خارج الجامعة
امتدَّت ساحة النشاط العلمي لصاحبنا خارج الجامعة، فكان له دور أساسي في أبرز المراكز البحثية منذ عام ١٩٧٩م (تاريخ عودته من الإعارة إلى قطر). ويأتي «مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام» في مقدمة تلك المراكز. تلقَّى صاحبنا خطابًا رقيقًا من السيد يس (مدير المركز) يدعوه للانضمام إلى أسرة المركز (فبراير ١٩٧٩م) وتولِّي رئاسة وحدة الدراسات التاريخية به، فلبَّى الدعوة، وأعدَّ مشروعًا مبدئيًّا لدراسة تطوُّر المجتمع المصري، على أمل تكوين «مجموعة بحثية» تشتغل به على مراحل، بحيث ينتهي العمل فيه في بحر ثلاث سنوات، مستفيدًا في ذلك من خبرته بالتجربة اليابانية في تنظيم المجموعات البحثية وإدارتها. ولكنه لم يضع في حسبانه أن صيغة العمل في إطار «الفريق» غريبة على المجال الأكاديمي المصري، وخاصةً في العلوم الإنسانية، فلم يلقَ استجابةً جادة ممن اتصل بهم من الزملاء لتكوين المجموعة البحثية. الغريب أن أحدًا لم يرفض الانضمام، ولكن لم يلتزم أحد بالترتيبات والتكليفات التي تمَّ اقتراحها؛ ولذلك صرف صاحبنا جهوده إلى إعداد كتاب صدر عام ١٩٨١م بمناسبة الذكرى المئوية للثورة المصرية التي سُميت ﺑ «العرابية»، حشد له أقلام المتخصِّصين من ثلاثة أجيال؛ جيل أساتذته، وجيله، وجيل تلامذته، واختار له عنوان «مصر للمصريين، مائة عام على الثورة العرابية»، ولم يشأ أن يضع اسمه كمحرِّر على غلاف الكتاب حياءً؛ لأن أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى كان في مقدمة المشاركين.
وتوالت بعد ذلك المشروعات البحثية ذات الموضوع المحدَّد التي يسهل حصر من يصلحون للمشاركة فيها وتكليفهم بكتابة فصولها مثل: «المصريون والسلطة»، وهو كتاب ضاعت أصوله بالمركز، ولم تكن لدى صاحبنا نسخة منها، و«الحركة الوطنية في مرحلتها الأخيرة»، و«الأحزاب السياسية المصرية»، و«حرب السويس بعد أربعين عامًا»، «ثورة يوليو بعد أربعين عامًا»، وكلها كتب طُبعت في مطلع التسعينيات، أمَّا مشروع البحث في «الثقافة السياسية في مصر» فلم يرَ النور بعد.
ولمَّا كان المركز يولي جمع وثائق مصر بالأرشيف البريطاني أهميةً خاصة، وكان حسن يوسف باشا قد بدأ جمعها لتغطية الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية، فقد حرص السيد يس على استكمال هذا العمل، فأوفد صاحبنا في مهمتَين علميتَين لحساب المركز للاطلاع على الأرشيف البريطاني بلندن وتصوير مجموعة مختارة من الوثائق، التي تمَّ ترتيبها ترتيبًا زمنيًّا وموضوعيًّا، واستخدم بعضها في البحوث السالفة الذكر، وكانت حجر الزاوية في تكوين المكتبة الوثائقية التي أضافت إليها هدى جمال عبد الناصر مجموعة الوثائق الأمريكية عن الفترة ذاتها عندما تولَّت تأسيس وحدة تاريخ الثورة ورئاستها.
