استدعاء الماضي
جلس الشيخ في حديقة منزله بعدما انقضى احتفال عائلي صغير بمناسبة وداع خمسة وستين عامًا من عمره، ساده الصخب الذي تشهده مثل هذه المناسبات في الأسرة المصرية، فتشابكت الأحاديث بين بعض الأطراف في تقاطع مع أحاديث أخرى دارت بين بعض الأطراف الأخرى. موضوع واحد اشتركت فيه هذه الأحاديث على اختلاف مداخلها هو ما يذكره المتحدِّث أو المتحدِّثة من ذكريات عن المحتفى به. والشيخ تارةً يشارك في الحديث، ويكتفي بالمتابعة تارةً أخرى، مبحرًا بفكره في بحر الذكريات، حتى إذا فرغ البيت من المحتفين، وعاد السكون يُرخي سدوله على المكان، وآوت الزوجة المتفانية التي قطعت مع الشيخ رحلة الأربعين عامًا الأخيرة من عمره، أوت إلى فراشها طلبًا للراحة بعد عناء خدمة الضيوف من الأهل. جلس الشيخ في حديقة المنزل الذي سكنه منذ أربع سنوات في مدينة العاشر من رمضان، بعدما تخفَّف من أعبائه الجامعية، وراح ينشد الهدوء بعيدًا عن صخب العاصمة التي لم تعد مكانًا مناسبًا للتأمُّل والإنتاج الفكري، بعدما فقد حي مدينة نصر — الذي اقتطع ثلاثة عقود كاملة من عمره — هدوءه في عصر «الانفتاح» أو «الانفلات»، فازدحم الحي «بالمولات» والمقاهي، وأصبحت شوارعه ساهرةً حتى الصباح، ولم يعد هناك أمل في الراحة وسط هذا الصخب، ففضَّل الشيخ ترك القاهرة إلى مدينة لا تبعد عنها كثيرًا، تُتيح له ولزوجه أن يعيشا ما بقي لهما من عمر بمنأًى عن معاناة الحياة القاهرية.
راح الشيخ — في جلسته تلك — يسترجع ما قطعه على طريق الحياة الطويل من خطوات لم تكن تمثِّل — دومًا — خطًّا ممتدًّا على استقامته، أو خطًّا صاعدًا إلى هدف مرسوم معلوم، بل كانت خطًّا فيه من التعاريج والانحناءات أكثر ممَّا فيه من الاستقامة والوضوح. ولم تكن تلك الطريق ممهدةً خالية من العثرات إلا نادرًا، كما لم يكن بين يدَيه دليل يحدِّد خطواته على تلك الطريق، فكان عليه أن يقطعها بما حباه به الله من خصائص جمعت بين العناد والإصرار والصبر، فاقت في حجمها أحاسيس الإحباط والعجز، وخيبة الأمل.
وها هو ذا وهو يتأمَّل طريقًا قطعها على مرِّ كل تلك السنين، يكاد يلمح آثار أقدامه على تلك الطريق التي اختلفت مواقعها، ولكنها تُسجِّل تجربة الشيخ الذاتية بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، وراء كل أثر منها قصة تُروى شهدها بعينَي عابر السبيل تارة، وعينَي رفيق الطريق تارةً أخرى، وكان بطل القصة تارةً ثالثة. وكثيرًا ما كان يروي بعض تلك القصص لأهله، وذويه، وتلاميذه، وباقة الصحاب الذين ارتاح إليهم في العقدَين الأخيرَين.
ولم تكن الرواية مقصودةً في ذاتها، ولكنها كانت دائمًا تأتي استجابةً لتداعي الذكريات بمناسبة ما يدور بينه وبين هؤلاء وأولئك من أحاديث ذات شجون. وكثيرًا ما ألحَّ عليه أولئك الصحاب أن يسجِّل تلك الحكايات على الورق؛ لظنهم أنها لا تخلو من فائدة لمن يقرؤها من أبناء الجيل الذي لم يعِش تلك الحياة التي عاشها صديقهم الشيخ، ولم يعرك تجرِبة ارتياد الطريق التي ارتادها صاحبهم الذي ينتمي إلى جيل مخضرم تفتَّحت عيونه على الدنيا في عهد الملك فاروق، واكتمل وعيه بهموم الوطن وهو — بعدُ — لم يبلغ الحلم، وشهد مولد ثورة يوليو ١٩٥٢م، وعاصر صعودها، وانتصاراتها، وكبواتها وإخفاقاتها، وقُدر له أن يمتد به العمر ليشهد أفول نجمها، وتصفية المشروع القومي العربي، وعودة الوطن العربي مرتعًا لأخطر أشكال الهيمنة والاستعمار.
