موعد مع الرئيس
كان صاحبنا من أبناء الجيل الذي عاصر احتضار العصر الملكي، وعاش ثورة يوليو العظيمة بوعيه التام. شارك وهو بالمدرسة الثانوية في مظاهرات ١٩٥٤م المطالبة بالديمقراطية، وتطوَّع في الحرس الوطني مرتَين؛ أيام عدوان ١٩٥٦م، وعشية هزيمة يونيو ١٩٦٧م. وشارك في المظاهرات المعادية للأحلاف والمؤيدة للحياد الإيجابي أيام الدراسة بالجامعة، ومظاهرات التأييد للوحدة المصرية السورية، والمظاهرة الكبرى التي شهدتها القاهرة عشية الانقلاب على الوحدة، وهي التي سار فيها على الأقدام من شبرا إلى جامعة القاهرة، ووقف عبد الناصر يخطب في الطلاب على سلم مدخل إدارة الجامعة، وكان من حظ صاحبنا أن موقعه كان لا يبعد عن الزعيم الصامد سوى ثلاثة أمتار تقريبًا. ومشى مع الجماهير التي فُجعت بهزيمة ١٩٦٧م وتنحي الرئيس، مظاهرات ٩، ١٠ يونيو ١٩٦٧م، فسار من شبرا إلى مجلس الشعب، وكان من المبتهجين باستجابة الرئيس لنداء الجماهير، بقدر ما أصابه الهم والحزن عندما بدأت المحاكمات تكشف القصور الخطير في القوات المسلحة، فضلًا عن سوء إدارة الأزمة التي أدَّت إلى وقوع مصر في فخ الهزيمة. ولم يحزن على أقرب الناس إليه مثلما حزن على وفاة عبد الناصر. وتابع بقلق شديد سياسة السادات الداخلية والخارجية، وانتشى فرحًا بما حقَّقته القوات المسلحة من ثأر لهزيمة ١٩٦٧م، بقدر ما اكتأب عندما وقعت الثغرة. واستشرف الخطر وهو يتابع الطريقة التي أدار بها السادات الأزمة، وتمنَّى لنفسه الموت قبل أن يرى رئيس مصر معتليًا منصة الكنيست بالقدس، واضعًا «٩٩٪ من أوراق اللعبة» بيد القوة الإمبريالية المساندة للصهيونية.
لم يكن صاحبنا نموذجًا فريدًا في ذلك كله؛ فهو شأنه شأن غيره من السواد الأعظم من الشعب المصري من الفلاحين والعمال. كان صنيعة ثورة يوليو، ومن أصحاب المصلحة الحقيقية في نجاح برنامجها، ولكنه لم يكن من «دراويش» الثورة الذين ينخرطون في «أذكار» المناقب، بل كان ممن ينظرون نظرةً نقدية إلى الممارسات السياسية، فيقدِّر ما كان إيجابيًّا منها. وتوجَّس خيفةً على إنجازات الثورة، والاستفتاءات التي حوَّلت هذه الآلية الديمقراطية إلى مهزلة حقيقية، وتعاظم دور الأجهزة الأمنية وتعدُّدها، وكبت كل صوت ناقد باعتباره معارضًا خارجًا على النظام، والزج بالفصائل السياسية المعارضة في المعتقلات حيث تُهدر آدميتهم، وتُشرَّد عائلاتهم.
ورغم ما كان يُكنه من إعزاز وتقدير لعبد الناصر كزعيم وطني، ومناضل عظيم ضد الاستعمار، وبطل للتحرُّر الوطني، هاله مفهوم عبد الناصر للحرية السياسية والذي طرحه في خطابه الذي ألقاه بمناسبة المظاهرات الطلابية والعمالية التي قامت احتجاجًا على أحكام الطيران، ونادت بالحرية السياسية: «عاوزين حكومة حرة … العيشة بقت مرة.» وذلك بعد أقل من عام على مظاهرات ٩، ١٠ يونيو التي خرجت فيها نفس الجماهير تُعلن تمسُّكها بعبد الناصر؛ فقد استنكر الزعيم في خطابه المطالبة بالحرية، واعتبر أن الحرية تعني تكافؤ الفرص، وإتاحة فرصة التعليم والعمل والسكن أمام المواطنين؛ أي إنه ليس من شأن الجماهير مناقشة أي قرار سياسي فضلًا عن أن يكون لهم حق المشاركة فيه. وكان صاحبنا يرى أن عبد الناصر أهدر ظرفًا تاريخيًّا جلبته الهزيمة كان باستطاعته الاستفادة منه بإجراء إصلاح سياسي حقيقي تتخلَّص فيه البلاد من فساد التنظيم السياسي، والمؤسسات البيروقراطية، وتوحُّش أجهزة الأمن، ويصحِّح مسار التجربة كلها.
لقد كان عبد الناصر منحازًا انحيازًا تامًّا للفقراء، وقدَّم لهم من المنجزات ما لم يتحقَّق في تاريخ مصر من قبلُ ولا من بعد، ولكنه كان شديد الحذر من الاعتماد السياسي على الجماهير، وتنظيمها سياسيًّا ومشاركتها في صنع القرار، مكتفيًا بما له من شعبية عندهم، وهي وحدها لا تكفي لحماية النظام وقت الخطر، وهي نفسها الثغرة التي نفذ منها السادات لتصفية ثورة يوليو وإهدار إنجازاتها التنموية، وإثارة مُناخ التعصُّب الديني الناجم عن إفساح الساحة أمام التيار الإسلامي السلفي الرجعي الذي عرَّض الوحدة الوطنية للخطر، وأهدر أو كاد ما حقَّقته الوحدة الوطنية من منجزاتٍ منذ ثورة ١٩١٩م.