كانت اجتماعات مجلس خبراء المركز — أيام رئاسة السيد يس — جلساتٍ خصبةً من حيث طرح الموضوعات، وما يدور حولها من حوار، شارك فيها خبراء المركز من هيئة التدريس بالجامعة؛ علي الدين هلال، محمد السيد سليم، سعد الدين إبراهيم، وصاحبنا. إضافةً إلى الخبراء من شباب الباحثين بالمركز؛ محمد السيد سعيد، وعبد المنعم سعيد، ومجدي حمادة، وأسامة الغزالي حرب، وفتحي عبد الفتاح. وكان السيد يس يدير الحوار بكفاءة واقتدار، وشهدت تلك الاجتماعات طرحًا جريئًا لأفكار وتحليلات سياسية لا تجد منبرًا لها في الوسط الأكاديمي المصري سوى مركز الدراسات السياسية، وكان يحضر بعض تلك الاجتماعات بطرس غالي لمناقشة عملية التفاوض مع إسرائيل، وأُسس السلام المرتقب. ويذكر صاحبنا أن شباب الخبراء كانوا يُحاجُّون بطرس غالي بقدر كبير من «الحدة والتطرف» معبِّرين عن التحسُّب لِمَا قد يترتَّب على هذا الاتجاه من تبديد الأماني القومية، وتآكل دور مصر الإقليمي. وكان أكثر هؤلاء تشدُّدًا من أصبحوا بعد ذلك من مهندسي «مجموعة كوبنهاجن» ومؤسسي «جمعية القاهرة للسلام» التي ماتت في المهد، وسبحان مغيِّر الأحوال.
وعندما ترك السيد يس رئاسة المركز ليتولَّى أمانة منتدى الفكر العربي بعمان، حافظ أسامة الغزالي حرب (الذي قام بعمل الرئيس) على الوحدة التاريخية، وكان عونًا لصاحبنا على نشر ما تأخَّر نشره من أعمال، وعلى إصدار الدراسة الخاصة بثورة يوليو ولكن بعد أن صدَّرها بمقدمة تضمَّنت «ضمنًا» الاعتذار عمَّا ورد بالكتاب من إنصاف للثورة، فعد هذه الدراسات تمثِّل «وجهة نظر» تُقابلها وجهات نظر أخرى، رغم أن الكتاب لم يُغفل تحليل السلبيات وإبرازها.
وضعفت علاقة صاحبنا بالمركز عندما أصبح عبد المنعم سعيد رئيسًا له، وخاصةً بعد مسألة «كوبنهاجن»، ولاحظ صاحبنا من بعض المؤشِّرات أن رئيس المركز لا يُفسح مكانًا لوحدة الدراسات التاريخية التي ما تزال موجودةً على الورق، وما زال اسم صاحبنا يُذكر على موقع المركز بالشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) كرئيس للوحدة التاريخية.
ساحة أخرى شهدت جانبًا من النشاط العلمي لصاحبنا هي «دار الكتب والوثائق القومية» التي ارتبط بها ارتباطًا وثيقًا بحكم اهتمامه بإصلاح شأن دار الوثائق القومية لترقى إلى المستوى العالمي للأرشيفات التاريخية، بحكم كونها مستودع ذاكرة الأمة، فكتب العديد من المقالات بالصحف ومجلة «الهلال»، مطالبًا بالحفاظ على الوثائق وحمايتها، وجعل دار الوثائق هيئةً قائمة بذاتها تتبع سلطة السيادة، لتعزيز صلاحياتها القانونية في التعامل مع الجهات المنتجة للوثائق.
وكان لدور صاحبنا بدار الوثائق القومية ثلاثة أبعاد؛ أولها رئاسة «لجنة الضم والاستغناء»، وهي لجنة بالغة الأهمية تضم في عضويتها أحد أساتذة الوثائق ومستشارًا من مجلس الدولة، ورئيس دار الوثائق، ومدير إدارة الضم. وتُعرض على اللجنة القوائم الواردة من مختلِف الوزارات والهيئات الحكومية والتي تتضمَّن الوثائق التي انتهت مدة حفظها بتلك الجهات وفق لائحة المحفوظات الحكومية، وتقوم اللجنة بفحص نماذج منتقاة من تلك الوثائق، فإذا رأت أن في بعضها قيمةً تاريخية، قرَّرت ضمَّها للدار، وإذا رأت غير ذلك، رخَّصت للجهة المعنية بالاستغناء عنها، وعادةً ما يتم ذلك ببيعها لشركة صناعة الورق لإعادة تدويرها. وهنا تكمن خطورة هذه اللجنة وضرورة اتخاذها القرار المناسب، وإلا تمَّ إهدار وثائق مهمة في حالة الاستغناء عنها، أو ازدحام مخازن الدار بمجموعات من الوثائق ليست لها قيمة تاريخية. وقد استمرَّت رئاسة صاحبنا لهذه اللجنة قرابة العشرين عامًا.