تجرِبة غنية بمُرها وحلوها رسمتها آثار أقدام صاحبهم الشيخ على طريق الحياة الممتدة المتعرِّجة، المليئة بالانحناءات ونقاط الصعود والهبوط، فكثرت مطالبتهم له بتدوينها، بل تبرَّع أحدهم؛ إيمان يحيى أستاذ الطب، المفكِّر عاشق التاريخ أن يلتمس فضلًا من وقته يجلس فيه إلى صديقه الشيخ، يستمع إلى حكاياته ويدوِّنها بنفسه. وشارك في تحريضه على الكتابة صديقه الكاتب الكبير عبد العال الباقوري، وصديق عزيز آخر هو المثقَّف المناضل الوطني أحمد غزلان. لقد أفرط الصحاب في حسن الظن بصاحبهم، وربما بالغوا — إلى حد ما — في الاعتقاد بقيمة ما تركه الرجل من آثار أقدام على طريق الحياة.
طاف ذلك كله بذهن الشيخ وهو يسترجع آثار خطواته على طريق الحياة، وراح يستعيد مبرِّرات إحجامه عن تدوين خلاصة تجربته معها، فلم يكن الرجل من ذوي السلطان، ولم يتصل بأهله يومًا ما من قريب أو بعيد، ولم يكن في موقع ما في أي حزب سياسي بما في ذلك التنظيم السياسي في عصر الثورة، والأحزاب التي خرجت من عباءته، أو قامت على أطرافه، ولم يكن عضوًا بأي من التنظيمات السياسية الذي تعدها السلطة «خارجةً عن إطار الشرعية»، بل كان الرجل مستقلًّا، وإن كان بحكم انتمائه الفكري أقرب إلى يسار الحركة السياسية، مؤمنًا إيمانًا لا يتزعزع بالقومية العربية. ولكن شتان بين من كان له دور فعال في الحركة السياسية، ومن عاش على هامشها لا تتجاوز مشاركته فيها حدود ما كان متاحًا لغيره من المواطنين ممن ينتمون إلى «الأغلبية الصامتة»!
ولكن الصحاب لم يقنعوا بتلك المبرِّرات، وكثيرًا ما أكَّدوا أن تجربته تروي قصة التحوُّل الاجتماعي في مصر في نصف القرن الماضي — على أقل تقدير — كما تلقي أضواءً كاشفة على بدايات تجربة القطاع العام، والجامعة، والعمل الأهلي، وهي النقاط التي عبرت بها طريق حياته، وتركت أقدامه آثارها عليها؛ وأن ما عاناه من تجارب عند تلك المنعطفات لا يخلو من فائدة للجيل الجديد ممن يعنيهم أمر التحوُّلات التي شهدتها مصر على يد ثورة يوليو، والحياة الجامعية بإيجابياتها وسلبياتها، ومصاعب العمل الأهلي في مصر ومعوقاته. ورأى الصحاب في تلك التجارب ما قد ينفع من ينشدون الخير لهذا الوطن، ومن يعنيهم أمر النهوض به، وخاصةً أن صديقهم الشيخ يروي حكاياته لهم بشيء من التفصيل جعلهم يرَون فيه «حكَّاءً» متميِّزًا، يستطيع أن ينقل المستمع — ومن ثم القارئ — إلى جو الزمن الذي تدور حوله حكايته، فلماذا يضن الرجل على أبناء أجيال لم يدركوا ما أدركه من ظروف وتجارب بالوقوف على رؤيته للحياة المصرية في زمانه؟
استعرض الشيخ ذلك كله في تلك الأمسية الفريدة من شهر أغسطس الخامس والستين من حياته، واستقرَّ رأيه على أن يحدِّد على الورق آثار أقدامه على طريق الحياة، تلبيةً لرجاء أصدقائه واقتناعًا برأيهم، وأداءً لواجب نحو أجيال غاب وعيها بتاريخ وطنها، وتطوُّر مجتمعها، لظروف لم يكن لهم يد في صنعها. ولتكن قصة حياته واجبًا يلتزم به أمام الشباب. عندئذٍ أحسَّ الشيخ بالراحة، وأوى إلى فراشه، وقد عقد العزم على أن يروي حكايته، حكاية مواطن كان نتاجًا لتحوُّلات مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وحاول — ما وسعه الجهد — أن يكون نافعًا لوطنه وأمته. حكاية مصري عاش أحداث وطنه العربي؛ آمالها وآلامها. ولم يكن مجرَّد «مراقب» لثورة يوليو، بل كان من صنائعها، وواحدًا من جماهيرها.
وهو إذ يروي حكايته لا يتقيَّد إلا بما رآه، وسمعه، وعاشه، وكان شاهد عِيان له، دون مبالغة في الوصف، أو تزيين، أو تزييف، التزامًا منه بأمانة الكلمة مهما كانت دلالتها، ومهما كان وقعها.