًا ربما يضارع في جِرمه صفرًا آخر كبيرًا هو صفر المونديال.
لكن … والحال هذه … هل ثم جدوى من إصلاح الجامعة؟ نعاود مقتبسًا آخر لكاتب آخر هو «عبد المنعم سعيد»، أختلف معه، ويختلف «رءوف عباس» معه في توجُّهاته الفكرية، لكنني أتفق معه ويتفق «رءوف عباس» معه في وصف ما قام به «صاحبنا» من إصلاح في قسم التاريخ بأنه «كان جملةً اعتراضية على واقع ممتد، ما لبثت الفضائل فيه أن ذرَّتها الرياح؛ لأن التطبيقات المؤسسية للنظرية الاجتماعية، لم تكن لها أن تقرِّر إلا دمارًا أخلاقيًّا وعلميًّا.»
ما يقوله «عبد المنعم سعيد» هنا قريب ممَّا قاله «عبد الرحمن بن خلدون» قبله بقرون مديدة؛ فهو لا يفصل بين حال العلم في زمان ما ومكان ما، وحال المجتمع الذي أفرزه؛ إذ إن مؤسسة العلم في جملة مؤسسات المجتمع تنهض بنهوضه وتهبط بهبوطه؛ أي إن هناك علاقةً عضوية بين هذا وذاك.
إصلاح العلم — إذن — رهنٌ بإصلاح المجتمع، وصلاح العلم — إذن — رهن بصلاح المجتمع، وسيرة «رءوف عباس» الذاتية موجهة إليهما معًا.
•••
في النهاية يكون الشكر واجبًا لكتيبة من النبلاء، تضم هؤلاء الذين حفَّزوا «رءوف عباس» «إلى كتابة ما كتب»، وفي طليعتهم «عبد العال الباقوري» و«إيمان يحيى» و«أحمد غُزلان»، كما تضم النبيل «مصطفى نبيل» الذي جازف بنشر كتاب، لا يُقدم على نشره إلا من كان في شجاعة كاتبه ونبالة كاتبه.
الشكر واجب كذلك لكتيبة أخرى من النبلاء، تضم «أحمد نبيل الهلالي» و«صلاح صادق» و«محمد الدماطي» … هؤلاء الذين ترافعوا عن مُوكِّلهم، دون أن يتقاضَوا منه ما هو حق لهم، فطوبى لهم ثم طوبى لهم ثم طوبى لهم.
ما يُحزنني أن أتلفَّت حوالي، فأجد «الهلالي النبيل» قد فارق دارنا هذه دار الفناء إلى دار الحق والبقاء، وهو الذي كان يملأ حياتنا حُبًّا وأملًا وحرية … مات قبل أن تُكتحل عيناه بمرأى الحكم الذي كان يتطلَّع إليه، تطلَّع «رءوف عباس» نفسه إليه.
أمَّا الصديق النبيل كسابقيه من الأصدقاء النبلاء «محمد رشاد» صاحب «الدار المصرية اللبنانية»، فليس بغريب منه أن يقدم على نشرة جديدة لهذا الكتاب، وهو الذي أقدم قبل سنوات على نشرة لكتاب آخر عن ستينية رءوف، فأضاف مكرمةً إلى مكرمة … جعله الله سباقًا إلى ما فيه خير الوطن وخير الشرفاء من أبناء هذا الوطن.
والشكر إليه تعالى في الأخير … هو نعم المولى ونعم النصير.