ونظرًا لهذه الخبرة بالوثائق، والمعرفة بأحوال دار الوثائق القومية، اختير صاحبنا عضوًا بلجنة مُصغَّرة شكَّلها رئيس الهيئة (محمود فهمي حجازي) للنظر في تطوير دار الوثائق وتحديثها، وإعداد مشروع قانون جديد للمحافظة على الوثائق وحمايتها. ومارست اللجنة عملها لمدة ١٨ شهرًا وضعت خلالها مشروعًا متكاملًا لتطوير الدار، كما وضعت مشروعًا لقانون حماية الوثائق استرشدت فيه بدراستها لقوانين الأرشيفات؛ الإنجليزي، والفرنسي، والإيطالي، وقرارات المجلس الدولي للأرشيف، وقوانين الوثائق ببعض الدول العربية. ولكن عندما قدَّمت الحكومة مشروع القانون — بعدما يزيد على العامَين — لمجلس الشعب، جاء المشروع مُخيِّبًا للآمال؛ فقد قام «ترزية» القوانين بحذف بعض المواد المهمة التي جاءت بمشروع لجنة التطوير، وعدَّلت بعضها الآخر بالقدر الذي بدَّد الهدف الذي قصدته اللجنة من ورائها.
كذلك تولَّى صاحبنا الإشراف على مركز تاريخ مصر المعاصر التابع لدار الكتب المصرية عندما تولَّى جابر عصفور رئاسة الهيئة إلى جانب موقعه كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة مدة ستة شهور. وكان المركز تحت إشراف عبد العظيم رمضان لعدة سنوات لم يُنتج فيها شيئًا سوى ما كان ينشره من مذكرات سعد زغلول التي كان يتولَّى أحد موظفي المركز كتابتها على الآلة الكاتبة نقلًا عن الأصل الذي كتبه سعد زغلول بخطه (وهو خط تصعب قراءته)، فكان ذلك الموظف (محمد حجازي) يجتهد في قراءة النص، ويتولَّى رمضان كتابة مقدمة لكل جزء بعدما أعاد ترتيب المادة بصورة تختلف عن الأصل، وتُخل بقواعد التحقيق والنشر. كما توقَّفت على يدَيه السلسلة التي تولَّى الإشراف عليها يونان لبيب بعنوان «مصر المعاصرة»، وكانت تنشر بحوثًا دون خطة محدَّدة، فكل من لديه بحث يسعى لنشره يلجأ إلى المشرف على السلسلة، فيختار من بينها ما يمكن نشره. وكانت علاقة الباحثين بعبد العظيم رمضان على درجة كبيرة من السوء بسبب ترك معظمهم بلا عمل، وحرمانهم من بعض المزايا العينية لمجرَّد معارضتهم له في الرأي.
ولذلك كله، كلَّف جابر عصفور صاحبنا بالإشراف على المركز، فأعاد تنظيمه، ووضع خطةً بحثية وافق عليها مجلس الإدارة، من بينها مشروع تجميع المقالات السياسية لطه حسين ونشرها، ومشروع إحياء سلسلة بحوث المركز مع توجيهها لتغطية قضايا محدَّدة، ومشروع إصدار مجلة تهدف إلى نشر الثقافة التاريخية، تخاطب الشباب وتعمل على تنمية وعيه بالتاريخ القومي.
ما كادت فترة التنظيم تنتهي، ويبدأ العمل بصورة متوازية في المشروعات البحثية التي وافق عليها مجلس الإدارة، حتى انتهت مدة إشراف جابر عصفور على دار الكتب والوثائق القومية، وعُين ناصر الأنصاري رئيسًا لها. فانتظر صاحبنا ما يقرِّره الرئيس الجديد بشأن من يفضِّل التعاون معهم، وامتنع عن متابعة عمله بالمركز ودار الوثائق. وبعد شهر كامل استدعاه الأنصاري، وطلب منه الاستمرار في الإشراف على المركز بعد أن استمع منه إلى تقرير عمَّا تم في الشهور السابقة، وقدَّم له مجموعة الأساتذة الذين أسند إليهم الإشراف على مشروعات بحثية بالمركز. وبعد حوالي شهر كان صاحبنا في حاجة إلى عرض بعض الأمور المتصلة بالعمل على ناصر الأنصاري لضرورة الحصول على قرار منه بتذليل بعض الصعوبات التي كانت تعترض فريق العمل في جمع مقالات طه حسين السياسية، فاتصل بمكتب رئيس الهيئة طالبًا مقابلته، فأمهله السكرتير نصف ساعة للرد. وعندما اتصل بالسكرتير بعد ساعة، كرَّر الاعتذار لأن الرئيس لديه ضيف من ضباط البوليس (زملائه القدامى)، وأنه أمَرَ بألَّا يزعجه أحد. استاء صاحبنا، وانصرف من المركز وأثناء خروجه من باب دار الكتب التقى ليلى حميدة رئيسة الإدارة المركزية لدار الكتب عائدةً من مكتب ناصر الأنصاري، وعلم منها أن الرئيس الجديد وضع تعليمات تقضي بأن يتقدَّم من يريد مقابلته من مسئولي الدار بطلب المقابلة وموضوعها قبل الموعد المطلوب بثلاثة أيام على الأقل، ويترك لمكتب «الباشا» الحق في استدعائه للمقابلة (السامية) عندما يقرِّر «الباشا» ذلك.