ورغم انتماء صاحبنا إلى ثورة يوليو قلبًا وقالبًا، وإلى الطبقة الاجتماعية التي ردَّت لها الثورة اعتبارها، وحفظت كرامتها، وفتحت أمامها أبواب الحراك الاجتماعي، إلا أنه عزف عن الانتماء إلى تنظيماتها السياسية من «هيئة التحرير» مرورًا ﺑ «الاتحاد القومي» إلى «الاتحاد الاشتراكي العربي»؛ فقد رأى رأي العين العناصر الوطنية الشريفة التي كانت على أتم استعداد للتضحية بحياتها دفاعًا عن الثورة تتعرَّض للعزل السياسي، وتفقد حقوقها في المشاركة في العمل السياسي والنقابي بسبب التقارير التي كان يكتبها الانتهازيون الذين لبسوا لباس حماة الثورة، وكانوا — في حقيقة الأمر — معاول هدم لها. وهكذا غلب على التنظيم السياسي مواكب النفاق والانتهازية من القاعدة إلى القمة. ولا أدل على ذلك من اشتراك هذه العناصر ذاتها في تصفية منجزات الثورة على مر العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
وهكذا كان صاحبنا يتخذ لنفسه مكانًا بين «الأغلبية الصامتة»، ولكنه يخرج عن صمته في محاضراته إلى تلاميذه وفي بعض المقالات التي كان يكتبها هنا وهناك، ناقدًا لسياسة القطاع العام، أو معبِّرًا عن رأيه في القضايا العامة، أو محذِّرًا من المساس بالوحدة الوطنية، القاعدة الصلبة للشخصية المصرية، والضمان القوي لتماسك المجتمع المصري. وكان له شرف الاشتراك مع نخبة من كبار المثقَّفين في تأسيس «الجمعية المصرية للوحدة الوطنية» في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين.
ولم يقدَّر لصاحبنا الاحتكاك بأهل السلطة إلا في عهد السادات، وكانت نتيجة ذلك الاحتكاك سلبية؛ فبعد عودته من قطر، وذات صباح من منتصف نوفمبر ١٩٧٨م، تلقَّى مكالمةً تليفونية بقسم التاريخ بآداب القاهرة قدَّم له المتحدِّث نفسه على أنه من رئاسة الجمهورية، وأخبره أنه «مكلَّف» بحضور اجتماع بعد غد له صفة سرية، وأن عليه أن يُحضر معه ما يكفيه من ملابس لمدة ليلتَين أو ثلاث ليال. وعندما قال صاحبنا لمحدِّثه إنه قد لا يتمكَّن من الحضور لمشاغل وارتباطات أخرى، قال محدِّثه إن التعليمات التي لديه عدم قَبول أي اعتذار، وانتهت المكالمة.
دُهش صاحبنا من هذه المكالمة، وخاصةً أنه لا صلة له بمؤسسات السلطة، كما كان غائبًا عن البلاد لمدة أربعة أعوام، ولم تكن له روابط بأي «شلة» داخل الجامعة أو خارجها. وقدَّر أن المكالمة ربما كانت مقلبًا سخيفًا دبَّره شخص ما على سبيل الدعابة «السخيفة»، واستعرض في ذهنه أسماء الأصدقاء الذين قد يكون صاحب المكالمة منهم فلم يجد بينهم من يقدم — في تقديره — على مثل هذه الصغائر. وهداه تفكيره إلى الاتصال بصديقه الدكتور جمال زكريا قاسم عميد آداب عين شمس، ليستعلم له عن الموضوع عن طريق صهره الذي كان ضابطًا برتبة لواء في الحرس الجمهوري. وعندما اتصل بجمال زكريا، اتضح أنه تلقَّى مكالمةً مماثلة، وأنه — أيضًا — يتشكَّك في صحتها. فلمَّا اقترح عليه صاحبنا الاتصال بصهره لاستطلاع جَلِيَّة الأمر، أعجبته الفكرة وقام بتنفيذها، وعاود الاتصال بصاحبنا ليُبلغه بصحة الأمر وجديته، واحتمال أن يكون هناك اجتماع بالإسماعيلية، أمَّا موضوعه فغير معروف.
عندما وصل صاحبنا إلى مكان التجمُّع بمعهد الدراسات الاشتراكية بمصر الجديدة في الثامنة صباحًا، وجد حشدًا من أساتذة الجامعات في تخصُّصات؛ الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصاد، والتخطيط، والتاريخ الذي كان يمثِّله جمال زكريا ومحمود متولي وصاحبنا. ورغم أن وجوهًا كثيرة بين الحضور كان لا يعرفها صاحبنا، إلا أنه أدرك أن الاختيار كان — على ما يبدو — عشوائيًّا، روعي فيه التركيز على من لم تكن لهم صلات بالاتحاد الاشتراكي، وإن كان اختيار محمود متولي ضمن هؤلاء يشي بعدم دقة المعلومات لدى من قام بالاختيار؛ فقد كان الرجل من العناصر التي هوت التسلُّق على كل تنظيمات الثورة، وله كتاب ضخم نُشر في منتصف الستينات بعنوان «الاتحاد الاشتراكي وعاء الديمقراطية»، وكان زملاؤه يفضِّلون دائمًا أن يستبدلوا بكلمة «وعاء» كلمة «طشت» كلما ورد ذكر الكتاب على لسان أحد، وكان رجلًا بريئًا من شبهة «القدوة»، فكان وجوده (على ما هو معروف عنه) يوحي بعدم الاطمئنان إلى من لا يعرفهم صاحبنا وصديقه جمال زكريا بين ذلك الحشد، الذين اتضح — بعد قليل — أن نصفهم تقريبًا كانوا من ضباط المخابرات الذين دُسوا بين أعضاء هيئة التدريس المدعوين.