ولمَّا كان هذا الأسلوب لا يتفق مع متطلَّبات العمل في مجال البحث، وخاصةً أن الرئيس الجديد لا يفرِّق بين الموظفين والأساتذة الذين يخدمون الهيئة بدافع وطني وليس نفعيًّا (ولم يكن صاحبنا قد تقاضى أية مكافآت لمدة سبعة أشهر، كما لم يطالب بتحديد مكافأة له)، قرَّر صاحبنا أن ينسحب من الإشراف على المركز بعد تلقين الأنصاري درسًا في الأخلاق، فأرسل له رسالةً بالفاكس في اليوم نفسه جاء فيها: «احتجاجًا على أسلوبك غير اللائق في التعامل مع الأساتذة ذوي القامات العلمية العالية، لا يشرِّفني استمرار التعاون معكم مشرفًا على مركز تاريخ مصر المعاصر وغيره من أعمال.»
وبعد إرسال الفاكس بنحو ربع ساعة، تلقَّى صاحبنا اتصالًا تليفونيًّا من سكرتير الأنصاري يُخطره فيه أن «معاليه» على استعداد للقائه، فقال له إن علاقته بالهيئة انتهت، وإن قراره بهذا الصدد نهائي. وتسرَّب خبر استقالة صاحبنا من الإشراف على مركز تاريخ مصر المعاصر إلى مجلة روزاليوسف، فنشرته في مكان بارز، واتصل حلمي النمنم بصاحبنا ليتأكَّد من الخبر، فأكَّده له وأبلغه بنص الفاكس، فنشرها بالمصور، بعدما أضاف إليها ما صرَّح له به ناصر الأنصاري من أن الدكتور (فلان) قُبلت استقالته لأنه لم يُنجِز شيئًا!
ومن المفارقات المحزنة والغريبة أن صاحبنا فوجئ بصديقه الحميم يونان لبيب رزق يبلغه أن ناصر الأنصاري دعاه للقائه، وكلَّفه بالإشراف على مركز تاريخ مصر المعاصر، وأنه قَبِل المهمة على أن يتم تشكيل لجنة علمية يتولَّى رئاستها لهذا الغرض، وعرض على صاحبنا التعاون معه عضوًا باللجنة «حرصًا على المركز من التعرُّض للانهيار»! طبعًا رفض صاحبنا، وتعجَّب من قَبول صديقه التعاون مع الأنصاري في هذه الظروف، فلو كان الوضع معكوسًا، ودُعي صاحبنا ليتولَّى مسئولية لفظها يونان دفاعًا عن كرامته، لَمَا قَبِل هو ما لم يقبل به صديقه.
ومضت الشهور، وقفز الأنصاري إلى منصب مدير معهد العالم العربي بباريس، وتولَّى سمير غريب رئاسة دار الكتب والوثائق القومية، وبعد نحو الشهر من تولِّيه المنصب الذي صاحبته ضجة أثارتها «الأخبار» حول هذا التعيين، تلقَّى صاحبنا مكالمةً تليفونية من سمير غريب (ولم يكن له به سابق معرفة) يستأذنه في اللقاء به، ويطلب منه أن يحدِّد المكان والزمان، فاعتذر صاحبنا بحجة انشغاله بارتباطات طوال ساعات النهار، فقال له سمير: «على كل … المساء أفضل. تحب أقابل سيادتك فين؟» فلم يجد صاحبنا مفرًّا من الموافقة على لقائه بمكتب رئيس دار الكتب في الثامنة من مساء اليوم نفسه.