شُحن القوم في ست سيارات ميكروباص تتبع إحدى شركات السياحة (تبيَّن أنها تابعة للمخابرات)، وكان بكل سيارة شخص بادَرَ الركاب بتحية الصباح معلنًا أنه «مندوب الرياسة»، وأن وجهة الركب الإسماعيلية. وعندما وصل الركب إلى الإسماعيلية وجدوا أنفسهم أمام المبنى القديم لإدارة شركة قناة السويس، وكان في استقبالهم عثمان أحمد عثمان، ومنصور حسن (وزير الثقافة) الذي كان من أمناء الحزب الوطني الديمقراطي الذي أسَّسه السادات بديلًا للحزب الذي أسَّسه في إطار تحويل الاتحاد الاشتراكي إلى منابر ثم أحزاب، وحمل اسم «حزب مصر العربي الاشتراكي»، ثم عندما أسَّس السادات «الحزب الوطني الديمقراطي» هُرع أعضاء حزب مصر الاشتراكي إلى حزب الرئيس، وتركوا حفنة من الأعضاء يحملون لافتة حزب مصر الاشتراكي ممن كان انضمامهم بدافع مبادئهم وليس نفاقًا لحامل صولجان السلطة.
صافح عثمان أحمد عثمان ومنصور حسن المدعوين ورحَّبا بهم، وعندما دخلوا وجدوا أنفسهم في قاعة اجتماعات تتسع لحوالي ثمانين شخصًا، صُفت مقاعدها في نحو ثمانية صفوف بكل منها عشرة مقاعد، تتصدَّرها منصة عريضة بجوار المدخل، تتسع لأربعة أو خمسة أفراد. واتخذ المدعوون مقاعدهم، ولاحظ صاحبنا أن جيب سترة الجالس بجواره بها جهاز لا سلكي ينقُل إشارات متبادلة مع الأمن، وضع الرجل فمه داخل الجيب الداخلي للسترة للرد عليها. وسرعان ما اكتشف أن الجلوس رُتِّب على أساس أن يجلس في كل صف ستة من أعضاء هيئة التدريس بينهم أربعة من ضباط المخابرات، واحد منهم على كل طرف، واثنَين بين الجلوس. وبعد نصف ساعة تقريبًا دخل السادات القاعة يتبعه محمد حسني مبارك (نائب الرئيس)، واتجه السادات عبر الممر الجانبي للقاعة إلى الصف الأخير وصافح الجميع فردًا فردًا (بما في ذلك ضباط المخابرات)، حتى وصل إلى الصف الأول ثم جلس إلى المنصة وعن يمينه نائب الرئيس، وعن يساره عثمان أحمد عثمان يليه منصور حسن. وخلت القاعة من رجال الصحافة والتليفزيون وكاميرات التصوير؛ فقد حرص منظِّموه على عدم وصول أخباره إلى الإعلام.
ساد الصمت القاعة بعدما اتخذ الرئيس مجلسه وكانت أنظاره متجهةً إلى سقف القاعة، أمَّا النائب فكان نظره على القاعة، وقد ضمَّ يدَيه إلى بعضهما البعض فوق المنصة، وظل كذلك حتى نهاية الاجتماع، بينما كان عثمان أحمد عثمان مبتسمًا يتبادل حديثًا هامسًا مع منصور حسن. وقطع الرئيس الصمت قائلًا: «فين الغليون بتاعي؟» فقام أحد الجلوس في الصف الأول ليقدِّم للرئيس غليونه والطباق، وأخذ الرئيس يحشو غليونه بالطباق باسترخاء وهدوء، ثم أشعله وأذِن لمنصور حسن في الكلام.
غادر منصور حسن المنصة إلى ميكروفون كان موضوعًا على بعد مترَين في مواجهتها إلى الجانب الأيسر منها، وبدأ كلمته بالإشارة إلى أنه بناءً على توجيهات الرئيس، جمع له هذه المجموعة من أساتذة الجامعات الذين روعي في اختيارهم التميُّز العلمي، والوطنية المتدفِّقة، وأنهم جاءوا ليستمعوا إليه، وهم على استعداد تام لأداء واجبهم الوطني الذي يكلِّفهم به الرئيس. وبدا هذا الكلام غريبًا لا يبعث على الطمأنينة، بل يوحي (لصاحبنا) أنه في طريقه للتورُّط في عمل يحدِّده السادات، وأصبح همه التفكير في مخرج من المأزق. ولاحظ أن منصور حسن رفع الكلفة تمامًا بينه وبين الرئيس، فلا يستخدم عبارات جرى العرف على استخدامها في مثل هذه المناسبات، فيقول له: «إنت طلبت كذا»، و«إنت كلفتني بكذا»، وكأنه يخاطب زميلًا أو رجلًا في نفس مستواه. وأعلن في ختام كلمته القصيرة أن «الكلمة الآن للسيد الرئيس».