كان اللقاء وديًّا، علم من سمير غريب أنه بدأ عمله بقراءة ملفات أعمال لجنة التطوير، وتبيَّن له أهمية دور صاحبنا في اللجنة وعمق خبرته بالوثائق، كما تبيَّن له أن لجنة الضم والاستغناء لم تجتمع منذ قطع علاقته بالدار، وأن رئيس الإدارة المركزية للدار عرض عليه مذكرةً يطلب فيها تعيين رئيس بديل للجنة، فاطلع على جداول أعمالها وأدرك أهمية عملها؛ لذلك يرجوه أن يكون مستشاره فيما يتصل بشئون دار الوثائق، فاعتذر صاحبنا بعدم قَبوله الارتباط بعلاقة إدارية مع رئيس الدار، ويذكر أن سمير غريب قال له أثناء محاولة إقناعه بالقَبول أن لديه قدراتٍ إداريةً كبيرة ولكنه في حاجة إلى من يرشده إلى الطريق السوي، وهو لا يجد هذا الإرشاد إلا من أهل الخبرة من كبار الأساتذة؛ لذلك يحتاج إلى عونه. فقبل صاحبنا أن يستأنف عمله بلجنة الضم والاستغناء على الفور، وهنا قال له سمير غريب إنه يرجوه أيضًا أن يقبل الانضمام إلى اللجنة العلمية لمركز تاريخ مصر المعاصر، ليتولَّى استئناف الإشراف على مشروع جمع المقالات السياسية لطه حسين ونشرها، فقبل ذلك أيضًا.
بعد بضعة شهور من هذا اللقاء شكَّل سمير غريب اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية برئاسة صاحبنا وعضوية بعض الزملاء الذين أوصى بضمهم إلى عضوية اللجنة. كذلك لجأ إليه سمير غريب لترشيح أستاذ تاريخ أو وثائق يتولَّى رئاسة الإدارة المركزية لدار الوثائق، فرشَّح له الدكتور محمد صابر عرب الذي أُسندت إليه المهمة بالفعل. كذلك طلب من صاحبنا أن يرشِّح له أستاذًا من كلية العلوم، له معرفة بالعلوم الإنسانية ليتولَّى رئاسة الإدارة المركزية للمراكز العلمية التي تضم تحقيق التراث، ومصر المعاصر، ومركز الترميم، ومركز الطفولة، فرشَّح له الدكتور حامد عبد الرحيم عيد، وتولَّى هذه المهمة حتى تركها ليشغل منصب المستشار الثقافي بالمغرب.
وهكذا نجح سمير غريب بأسلوبه الجميل وإدارته الذكية أن يستثمر خبرة صاحبنا استثمارًا جيدًا، ولم يحدث أن رفض له اقتراحًا من الاقتراحات التي قدَّمها له. وعندما حصل صاحبنا وزميله محمود فهمي حجازي على جائزة الدولة التقديرية عام ٢٠٠٠م، لم تحتفل بهما كلية الآداب التي أعطاها كل منهما خلاصة جهده، ولكن كرَّمهما سمير غريب في احتفال مهيب في دار الكتب تقديرًا منه لفضلهما على الدار. واختار سمير غريب صاحبنا مقرِّرًا للندوة الدولية التي ظلَّ يُعِد لها نحو ثمانية شهور احتفالًا بالعيد الذهبي لثورة يوليو، وكان غريب صاحب فكرة الاحتفال بهذه المناسبة الجليلة على المستوى القومي، فشكَّل لجنة للإعداد ضمَّت بعض كبار الأساتذة والباحثين، عملت طوال تلك الشهور على إخراج الندوة على المستوى اللائق. وترك سمير غريب رئاسة دار الكتب قبل انعقاد الندوة، فتمَّت في عهد رئاسة صلاح فضل لدار الكتب، ولم يحضرها سمير غريب، ولم يرِد له ذكر إلا في الكلمة الافتتاحية للندوة التي ألقاها صاحبنا بالمسرح الصغير بالأوبرا، والكلمة التي كتبها في مقدمة الكتاب الذي نُشر ليضم أبحاث الندوة التي يُعزى الفضل في إقامتها إلى ذلك «الغريب» في زمانه.