صفَّق الحضور وساد القاعة صمت مطبق من جديد حتى سحب الرئيس عدة «أنفاس» من غليونه، ثم تنحنح، وبدأ الكلام بحديث طويل عن الكفاح الوطني ضد الإنجليز، واشتراك الشباب فيه، وارتفاع مستوى الوعي السياسي عندهم، وأن مبعث قلقه على مصر أن الشباب أصبح سلبيًّا لا يأبه للمشاركة في العمل العام؛ لأن مراكز القوى في الاتحاد الاشتراكي المنحل لم يقدِّموا له القدوة والمثل، كما أن الكُتاب ورجال الصحافة لم يهتموا بالشباب، وبذلك لا يبقى للعمل العام سوى جيله هو وجيل الوسط، وهما جيلان «أصابهما العفن»، ولا أمل فيهما في إعادة بناء مصر التي يحلم بها. وضرب مثلًا بمصطفى أمين، فقال إنه يعلم تمامًا أنه «وسخ»، وإنه أخرجه من السجن، وأعاده إلى العمل بالصحافة ليتصدَّى «للأوساخ» الذين يسمُّون أنفسهم «الناصريين» وعبد الناصر بريء منهم؛ فهم ينسبون إليه أفكارًا لم تدر بخَلَده. ولكنه صُدم عندما كتب ذلك «الوسخ» مقالًا بعنوان «أهلًا بالوفد». تحشرج صوت الرئيس عند هذا الحد، وقال: «ما شفتوش وساخة أكثر من كده؟!» فضجَّت القاعة بالتصفيق! صمت الرئيس برهة، ثم قال بنبرة حازمة وهو يلوِّح بسبابته إلى الحضور: «علشان كده جمعتكم؛ لأنكم نجوتم من «الوساخات»، ولأنكم «فخر» مصر، علشان تربوا لمصر جيل «نظيف» قوي يعيد لها مجدها الذي أضاعه «أصحاب الشعارات». عاوز شباب وطني مستعد لفداء الوطن بروحه، شباب قادر على حمل المسئولية في المستقبل، على أن تكون الوطنية والسمعة الطيبة هي معيار اختيار هؤلاء الشباب، الذين سيتم تنظيم دورات تثقيفية لهم ﺑ «معهد الدراسات الوطنية» الذي كان يسمَّى معهد الدراسات الاشتراكية، يتعلَّم فيه الشباب «الكلام الحنجوري»، والآن يريد أن يعلِّمهم حب مصر.» وأنه اختارهم ليكونوا هيئة التدريس بهذا المعهد، وسوف يلقاهم بعد ظهر الغد ليُطلعوه على برنامج الدراسة، الذين عليهم إعداده الليلة، ليُعرَض عليه في الصباح قبل حضوره الاجتماع.
وبعد انصراف الرئيس وصحبه، استبقى منصور حسن المدعوين في مقاعدهم، ووقف مرةً أخرى ليؤكِّد أن الأمل معقود عليهم، ويُبلغهم بمكان اجتماعهم مساءً لوضع برامج الدراسة، والأسس التي يجب مراعاتها عند وضع مواد الدراسة في أقسام المعهد الأربعة؛ التاريخ، والاجتماع، والاقتصاد، والعلوم السياسية. كان هم صاحبنا وصديقه جمال زكريا البحث عن مخرج لهذه الورطة، وقاما بوضع تصوُّر لمواد الدراسة. وكانت ليلةً حالكة السواد بالنسبة لصاحبنا، لم يطرق النوم فيها جفونه إلا عند الفجر. وهُرع الجميع إلى نادي المحافظة حيث الموعد الذي اتُّفق عليه في المساء لطرح البرامج على منصور حسن، وتسليم مُسَوَّداتها له لتُكتب بشكل لائق قبل تقديمها للرئيس. وحوالي الثانية بعد الظهر انتقل الجميع إلى مبنى شركة قناة السويس القديم للالتقاء بالرئيس في نفس مكان اجتماع الأمس، وبدأت مراسم الاجتماع بالطريقة نفسها من حيث ترتيب الجلوس في القاعة بين ضباط المخابرات وعلى المنصة، وطلب الغليون وتعبئته وإشعاله، ثم إعطاء الكلمة لمنصور حسن الذي أعلن للرئيس أن الجميع أدركوا المهمة التي كُلفوا بها، وأنهم بدءوا اجتماعهم المسائي باستلهام الأفكار الأساسية — التي وضعوها نبراسًا أمامهم — من خطابه، ثم أعطى الكلمة لكل من رؤساء الأقسام الأربعة الذين تمَّ اختيارهم مساء اليوم السابق، فألقى جمال زكريا كلمة رئيس قسم التاريخ، مشيدًا «بالحس التاريخي عند الرئيس»، مستعرضًا عناوين المقرَّرات، واعدًا بموافاة المعهد بتفاصيلها وأسماء من يقترحهم للتدريس. وفعل بقية رؤساء الأقسام الشيء نفسه، ثم ختم الرئيس الاجتماع بكلمة قصيرة (حوالي ربع ساعة) هنَّأ فيها الجميع على «الإنجاز الرائع» الذي حقَّقوه في زمن قياسي، وأن فكرة دعوتهم إلى الإسماعيلية كانت فكرةً صائبة حتى يُتاح لهم التفرُّغ للمهمة بعيدًا عن أعباء أعمالهم.
بعد انصراف الرئيس وبطانته، استبقى منصور حسن الحضور في أماكنهم، ليُعلن ضرورة تسليم جداول الدراسة وأسماء من يتم اختيارهم للتدريس له شخصيًّا بمكتب وزير الثقافة بالزمالك في تمام السابعة مساء السبت (أي بعد ٤٨ ساعة)، على أن يحضر هذا الاجتماع رؤساء الأقسام الأربعة، فاعتذر جمال زكريا للوزير عن عدم الحضور لأن لديه اجتماعًا آخر بالجامعة لا يستطيع التخلُّف عن حضوره، وأنه يفوِّض صاحبنا لحضور الاجتماع نيابةً عنه، فوافق الوزير.
ذهب صاحبنا إلى مكتب الوزير في الموعد المحدَّد، ليجد الدكتور عبد الملك عودة الذي اختير رئيسًا لقسم العلوم السياسية قد سبقه إلى هناك بدقائق، وكان الوزير جالسًا إلى مكتب صغير (نسبيًّا) وبجواره رجل متوسط القامة يهمس للوزير بحديث بدا من رد فعل الوزير أن هذا الرجل قد يكون سكرتيره أو أحد صغار موظفي مكتبه. وفضَّل الوزير أن يرى ما في جَعبة الرجلَين اللذَين حضرا في الموعد بادئًا بقسم التاريخ، فعرض صاحبنا المواد، وأسماء من يقترح القسم إسناد تدريسها إليهم. وكان من بين من ذكرهم يونان لبيب رزق، وإسحاق تاوضروس عبيد، وكل منهما كان حجةً في الموضوع الذي اختير من أجله.
ما كاد صاحبنا يصل إلى ذكر الاسمَين حتى قاطعه الرجل الجالس بجوار الوزير قائلًا: «مش لازم دول. شوفوا حد تاني … الأساتذة كثر.» فردَّ عليه صاحبنا بقوله: «لا شأن لك بهذا؛ فأنا لا أوجِّه الحديث إليك وإنما إلى سيادة الوزير.» فتدخَّل منصور حسن قائلًا: «الله … هو إنت متعرفش الدكتور مصطفى السعيد، ده زميلك في جامعة القاهرة، ثم لماذا الإصرار على هؤلاء؟»
هنا لاحت لصاحبنا فرصة ذهبية للخروج من مأزق التعاون مع نظام السادات، فرد على الوزير قائلًا: «يظهر سيادتك نسيت الدرس العظيم اللي قدمه لنا الرئيس من يومين بس … الرجل قال إنه يريد إعداد شباب جديد لمصر، يتدفَّق بالوطنية، وأكَّد على ألَّا يكون هناك تمييز، وكلام سيادتك غريب ومتناقض مع ما تعلَّمناه من الرئيس. هل معنى هذا أن من يُختارون للدراسة لن يكون بينهم أقباط؟» فنفى الوزير ذلك، واستطرد صاحبنا: «إذا كان كلامك صحيح، وإن كانت الشواهد تدل على غير ذلك، فما معنى الاعتراض على اثنَين من الأساتذة الأكْفاء الوطنيين المصريين بدون سبب سوى ديانتهما؟ إننا نتمسَّك بما قدَّمناه من أسماء.»
وهنا قال الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الملك عودة: «وأنا أنضم إلى قسم التاريخ في هذا الموقف؛ فلديَّ زميلان من الأقباط اخترتهما للتدريس ولست على استعداد لاستبدال أي منهما بآخر؛ لأنهما حجة في مجالهما.» فقال الوزير: «على العموم يأخذ الدكتور مصطفى السعيد الجداول منكم للنظر فيها وسوف يتم الاتصال بكم فيما بعد.»
ولم يتلقَّ صاحبنا ولا عبد الملك عودة اتصالًا من أحد، وتأخَّر افتتاح برنامج تدريب الشباب بالمعهد نحو ستة شهور، ليتم على يد عناصر أخرى غير تلك التي سيقت لمقابلة السادات بالإسماعيلية على ذلك النحو الغريب. ويكشف موقف منصور حسن وتابعه مصطفى السعيد عن المنزلق الذي قاد السادات مصر إليه، فليس من المنطقي أن يكون موقف الوزير مغايرًا للتعليمات التي يتلقَّاها من الرئيس، بل كان خطًّا عامًّا التزمه النظام، والدليل على ذلك التجربة المريرة التي مرَّ بها صاحبنا نفسه، وكان له فضل فضحها أمام الرأي العام.
فقد كان صاحبنا يضع امتحانات الثانوية العامة في السنوات ١٩٨٢–١٩٨٧م لمادة التاريخ، وكان حريصًا على أن يكون الامتحان في مستوى الطالب المتوسط، مع جعل نصيب الأسئلة التي تحتاج إلى تفكير لا تسميع لا يقل عن ٦٠٪، كما كان حريصًا على الإفلات من النمطية حتى لا تتحوَّل الأسئلة إلى شكل ثابت يساعد مافيا الدروس الخصوصية على «توقُّع» ما تأتي به كل عام، حتى ضاق صاحبنا ذرعًا بما تُسبِّب له هذه المهمة من توتُّر وقلق، فاعتذر عن عدم وضع أسئلة عام ١٩٨٨م بحجة أن ابنة أخيه بالثانوية العامة ذلك العام، ورفض أن يضع امتحان السودان أو امتحان غزة، ونفض يدَيه من هذه المهمة المزعجة.
وعندما كان معارًا للجامعة الأمريكية بالقاهرة، اتصل به عام ١٩٩٢م مستشار المواد الاجتماعية بوزارة التربية والتعليم يستأذنه في أن يتولَّى وضع امتحان الثانوية العامة ذلك العام، فاعتذر صاحبنا عن عدم القَبول لأن جدوله لا يسمح له بفراغ يجتمع أثناءه باللجنة الثلاثية ليرجع إلى رأيها، ثم يضع الامتحان وحده، ولا يسمح لهم إلا بوضع توقيعاتهم في المكان المخصَّص لذلك مبالغةً في الحفاظ على السرية، كما درج على ذلك طوال السنوات السابقة التي وضع فيها الامتحان.
وبعد ترجٍّ وتمنٍّ سأله مستشار المواد الاجتماعية أن يرشِّح له أحد الأساتذة لوضع الامتحان، فاقترح على الفور اسم يونان لبيب رزق، فضحك الرجل على الطرف الآخر من الخط وقال: «هو سيادتكم مش عارف إن الأمن مانع أهل الذمة من وضع الامتحانات؟» فاستنكر صاحبنا ذلك، وأرجع ذلك إلى موقف شخصي من محدِّثه، فأقسم «بتربة أبوه» أن تلك تعليمات معروفة للجميع، ولا يملك أحد الخروج عنها. وطلب اسمًا آخر، فرشَّح له صاحبنا عاصم الدسوقي، فقال: «لأ لأ ما هو ده اللي عمل مشكلة للوزارة السنة اللي فاتت لأنه وضع امتحان التاريخ وجاب فيه سؤال عن فلسطين.» وعندما استغرب صاحبنا أن يكون الجزء الخاص عن فلسطين في المقرَّر قد حُذف، فردَّ عليه بأنه موجود، ولكن اتفاقيات التطبيع تمنع ذلك، وأن وجود سؤال عن فلسطين في العام الماضي «وضع الوزارة في موقف بالغ الحرج». هنا لم يملك صاحبنا سوى أن يلعن آباء محدِّثه وجدوده، ويتهمه بالعمالة، ويتوعَّده بأن يبلغ ذلك للوزير. الغريب أن الرجل تلقَّى الإهانة برحابة صدر ولم يقل أكثر من: «الله يسامحك يا بك … وزير إيه؟ إنت فاهم الوزير يقدر يكسر كلام الأمن؟»
فكَّر صاحبنا في أن يكتب للوزير طالبًا المقابلة، أو أن يكتب له مذكرةً تفصيلية بما حدث من محمد فوزي مستشار المواد الاجتماعية (الذي لا يعرفه معرفةً شخصية). ولكنه استعاد كلام الرجل معه، وقلَّبه على مختلِف الوجوه، فوجد أن رجلًا في هذا المركز الذي يعادل وكيل وزارة أول لا يمكن أن يورِّط نفسه في حديث من هذا النوع، إلا إذا كان واثقًا من أن يد الوزير لن تطوله؛ لأن المسألة تتعلَّق بالأمن. واستقرَّ رأي صاحبنا على فضح هذا العفن الذي أصاب الإدارة المصرية، بكتابة خطاب مفتوح للوزير يُنشر بالأهرام. فأعدَّ الخطاب موجَّهًا للوزير كزميل (بحكم كونه أستاذًا) باعتبار أن الأستاذية هي الأبقى وأن الوزارة عرض زائل، لا يبقى منه إلا ما قدَّمه الوزير لبلاده، وبعد تناول القضية، اعتُبر الوزير مسئولًا أمام الرأي العام عن إيضاح أسباب هذا التردِّي الذي وقعت فيه الوزارة بضرب الوحدة الوطنية والتنكُّر لقضية فلسطين خدمةً للتطبيع.
اتصل صاحبنا بالمسئول عن صفحة الرأي في الأهرام يسأله عن إمكانية النشر، وعندما علم الرجل بالموضوع اعتذر عن عدم إمكانية ذلك بحجة أن «تقاليد» الأهرام تمنعه من ذلك. وكان صاحبنا على موعد اللقاء الأسبوعي مساء كل سبت مع صديقه جلال السيد ومجموعة من الأصدقاء، على رأسهم عبد العال الباقوري الذي كان (عندئذٍ) رئيسًا لتحرير الأهالي. وعندما استعلم الأصدقاء من صاحبنا عن سر تجهُّمه أخبرهم بالأمر، فأبدى عبد العال الباقوري استعداده أن ينشر المقال على الصفحة الأولى بالأهالي، وقد كان.
وبمجرَّد صدور الأهالي صباح الأربعاء، طلب حسين كامل بهاء الدين اجتماع لجنة التعليم بمجلس الشعب، فاجتمعت اللجنة على عجل، ووقفت منى مكرم عبيد تهاجم صاحبنا وتتهمه ﺑ «العبث» بالوحدة الوطنية! وهو موقف فهمه صاحبنا جيدًا لأنه كان مشرفًا مشاركًا لمحمد محمود الجوهري على رسالة منى مكرم عبيد للدكتوراه في منتصف الثمانينيات وقام وزميله بإسقاط قيدها لعدم جديتها في الدراسة، فرأت في القضية مناسبةً لتوجيه ضربة لصاحبنا، ومجاملة الوزير. واتخذت اللجنة قرارًا بالتحذير من اتخاذ التعليم أداةً للصراع السياسي!
نُشر قرار اللجنة بصفحة أخبار الدولة بالطبعة الأولى بجريدة الأخبار، وأُسقط من باقي الطبعات، كما لم يرد له ذكر بالأهرام أو غيره من الصحف القومية وغيرها؛ فقد صدرت تعليمات شفوية من سلطة السيادة بمنع إثارة موضوع قرار لجنة التعليم، ورد وزير التعليم في الأسبوع التالي موجِّهًا اللوم لصاحبنا لأنه «وهو المؤرِّخ لم يتحرَّ الدقة»، وأخذ كلام شخص غير مسئول مأخذ الحقيقة. فردَّ عليه صاحبنا بمقال فنَّد فيه مزاعمه، ولامه لإسقاط النقطة الخاصة بقرارات التطبيع من ردِّه، وأكَّد له أن لديه معلومات تؤكِّد أن تعليمات منع الأقباط من وضع الامتحانات تمتَد إلى تأليف الكتب الدراسية أيضًا، وأنه إذا لم تكن هناك يد أعلى من يده في الوزارة، فعليه أن يفسِّر ذلك أمام الرأي العام.
كانت جهة «سيادية» قد نبَّهت على «الأهالي» بالوقوف بالموضوع عند هذا الحد، ويؤكِّد ذلك أن نارًا كانت وراء الدخان، وخاصةً أن صاحبنا تلقَّى رسالتَين من اثنَين من قادة الأقباط في المهجر يمتدحان موقفه، ودفاعه عن «زميله القبطي»، فردَّ عليهما صاحبنا على الفور مبيِّنًا أن القضية تتعلَّق بالمبادئ لا بالأشخاص، وذكر لهم موقف منى مكرم عبيد ضده في لجنة التعليم بمجلس الشعب، وأن ٩٠٪ ممن اتصلوا به مؤيدون كانوا مصريين مسلمين، وأن الحرص على مصر كان وراء كل ما حدث.
نجا صاحبنا من ورطة التعاون مع نظام السادات وحزب خدَم السلطان، ليواجه مأزقًا جديدًا، عندما دُعي للعمل خادمًا لآل بيت السادات؛ فقد استدعاه عميد الكلية يومًا لمقابلته، وعندما التقاه انتحى به جانبًا وقال له: «السيدة جيهان السادات عاوزه تشوفك.» فسأل صاحبنا عن السبب، فقال العميد إنه يبدو أنها تريد استشارته في مسألة تاريخية تتصل بدراستها، وأن بعض من تثق بهم زكَّاه لها؛ ولذلك عليه الحضور لمقابلتها يوم الثلاثاء (وهو اليوم الذي تلقي فيه درسًا في اللغة العربية على طلاب الفرقة الأولى قسم اللغة الألمانية بحكم كونها معيدةً بقسم اللغة العربية). ردَّ صاحبنا على العميد بأنه لا يحضر إلى الكلية إلا أيام السبت والإثنَين والأربعاء، وأنه أستاذ مساعد يجب أن يسعى المعيد إليه لا أن يسعى هو إلى المعيد، وأن السيدة جيهان إذا كانت بحاجة إلى استشارته تستطيع مقابلته في مكتبه في أحد تلك الأيام الثلاثة كما يفعل غيرها من المعيدين، وأدار ظهره للعميد وانصرف.
كان لقاؤه بالعميد يوم السبت، وكرَّر العميد استدعاءه يوم الأربعاء، ففهم أن لذلك علاقةً بالموضوع الذي حدَّثه بشأنه، فذهب للقائه. استبقاه العميد حتى صرف من كان بحضرته، ونبَّه على السكرتارية وساعي المكتب بعدم السماح لأحد بالدخول، حتى إذا خلا الجو، راح العميد يكرِّر ما قاله من قبل، مضيفًا إليه أنه أبلغ السيدة جيهان بتعذُّر حضوره لمقابلتها يوم الثلاثاء، واستعلم منها عن الموضوع الذي تريد الاستعانة به فيه (لاحظ الفرق بين «الاستشارة» و«الاستعانة»)، فاتضح أن الأمر يتصل بابنتها التي تدرس الماجستير في تاريخ الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية، وأنها تنتظر منه أن يحدِّد اليوم موعدًا يزور فيه بيت الرئيس برفقة أحد رجال الرياسة الذي سيحضر بسيارته لاصطحابه من الجامعة إلى هناك، فرفض صاحبنا ما طرحه عليه العميد، وكرَّر ما قاله له من قبلُ أنه على استعداد للقاء من يريد استشارته في مكتبه بالقسم في الأيام التي يتواجد فيها بالكلية، وأدار ظهره — مرةً أخرى — للعميد وانصرف.
وفي يوم السبت التالي استدعاه العميد في الحادية عشرة، وعندما دخل إلى مكتب العميد، كانت هناك فتاة سمراء نحيفة القوام قدَّمها له: «السيدة نهى السادات.» ثم غادر حجرة المكتب وتركهما معًا. قالت ابنة الرئيس إنها تدرس الماجستير بالجامعة الأمريكية، وإنها تُعد بحثًا عن «حزب الوفد»، وإنها بحاجة إلى استشارة أستاذ متخصِّص، والجامعة الأمريكية ليس فيها من يمكن اللجوء إليه، وإنها استشارت بعض معارفها فأوصَوها باللجوء إلى صاحبنا باعتباره صاحب الاختصاص في الموضوع. فقال لها إن المعلومات التي وصلتها خاطئة؛ لأنه متخصِّص في التاريخ الاجتماعي وليس السياسي، وإنه ينصحها باللجوء إلى عبد العظيم رمضان أو يونان لبيب أو هما معًا؛ فهما المختصان بهذا المجال. وراح يعدِّد لها كتب ودراسات الأستاذَين. فسكتت برهة، ثم قالت إنها متأكِّدة أنه أنسب المتخصِّصين لمساعدتها. فاعتذر لها عن عدم إمكانية قيامه بهذا، وأوصاها بالاستعانة بوالدها «لأنه الوحيد في مصر الذي يعرف حقيقة حزب الوفد.» وتركها في حجرة العميد وانصرف.
وبعد نحو ساعتَين، بينما كان يتأهَّب للانصراف، استدعاه العميد، وذهب للقائه، فوجد الغرفة خاليةً (على غير العادة) إلا منه، وشكره العميد على لقائه بالسيدة نهى (الذي لم يكن هناك مفر منه)، وتردَّد قليلًا قبل أن يقول على استحياء، إن اختيارها لك يعود إلى أنك الوحيد الذي له كتابات بالإنجليزية، وإنها في حاجة إلى من يكتب لها البحث.
هبَّ صاحبنا واقفًا من هول ما سمع، وانفجر في العميد قائلًا: «إنت عارف قاعد فين، قاعد على كرسي طه حسين، وبتشتغل نخاس، بتبيع أساتذة الكلية في سوق العبيد!» وخرج من الغرفة صافعًا الباب خلفه.
حدث هذا في ربيع ١٩٨١م، وكان صاحبنا يتأهَّب لتقديم أوراقه للجنة الترقيات للحصول على درجة الأستاذية. وكان قياس الأمور بمعايير «المصلحة» الشخصية يسوقه إلى مداهنة العميد، وليس إهانته إلى هذا الحد، وخاصةً أن زميله حسن حنفي تأخَّرت ترقيته لِمَا يقرب من العامَين لأنه اعترض في مجلس الكلية على حصول جيهان السادات على درجة الليسانس بتقدير ممتاز، رغم أنها لم تظهر بقاعات الدرس إلا أيامًا معدودة طوال العام الدراسي. ولكن شيئًا من هذا لم يدخل في حسابه؛ فقد أحس هو نفسه بذروة الإهانة عندما طلب منه العميد أن يكتب البحث لبنت الرئيس.
ومضت الشهور، وجاء سبتمبر ١٩٨١م، ونُكبت كلية الآداب بنقل عدد من خيرة أساتذتها خارج الجامعة في هجمة سبتمبر الشهيرة. وفي أول مجلس كلية يُعقد بعد هذه الكارثة بأسبوع واحد، عُرض على مجلس الكلية طلب مقدَّم من السيدة جيهان أنور السادات (البنت الصغرى للرئيس) المعيدة بكلية التربية فرع الفيوم، قسم اللغة الإنجليزية، تطلب فيه نقلها إلى قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب (لقربها من مكان منزلي). فاستشاط صاحبنا غضبًا (وكان عضوًا بالمجلس عن الأساتذة المساعدين)، وقال للعميد إن عرض هذا الموضوع فيه امتهان للمجلس وأعضاء هيئة التدريس بالكلية، واستفزاز لمشاعرهم، والأحرى بالمجلس أن يرجئ النظر فيه لأجل غير مسمًّى، فردَّ العميد بأن مجلس قسم اللغة الإنجليزية وافق على الطلب، ونحن أمام حالة روتينية متكرِّرة، ولا يجب أن تزر وازرة وزر أخرى. فأصرَّ صاحبنا على طرح الموضوع للتصويت، وفي مثل هذه الحالة تؤخذ أصوات الموافقين أولًا، ثم يليهم غير الموافقين، ففوجئ صاحبنا بموافقة الأغلبية على الطلب!
كانت أوراق ترقية صاحبنا إلى الأستاذية بين يدي اللجنة المختصة، وكانت هناك إشاعة قوية أن هناك قرار آخر سيصدر بعد احتفالات السادس من أكتوبر بإبعاد آخرين خارج الجامعة، وأضحى صاحبنا يعاني الحسرة والاكتئاب، ويرى أن جو الجامعة قد سمَّمه الفساد، والتذلُّل للسلطة، وأنه لو بقي بالجامعة أو طُرد منها سيان، وإذا رُقي أو لم يرقَّ، فلن يغيِّر ذلك من الحقيقة المُرة شيئًا.
اغتيل السادات في السادس من أكتوبر، وعاد الزملاء المُبعدون إلى أعمالهم، واستقالت — فيما بعد — جيهان السادات وابنتها من الكلية، وبدأت العناصر الانتهازية تُعيد ضبط مواقفها على بوصلة الحاكم الجديد، فأصبح هناك جو صالح نسبيًّا. وحصل صاحبنا على الأستاذية في ديسمبر، واختاره العميد نفسه رئيسًا للقسم في أبريل ١٩٨٢م بعد وفاة رئيس القسم، رغم كونه أحدث الأساتذة الثلاثة الموجودين بالقسم، لاعتبارات رأى فيها الرجل أن من مصلحة القسم أن تُسند أموره إليه.
وبعدما ترك الرجل العمادة، جمعته بصاحبنا فرصة لقاء منفرد، عندما استجاب لطلب العميد الجديد فخصَّص لسلفه مكتبًا بقسم التاريخ، وكان في استقباله عند وصوله إلى المكتب مرحِّبًا، وقدَّم له سكرتيرة القسم وقال له إنها في خدمته أولًا، ثم في خدمة القسم إذا توافر لها فضل من وقت. وفي هذه المناسبة انفرد الأستاذ الجليل بصاحبنا وقال له إنه مدين له بالاعتذار عن واقعة بنت الرئيس، فردَّ صاحبنا بأنه هو الذي يجب أن يعتذر عن الطريقة التي ردَّ بها عليه. وظلَّت علاقته بالأستاذ الجليل وديةً إلى أبعد الحدود.