ولم يكن صلاح فضل أقل تقديرًا له، وتعاونًا معه من سمير غريب، فقد ساند مشروعاته البحثية في إطار اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، وكذلك مشروع المجلة العلمية لدار الوثائق القومية التي صدر المجلد الأول منها «الروزنامة» في أواخر عهده برئاسة الهيئة.
أمَّا عن المجلس الأعلى للثقافة، فنشاطه فيه يمتاز بالتنوُّع، ولكنه يتم في إطار التعاون مع أمانة المجلس وليس «لجنة التاريخ» التي يرأسها «عبد العظيم رمضان» منذ سنوات، ورغم تعدُّد الكفاءات فيها، وأَدَها رئيس اللجنة، فتحوَّلت اللجنة على يدَيه إلى ذيل قائمة لجان المجلس من حيث النشاط العلمي والثقافي، كما تحوَّلت إلى «مكلمة» يُمضي الأعضاء فيها الوقت في الاستماع إلى «أمجاد» رئيس اللجنة الذي يحشر في كل مناسبة حديثًا مزعومًا دار بينه وبين رئيس الجمهورية، بما يُشعر المستمع بمدى قرب رئيس اللجنة من رئيس الجمهورية الذي يستمد الحكمة منه دائمًا. فإذا تقدَّم أحد الأعضاء بفكرة لا تروق له بديلًا لاقتراح تقدَّم به هو، حرص على التمسُّك برأيه؛ لذلك لم يطِق صاحبنا صبرًا فكان يحاجي رمضان دائمًا، حتى وجد أن من العبث تضييع الوقت فيما لا يفيد، فكتب إلى جابر عصفور معتذرًا عن عدم الاستمرار في عضوية اللجنة ما بقي عبد العظيم رمضان رئيسًا لها.
لذلك يقتصر تعاون صاحبنا مع المجلس الأعلى للثقافة على الأمانة العامة للمجلس سواء في تنظيم الندوات والمشاركة فيها، أو المساهمة في المشروع القومي للترجمة، أو غير ذلك من الأنشطة العلمية والثقافية المتعدِّدة التي يقوم بها المجلس الذي أصبح قاعدةً للعمل الثقافي في الوطن العربي بفضل جهود جابر عصفور، وفريق العمل المتميِّز من الشباب الذي يتعاون معه.
لذلك كان حضور صاحبنا المؤتمر يُعَد انتصارًا لمن فضَّلوه على كوهين، ولم يحضر الحفل الذي أُقيم له في سان أنطونيو أحدٌ من المدعوين اليهود، ولاحظ وجود عشرة على الأقل من أعضاء هيئة التدريس العرب بالجامعات الأمريكية بين من حضروا المحاضرة التي ألقاها بالمؤتمر عن «عوامل قيام الحركة الإسلامية السياسية بمصر».
وإضافةً إلى أيام المؤتمر الأربعة، نظَّمت الجمعية له جولة محاضرات غطَّت أربع جامعات بكاليفورنيا وجامعتَي ستانفورد وجورجيا على مدى أسبوعَين أُرهق فيهما صاحبنا إرهاقًا شديدًا، فلم يرَ خلال الأسبوعَين سوى أسفلت الطرق السريعة وممرات المطارات، وقاعات المحاضرات. ولكن سعادته بما لقي من تكريم على هذا المستوى الدولي، وتقديرًا لجهده المتواضع في مجال تخصُّصه، شحنه بقوة معنوية كبيرة أعانته على تحمُّل مشاق الرحلة.
رغم ما يُفترَض أن يُضفيه الحصول على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية على صاحبنا من شرف، إلا أنه لم يشعر عند حصوله على الجائزة عام ٢٠٠٠م بذلك القدر من السعادة الذي شعر به عندما حظي بشرف اختياره كأول أستاذ من الشرق الأوسط ليكون «ضيف الشرف» في المؤتمر العلمي لجمعية دولية مرموقة. وخاصةً أن حصول بعض من لا يرقى عطاؤهم العلمي إلى مستوى جائزة الدولة التقديرية على هذه الجائزة أضرَّ ضررًا بالغًا بمن حصلوا عليها عن جدارة واستحقاق، كما أضرَّ بالقيمة الأدبية للجائزة؛ لذلك يحرص صاحبنا على ذكر تكريم «جمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا الشمالية» له في سيرته العلمية، ويتعمَّد إهمال ذكر حصوله على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية.