ميلاد جديد للجمعية التاريخية
انضمَّ صاحبنا إلى عضوية الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٦٦م، عندما استقرَّ بالقاهرة بعد تركه العمل بكفر الزيات وتفرُّغه للدراسة في مرحلة الدكتوراه، وكانت الجمعية تعيش عصرها الذهبي في ظل رئاسة الدكتور أحمد عزت عبد الكريم الذي خلف أحمد بدوي. وكان بدوي مشغولًا عن الجمعية بإدارته للجامعة، فترك أمورها للدكتور مصطفى زيادة الذي لم يستطِع إدارة النشاط العلمي والثقافي للجمعية على نحو ما كان عليه الحال أيام محمد شفيق غربال.
تأسَّست الجمعية عام ١٩٤٥م بموجب مرسوم ملكي أصدره الملك فاروق باسم «الجمعية الملكية للدراسات التاريخية»، وكان وراء تأسيس الجمعية حسن حسني باشا سكرتير الملك، وشقيق إبراهيم نصحي قاسم، وكان حاصلًا على الدكتوراه في التاريخ، ومعنيًّا بتحسين صورة مليكه، فأوحى إليه بأن يؤسِّس جمعيةً علمية للدراسات التاريخية تتولَّى إبراز تاريخ مصر في عهد الأسرة العلوية. وقد منح الملك للجمعية عند تأسيسها عشرة آلاف جنيه مصري، كما أفسح لها مكانًا ﺑ «الجمعية الزراعية الملكية» بأرض الجزيرة (موقع الأوبرا الآن)، ولم يُشيِّد لها بناءً خاصًّا تتخذه مقرًّا لها؛ لذلك عندما قامت حكومة ثورة يوليو بإنشاء «هيئة المعارض الدولية» التي اتخذت من مباني الجمعية الزراعية مقرًّا لها، طردت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية من مكانها، فاستأجرت طابقًا من بناية بشارع البستان عام ١٩٥٨م، بإيجار شهري قدره ٥٩٫٥ جنيهًا. ويبدو أن صاحب العقار (وهو محامٍ آل إليه المبنى عام ١٩٥٦م وكان مملوكًا لموكل أجنبي)، قد أبرم العقد مع الجمعية بهذه القيمة الإيجارية المرتفعة كبديل عن الخلو؛ لأنه اتضح — فيما بعد — أن إيجار الطابق بسجلات العوائد اثنا عشر جنيهًا شهريًّا.
كان الطابق يتكوَّن من شقتَين بكل منهما خمس غرف وصالة، أُزيل الحائط الفاصل بين حجرتَين متجاورتَين بكل شقة، ليتحوَّل في واحدة منهما إلى قاعة للمكتبة، وفي الثانية إلى قاعة للمحاضرات، وتُركت ثلاث غرف لمكتب الرئيس، وحجرة اجتماعات مجلس الإدارة، وحجرة السكرتارية، وشُغلت باقي الغرف بدواليب المكتبة، واستُخدمت قاعة الشقة الأخرى للمحاضرات، ولم تزِد سعتها على ٣٥ مقعدًا. أمَّا الصالة فاتخذت مكانًا لاطلاع المتردِّدين على المكتبة، وخُصصت إحدى الحجرات مخزنًا للمطبوعات.
ومنذ تأسيس الجمعية عام ١٩٤٥م وحتى عام ١٩٦١م تاريخ وفاة محمد شفيق غربال، أصدرت الجمعية عدة كتب عن عهود محمد علي وإبراهيم وإسماعيل، كما أصدرت «المجلة التاريخية المصرية» التي بدأت نصف سنوية، ثم أصبحت سنويةً عندما عجزت موارد الجمعية المالية عن إصدار عددَين في السنة الواحدة. ونظرًا لعدم وجود جهة تتولَّى توزيع هذه المطبوعات، تكدَّست بحجرة المخزن وتعرَّضت للتلف.
رغم بؤس المكان وتواضعه، شهدت منصة قاعة المحاضرات كبار مؤرخي مصر يُلقون محاضراتهم في المواسم الثقافية للجمعية، كما شهدت بعض كبار المؤرخين الأجانب مثل أرنولد تونبي، وجاك بيرك، ودومينيك شيفالييه وأندريه ريمون، وغيرهم. وبلغ النشاط الثقافي والعلمي ذروته في عهد رئاسة أحمد عزت عبد الكريم (١٩٦٦–١٩٧٦م)، فاتسع حجم النشاط، وزاد الإقبال على المحاضرات، فكان الوقوف ضِعف عدد الجلوس في بعض المناسبات. وأصبحت الجمعية تعقد ندوات كل عام بالاشتراك مع المجلس الأعلى للفنون والآداب (الذي أصبح فيما بعدُ المجلس الأعلى للثقافة)، تناولت كبار مؤرخي العرب من ابن عبد الحكم إلى علي مبارك، نُشر معظمها في كتب.
وشهدت انتخابات مجلس الإدارة إقبالًا شديدًا في عهد عزت عبد الكريم، وبدأ الشباب من الأعضاء يتسرَّبون إلى المجلس الذي كان احتكارًا لكبار الأساتذة. ويرجع ذلك إلى غلبة الشباب في القاعدة العريضة من أعضاء الجمعية العمومية. كما شهدت اجتماعات الجمعية العمومية نقاشًا جادًّا حول النشاط العلمي والثقافي للجمعية، لعل أهمه ما أثاره محمد أنيس في الجمعية العمومية للعام ١٩٦٩م من اعتراض على دعوة برنارد لويس لإلقاء محاضرة بالجمعية، وإشادة مَن ترأس جلسة المحاضرة (سعيد عاشور) به وبفضله على العالم العربي، وعدَّ ذلك «انحرافًا» خطيرًا وخروجًا على إجماع الأمة على مقاطعة الصهيونية، نظرًا لِمَا عُرف عن برنارد لويس من مشايعة للصهيونية ومناصرة الكِيان الصهيوني، واستهانة بالثقافة العربية. وأيَّد محمد أنيس، عبد الكريم أحمد. وردَّ عزت عبد الكريم بأن لويس كان مدعوًّا من الدولة للمشاركة في الاحتفال بألفية القاهرة، فإذا كانت الدولة قد دعته، والتقى به عبد الناصر، فلا يضير الجمعية أن توجِّه الدعوة إليه. وعرض عزت عبد الكريم على الجمعية العمومية اقتراحًا بحق رئيس الجمعية في توجيه الدعوة لمن يشاء لإلقاء محاضرة بالجمعية دون حاجة إلى الرجوع لمجلس الإدارة، فوافقت الأغلبية على القرار، وغضب محمد أنيس وعبد الكريم أحمد وغادرا الاجتماع.
وساهم صاحبنا (أيام رئاسة عبد الكريم) في إعداد الببليوجرافيا التي نُشرت لأول مرة بالمجلة التاريخية المصرية عن رسائل الماجستير والدكتوراه في التاريخ التي أجازتها الجامعات المصرية منذ بداية الدراسات العليا في كلٍّ منها، فاختص بالجانب الأكبر منها؛ إذ كُلف بإعداد الجزء الخاص بجامعة القاهرة. واختير صاحبنا أكثر من مرة أمينًا لجلسة اجتماع الجمعية العمومية ليتولَّى تسجيل ما يدور من مناقشات في محضر الجلسة.
وشجَّعه الدكتور أحمد عزت عبد الكريم على الاشتراك في الموسم الثقافي للعام ١٩٧٢م، فألقى أول محاضرة عامة في حياته أمام جمهور نصفه من كبار الأساتذة. كما شارك في موسم «جمال عبد الناصر الثقافي» الذي أُقيم عقب وفاة عبد الناصر وخُصِّص لموضوع «الأرض والفلاح عبر العصور»، وتمَّ طبع أعماله في كتاب على درجة كبيرة من القيمة.
لم يدخل صاحبنا مجلس إدارة الجمعية عضوًا إلا عام ١٩٧٩م، عندما أقنعه فريق من زملائه بترشيح نفسه، ففاز بالعضوية بعدد من الأصوات فاق ما حصل عليه بعض كبار الأساتذة، وكانت رئاسة المجلس للدكتور إبراهيم نصحي قاسم. وكان من بين أعضاء المجلس (عندئذٍ) بدر الدين أبو غازي (وزير الثقافة الأسبق) وأحمد عبد الرحيم مصطفى، وصلاح العقاد، وعبد العزيز صالح، وجمال زكريا قاسم.
كان عزت عبد الكريم يستثمر مكانته العلمية وعلاقاته الشخصية في دعم موارد الجمعية المالية، وفي إبراز نشاطها الثقافي، وهو ما كان يفتقر إليه إبراهيم نصحي الذي اعتمد في إعداد الموسم الثقافي وتنظيمه على صلاح العقاد، ولم يُحسن اختيار من يتولَّون الإعداد للندوة السنوية، فتقلَّص النشاط الثقافي تدريجيًّا، وقلَّ اهتمام الأعضاء بحضور محاضرات الموسم الثقافي، حتى إن أحد المحاضرين لم يجد من الجمهور سوى ثلاثة أفراد، فجمع أوراقه وانصرف.
وعبثًا حاول صاحبنا — وأبناء جيله من أعضاء مجلس الإدارة — إقناع رئيس المجلس بموضوع معيَّن بديل لتدور حوله محاضرات الموسم الثقافي، على نحو ما تمَّ عمله في موسم «الأرض والفلاح»، فكان يرفض مثل هذه المقترحات، ويتعمَّد السخرية من صاحبنا وهو يعلم تمامًا أن صاحب الاقتراح من تلاميذه، ومن الجيل الذي تربَّى على احترام الأستاذ واعتباره والدًا، وكانت إدارته للجلسة بعيدةً تمامًا عن الديمقراطية؛ فهو يسأل أمين المجلس عمَّا لديه من أوراق، فيعرضها الأمين، ثم يملي عليه الرئيس القرار والكل جلوس حول المائدة يرقبون دون كلام، فإذا تكلَّم أحدهم ردَّ عليه الرئيس بضِيق معترضًا على مداخلته. وعندما نجح أحد المدرِّسين الشباب في الانتخابات وانضمَّ إلى المجلس، وكان تلميذًا مباشرًا للدكتور نصحي أعدَّ الدكتوراه تحت إشرافه، كان يتعمَّد تجريحه في كل جلسة حتى اختفى من المجلس بعد ثلاث جلسات.
وحاول أعضاء المجلس إدارة أمور الجمعية بقدر الإمكان دون المساس بالدكتور نصحي باعتباره أستاذًا لثلاثة أجيال من الأساتذة ممثلين بالمجلس، فكان أمين الصندوق ثم الأمين العام من الشباب، يتصرَّفون في مواجهة الصعاب التي تعانيها الجمعية قدر طاقتهم، فإذا احتاج الأمرُ الكتابةَ إلى وزير الثقافة (مثلًا) لطلب الجمعية معونةً مالية، رفض نصحي توقيع الخطاب حتى لا ينزل إلى مستوى ذلك الوزير!
وعندما أصبح من يُدعَون إلى إلقاء المحاضرات في الموسم الثقافي يُحجمون عن الإقبال على إلقاء المحاضرات، تدهور مستوى ما يتم تقديمه من عناصر متواضعة، وحاول رئيس الجمعية شغل الفراغ بإقامة أربع حفلات تأبين في عام واحد لأعضاء هيئة تدريس ماتوا خلال العام لم يكن بينهم سوى اثنَين أعضاءً للجمعية، فاعترض صاحبنا (وكان أمينًا عامًّا)، وهدَّد بالاستقالة إذا ما تمَّ تحويلها إلى «قاعة عزاء»، ولم ينقذ الموقف سوى عبد العزيز صالح (نائب الرئيس) الذي أقنعه بالعدول عن ذلك.
تعثَّرت المجلة أيضًا، ولم يكن حساب الجمعية بالبنك يغطِّي إصدار عدد واحد منها، وكان العرض الذي قدَّمته الدار المصرية اللبنانية لإصدار المجلة طوق نجاة للجمعية ومجلتها، فقد تمَّت الموافقة على أن يقوم الناشر بطبع المجلة على أن يقدِّم للجمعية ٢٥٠ نسخةً من كل عدد ويدفع «٥٠٠ جنيهًا» نقدًا. واشترى حق إعادة طباعة الأعداد القديمة بمبلغ ١٦٥٠٠ جنيه. كما اشترى كميةً من مخزون المطبوعات لدى الجمعية بمبلغ ١٤٠٠٠ جنيه. ووافق الدكتور نصحي بعد جهد جهيد على تلك الصفقة التي تولَّى أمرها الأمين العام (جمال زكريا)، وأمين الصندوق (صاحبنا).
وكان الأعضاء يفكِّرون في البحث عن بديل لنصحي لرئاسة مجلس الإدارة، ولكن المشكلة كانت في البحث عمَّن يجرؤ أن يربط الجرس في رقبة القط؛ فقد كان نصحي بعد كل انتخاب يجلس في مقعد الرئيس ويقول: «أنا عارف إنكم متمسكين بي، وأنا قبلت الرئاسة عشان أعفيكم من الحرج.» ثم يسأل عمن يُنتخب نائبًا، وأمينًا عامًّا، وأمينًا للصندوق، فكان الاتجاه دائمًا إلى إبقاء الحال على ما هي عليه.
وحاول صاحبنا أن يكسر الجليد في إحدى هذه المناسبات (عند اختيار هيئة المكتب)، وكان أمينًا عامًّا، فقال إن من بقي في موقع ثلاثة أعوام من الأفضل أن يُتيح لغيره فرصة خدمة الجمعية في هذا الموقع؛ ولذلك يعتذر مقدَّمًا عن عدم استمراره أمينًا عامًّا. وعندما ألحَّ الأعضاء على صاحبنا في الاستمرار، قال نصحي: «بردون … هو بالعافية … الراجل شايف نفسه ما ينفعش يستمر، أوكيه شوفوا غيره، وأنا شخصيًّا موافق على الاستمرار.» وعاد صاحبنا إلى هيئة المكتب مرةً أخرى نائبًا للرئيس مدة عامَين عقب وفاة عبد العزيز صالح.
واستطاع صاحبنا أن يحوِّل منصب نائب الرئيس إلى أداة فعَّالة للعمل على النهوض بالجمعية بالتعاون مع أيمن فؤاد سيد (أمين الصندوق) وعبد المنعم الجميعي (الأمين العام) وغيرهما من أعضاء مجلس الإدارة؛ فعملوا عامَي ١٩٩٧م، ١٩٩٨م على مواجهة أزمة تضخُّم القيمة الإيجارية للمقر نتيجة صدور قانون تأجير الأماكن غير المخصَّصة لأغراض السكنى. وتمَّ الحصول من وزير الثقافة على دعم مالي سنوي قدره عشرة آلاف جنيه للمساعدة في تسديد الإيجار الذي عجزت مالية الجمعية عن تحمُّله.
وخلال ذلك العام، والعام السابق عليه، حاول صاحبنا إقناع جمال زكريا قاسم بالترشيح لمجلس الإدارة تمهيدًا لاختياره رئيسًا بديلًا لنصحي، فرفض الترشيح. كذلك حاول صاحبنا إقناع يونان لبيب رزق ترشيح نفسه لرئاسة المجلس مع ترتيب الأمور في المجلس لتأييده (وكان ذلك عام ١٩٩٩م)، فلم يحضر الجمعية العمومية حتى لا يتورَّط في حضور جلسة مجلس الإدارة لاختيار هيئة المكتب؛ فقد كانوا رغم وصولهم إلى الأستاذية، وما تمتَّعوا به من مكانة علمية، يشعرون بالحرج الشديد من مواجهة نصحي.
وقد فوجئ صاحبنا في هذا الاجتماع (١٩٩٩م) بعضوات مجلس الإدارة؛ نللي حنا ولطيفة سالم، ومنى بدر، يدبِّرن انقلابًا صامتًا. فبمجرد جلوس إبراهيم نصحي في مقعد الرئيس قالوا: «إحنا عاوزين فلان (أي صاحبنا) يتولَّى رئاسة المجلس ونقترح أن تكون سيادتك رئيس فخري للجمعية.» فاستاء صاحبنا لهذه المفاجأة التي لم يتوقَّعها، وترك قاعة الاجتماع غاضبًا. وبعد حوالي ربع الساعة جاءه سعيد عاشور وعادل غنيم، وقالا له إن المجلس قد اختاره رئيسًا بالإجماع مع اختيار نصحي رئيسًا فخريًّا. وعاد صاحبنا إلى الاجتماع ليوجِّه الشكر إلى الجميع، وسأله نصحي عمَّا إذا كان يدرك أهمية رئاسة الجمعية وخطورتها، فأجابه بأنه سيستفيد بما تعلَّمه منه، ثم تساءل نصحي عمن تكون له رئاسة جلسات مجلس الإدارة عند انعقاده، فردَّ الجميع في صوت واحد: «فلان الذي انتخبناه.» فغضب وانصرف، ولحق به أحد الزملاء لتوصيله إلى بيته.
انتاب صاحبَنا شعور من الخوف من ثقل العبء الذي ينتظره؛ فالجمعية في طريقها إلى الإفلاس، وصاحب العمارة رفع قضيةً يعترض فيها على طريقة حساب القيمة الإيجارية ويطالب بمتأخر ٥٧ ألف جنيه ولم يكن الرصيد بحساب الجمعية بالبنك إلا ما يزيد قليلًا عن عشرة آلاف جنيه. كما أن تنحية إبراهيم نصحي على هذا النحو قد يُفهَم منها أن له يدًا في تدبير ما حدث.
ولكن الدكتور إبراهيم نصحي نفسه كفاه مئونة تأنيب الضمير؛ فقد اتصل به تليفونيًّا في اليوم التالي، وقال له إن الانتخابات التي تمَّت باطلة، وإنه سيتقدَّم بشكوى لوزارة الشئون الاجتماعية، ويمكن أن يتسبَّب ذلك في «أذية» صاحبنا، وإنه إذا فضَّل الحكمة والتعقُّل يضمن له أن يظل نائبًا للرئيس، بشرط إعادة الانتخابات مرةً أخرى.
أحسَّ صاحبنا بالارتياح الشديد، وعبَّر عن ذلك صراحةً لمحدِّثه، وقال له إن الشئون الاجتماعية أُبلغت بالفعل بالأمس بالتشكيل الجديد، والاجتماع قانوني لأن جميع أعضاء المجلس كانوا حاضرين باستثناء يونان لبيب، وإنه إذا أراد الشكوى فهذا حقه، ولكنه ينصحه — تقديرًا له — ألَّا يتورَّط في ذلك قبل استشارة من يفهم في القانون.
حضر إبراهيم نصحي أول اجتماع لمجلس الإدارة رأَسَه صاحبنا (بعد شهر من انتخاب هيئة المكتب)، وهو الاجتماع الذي طرح فيه الرئيس الجديد الظروف الحرجة التي تمرُّ بها الجمعية، وتُعرِّضها لفقد المقر إذا كسب مالك العقار القضية. وطلب من المجلس الموافقة على توكيل المستشار الدكتور محمد حسني عبد اللطيف المحامي لتمثيل الجمعية (وقد قَبِل أن يتولَّى القضية دون أتعاب، بل تبرَّع أيضًا للجمعية بثلاثة آلاف جنيه)، كما اقترح أن تلجأ الجمعية إلى الشخصيات المعروفة برعاية الثقافة في العالم العربي لبناء مقر خاص للجمعية أو التبرُّع للجمعية بمبالغ تكفي لإقامة مقر خاص، أو شراء مقر خاص، حتى لا تقع الجمعية في مأزق مطاردة مُلَّاك العقارات. واقترح الكتابة إلى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والسلطان قابوس، والشيخ سلطان بن محمد القاسمي أمير الشارقة الذي تبرَّع لجامعة القاهرة ببناء مكتبة لكلية الزراعة تكلَّفت ١٢ مليونًا من الجنيهات، وأعدَّ صيغةً للخطاب قرأَها على الأعضاء، فوافقوا عليها فيما عدا إبراهيم نصحي الذي هاله أن تلجأ الجمعية المصرية للدراسات التاريخية إلى «أولئك البدو» تطلب عونهم ومصر هي التي كانت تُفيض عليهم بخيراتها. ورأى في تنفيذ هذا الاقتراح «إهانةً لا تُغتفر» تدل على عدم تقدير القيمة الأدبية للجمعية. وغادر الاجتماع غاضبًا، ولم يحضر غيره من اجتماعات مجلس الإدارة التالية له، بعدما امتدَّت رئاسته للجمعية ٢٣ عامًا (١٩٧٦–١٩٩٩م).
ولمَّا كانت غالبية أعضاء المجلس قد وافقت على إرسال الخطابات الثلاثة، فقد تمَّ إرسالها مساء اليوم نفسه بالبريد المسجَّل من مكتب البريد الأهلي أسفل المبنى نفسه، ولم يفكِّر أحد في اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية؛ أي سفارات دول من وُجه النداء إليهم، تجنُّبًا للشبهات، وإبقاء الموضوع في حدوده الخاصة.
ولا يعني ذلك أن مجلس الإدارة راهن تمامًا على مساعدة أحد رعاة الثقافة، أو علَّق الآمال على أن يكون للجمعية يومًا مقر ملك لها، ولكنها كانت محاولات مبعثها اليأس والقلق على مصير الجمعية. وركَّز المجلس — في الوقت نفسه — على طلب العون من الشخصيات المحلية من رجال الأعمال بفضل الجهود التي بذلها يونان لبيب مع زملائه في مجلس الشورى من رجال الأعمال، فحصل على تبرُّع بعشرة آلاف جنيهًا من محمد فريد خميس، وخمسة آلاف من كلٍّ من لويس بشارة وإحدى شركات الأدوية (آمون)، كما أقنع سعد فخري عبد النور بالتبرُّع بسداد إيجار الجمعية، فظلَّ يدفعه كل ستة شهور لمدة سنتَين. كذلك حصل يونان لبيب من الأمير طلال بن عبد العزيز على وعد بالتبرُّع سنويًّا للجمعية بمبلغ ٣٦ ألف جنيه مصري لمدة خمس سنوات، وتمَّ الوفاء بهذا الوعد.
مضى نحو الشهر على إرسال الخطابات الثلاثة إلى مسقط وأبوظبي والشارقة، وذات مساء اتصل سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة بالجمعية طالبًا الحديث مع رئيس الجمعية، فزوَّده موظف الجمعية برقم تليفون منزل صاحبنا الذي فوجئ بالاتصال.
بدأ الرجل العظيم حديثه بالاعتذار لصاحبنا؛ لأن الرسالة وصلت قبل ثلاثة أسابيع، وأنه لم يطَّلع عليها إلا يومها نظرًا لوجوده خارج بلاده، وأبدى قلقه على ما تعانيه الجمعية. وشرح له صاحبنا المشكلة، وتصوُّر مجلس الإدارة لحلها باقتناء مقر يتبرَّع به أحد رُعاة الثقافة العربية أو يتعاون عدد من الرعاة في تمويله، وأن التصوُّر هو شراء فيلا مساحة مبانيها لا تقل عن ٥٠٠ متر لسكنى الجمعية ومكتبتها. فاعترض سمو الشيخ على هذه المساحة، وقال إنه يعلم أن بالجمعية مكتبةً قيِّمة وأنها وحدها تحتاج لمثل هذه المساحة لو لم يوضع التوسُّع في الاعتبار. ولكنه أبدى استعداده لشراء المقر وإعداده لسكنى الجمعية وتأثيثه، ثم تقديمه للجمعية على سبيل الهبة. وزوَّد صاحبنا بأرقام هاتفه الخاص والفاكس الخاص، وطلب إليه أن يراعي في اختيار المكان القرب من المواصلات وسهولة الوصول إليه من أي مكان بالقاهرة؛ لأنه يعلم أن طلاب الدراسات العليا يستخدمون مكتبة الجمعية. وقال سموُّه إنه لا يجب ترك الجمعية دون مساعدة حتى يتم تدبير المقر، وتساءل عمَّا إذا كان بإمكانه المساعدة بمبلغ بسيط في حدود مائة ألف درهم!
شكره صاحبنا، وأثنى على ما يقدِّمه من عطاء لمصر، ذاكرًا تبرُّعه لجامعة القاهرة بمكتبة كلية الزراعة (التي تخرَّج فيها الشيخ). فاستنكر الرجل وصف ذلك بالفضل، وقال إن فضل مصر على العرب كبير، وإنه يسأل الله تعالى أن يعينه على أداء بعض ما لمصر من دَين. وعندما أشار صاحبنا إلى هذا الحديث في الكلمة المرتَجَلة التي ألقاها في حفل افتتاح المقر الجديد بمدينة نصر (٢٣ مايو ٢٠٠١م)، بحضور الشيخ ووزير التعليم العالي وبعض كبار رجال وزارة الثقافة، لاحظ عند اطلاعه على شريط الفيديو بعد الاحتفال أن عينَي الشيخ اغرورقتا بالدموع عندما وصل صاحبنا في حديثه إلى ذكر هذه العبارات المخلصة النادرة التي تكشف عن أصالة هذا الرجل العظيم وعمق تقديره لمصر والمصريين.
وبعد أن تمَّ العثور على ثلاث فيلات بمدينة نصر، أخطر سمو الشيخ بذلك لتكليف من يمثِّله بالقاهرة لفحصها واختيار ما يراه منها صالحًا لسكنى الجمعية، وإعداده وتأثيثه، لكن ممثِّل سموِّه وجد أن شراء أي فيلا وتجهيزها يساوي من حيث التكلفة شراء قطعة أرض لهذا الغرض وتصميمها بما يتفق مع متطلَّبات الجمعية ليصبح مقرًّا لائقًا بها. وبالفعل تمَّ شراء الأرض بمعرفة ممثِّل الشيخ، وصدر تصريح البناء باسمه، وتمَّ افتتاح المبنى في ٢٣ مايو ٢٠٠١م في الأسبوع نفسه الذي تمَّ فيه افتتاح مكتبة كلية الزراعة.
ولكن مكرمة سمو الشيخ سلطان القاسمي لم تتوقَّف عند هذا الحد؛ فقد تلقَّت الجمعية منه تبرُّعًا بمبلغ ٩٢ ألف جنيه مصري (بما يعادل ١٠٠ ألف درهم) بعد أسبوع من مكالمته مع صاحبنا (أبريل ١٩٩٩م)، كما تبرَّع بعد ذلك بعام (يوليو ٢٠٠٠م) بمبلغ ٩٠ ألف جنيه مصري. فقام مجلس الإدارة بتجميع هذه التبرُّعات مع ما تلقَّته الجمعية من الأمير طلال بن عبد العزيز (٧٢ ألفًا على عامَين)، وقام بربط وديعة مصرفية بربع مليون جنيه يُصرَف منها على نشاط الجمعية، وفي يناير ٢٠٠٤م تبرَّع سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي للجمعية بمبلغ نصف مليون درهم لتتحوَّل إلى وديعة بالجنيه المصري بلغت قيمتها ٨٣٠٤٤٠ جنيهًا، وبذلك أصبح لدى الجمعية وديعة قدرها مليون وحوالي ٢٠٠ ألف من الجنيهات تُدر ريعًا سنويًّا يتراوح بين ٨٠–٨٥ ألف جنيه (حسب سعر الفائدة)، وبذلك استقرَّت الأحوال المالية للجمعية في حدود المصروفات الفعلية بأسعار العام ٢٠٠٤م.
وجدير بالذكر أن مجلس إدارة الجمعية لم يفقد الأمل في أن يدرك من أفاء الله عليهم بنعمة الثراء من المصريين أهمية الرسالة التي تقوم بها الجمعية، فيُوفِّرون لها من الرعاية المادية ما يتيح لها المضي قُدمًا في أداء رسالتها، فطرقوا أبواب الكثيرين دون جدوى. كما لم يفقدوا الأمل في دعم مؤسَّسات الدولة لنشاط الجمعية، كوزارات الثقافة والتعليم العالي، والبحث العلمي، والشباب.
وبعد افتتاح المقر الجديد بشهر واحد (تقريبًا)، رتَّب أحمد الجمال — الكاتب المعروف وعضو الجمعية — لقاءً لأربعة من أعضاء مجلس الإدارة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل بناءً على طلبه. وتمَّ اللقاء بمكتبه الخاص على شارع النيل. وحضر مع صاحبنا، عاصم الدسوقي، وجمال زكريا، ومحمد صابر عرب، وأيمن أحمد سيد. وفي هذا اللقاء أبدى «الأستاذ» اهتمامه برسالة الجمعية، وقال إن الشيخ سلطان القاسمي يُشكَر على مكرمته، ولكن رعاية الجمعية ماديًّا يجب أن تكون من واجب المصريين. وبعد أن اطلع على تصوُّر مجلس إدارة الجمعية الذي كان يتجه إلى تكوين وديعة في حدود المليون جنيه يتم تجميعها من تبرُّعات أثرياء المصريين، وقال إن هذا التصوُّر لا يضع في اعتباره التضخُّم، وإن الوديعة يجب أن تصل إلى خمسة ملايين على الأقل. ولمَّا كان الحصول على مليون أو أكثر من التبرُّعات من الصعوبة بمكان نظرًا للركود الاقتصادي الذي تعانيه البلاد، ورأى «الأستاذ» أن تكون هناك مجموعة من «الرعاة» المصريين في حدود العشرة أفراد، يتبرَّع كلٌّ منهم للجمعية بمبلغ عشرين ألفًا من الجنيهات سنويًّا، ولمدة خمس سنوات حتى تُعطي الجمعية دفعةً قوية لخدمة تاريخ مصر. ووعد بأن يتولَّى بنفسه مجموعةً من «الرعاة» وأن يكون أول المتبرِّعين.
سعِد القوم باقتراح «الأستاذ»، وشكروه بحرارة، وطلبوا منه أن يُلقي محاضرةً في الموسم الثقافي القادم (أكتوبر ٢٠٠٢م–مايو ٢٠٠٣م) في موضوع يختاره. فأبدى موافقته من حيث المبدأ، محذِّرًا من أن ذلك قد يجر المتاعب على الجمعية. فطمأنوه إلى أن الجمعية هيئة علمية أهلية مستقلة، وهي حريصة تمامًا على استقلال قرارها وإدارتها. وعندما فتح «الأستاذ» موضوع الوثائق التاريخية التي يحتفظ بنسخ منها، ويريد إيداعها هيئةً خاصة يطمئن إليها، أبدى ممثِّلو الجمعية استعدادهم لقَبول تخصيص مكان لها بمكتبة الجمعية، بعدما تشرف الجمعية بزيارته ليطمئن بنفسه على صلاحية الجمعية لهذا الغرض.
وفي اليوم التالي للمقابلة، حمل صاحبنا مجموعةً من مطبوعات الجمعية وخطاب شكر لهيكل على المقابلة، سجَّل فيه كل ما تمَّ الاتفاق عليه، وختمه بطلب تحديد الموعد الملائم «للأستاذ» لإلقاء محاضرته بالجمعية وموضوع المحاضرة. وسلَّم الرسالة والكتب المهداة (بنفسه) لسكرتير هيكل.
وبعد نحو الأسبوع، تلقَّى صاحبنا مكالمةً تليفونية من هيكل شكره فيها على الكتب المهداة، وقال إن لديه سؤالًا مهمًّا حول الجمعية، قد يبدو تافهًا، ولكنه مهم بالنسبة له: «هل لمن يسمَّى عبد العظيم رمضان علاقة بالجمعية؟» فقال له صاحبنا إن رمضان كان عضوًا بالجمعية منذ سنوات، ولكن سقطت عضويته لانقطاعه عن سداد اشتراكات العضوية، وذلك منذ رسب مرتَين في انتخابات مجلس الإدارة، وإنه لا همَّ له إلا الهجوم على الجمعية وخاصةً صاحبنا. فقال هيكل: «يعني مش سايب حد … على العموم شكرًا، دي معلومة مهمة بالنسبة لي.» وانتهت المكالمة عند هذا الحد.
وظل صاحبنا يتصل بمكتب هيكل على فترات متباعدة (يوليو–سبتمبر ٢٠٠١م)، فكان يتلقَّى ردًّا بأن «الأستاذ» غير موجود، أو أنه نبَّه إلى عدم إزعاجه، وفي كل مرة كان صاحبنا يترك اسمه وأرقام تليفوناته، ورسالةً مؤدَّاها أن الجمعية بانتظار ردِّه (الكريم) على دعوتها. ولكن يبدو أن الرجل لم يكن جادًّا فيما وعد به من «رعاية»، أو أنه أعاد حساباته فوجد أن من مصلحته أن ينأى بنفسه عن الوقوع في هذه «الورطة»، فلم يسمع صاحبنا منه!
وهكذا كانت استجابة سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لنداء مجلس إدارة الجمعية، وتشييده لمبنى المقر الجديد بمدينة نصر الذي أُقيم بتكلفة قدرها ٣٫٥ مليون جنيه مصري دفعها من ماله الخاص، كانت بمثابة ميلاد جديد للجمعية المصرية للدراسات التاريخية من الناحية المادية، وبقي التعبير عن هذا الميلاد الجديد من الناحية العلمية والثقافية. كانت الجمعية في مقرها القديم تقدِّم خدماتها للأعضاء من الرابعة إلى الثامنة مساءً فقط، أمَّا الآن فأصبحت مؤسسةً تعمل من التاسعة صباحًا حتى الثامنة مساءً تقدِّم خدماتها للأعضاء والمجتمع كله. وتطلَّب ذلك وضع تنظيم إداري جديد، حمل صاحبنا عبأه بحكم خبرته القديمة بالمسائل الإدارية والمالية منذ شبابه الباكر، أيام عمله بكفر الزيات، وسانده مجلس الإدارة بإقرار ما وضعه من نظام إداري بعد شرحه المستفيض لأعضاء المجلس لكل صغيرة وكبيرة.
ووجدت مكتبة الجمعية مستقرًّا لها في طابقَين من المبنى الجديد متصلَين ببعضهما البعض، وخُصِّص بها مكان للكتب النادرة والمصادر التي تعود طبعاتها إلى القرن التاسع عشر بمختلِف اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية. واتبع نظام المكتبة المفتوحة؛ حيث ينتقي الباحث الكتب من فوق الرفوف وينقُلها إلى طاولة الاطلاع، ثم يتركها في مكانها بعد فراغه منها ليُعيدها الأمين إلى موضعها بالرفوف. ولمَّا كان فهرس المكتبة لم يُضَف إليه ما ضُم من كتب منذ أوائل السبعينيات بسبب عدم وجود العدد الكافي من الأمناء، فكان لدى الجمعية أمين واحد للمكتبة يعمل مساءً، أصبحت الحاجة ماسةً إلى توفير عدد من الأمناء للقيام بأعمال الفهرسة والتصنيف، وخدمة الباحثين في نوبتَين؛ صباحًا ومساءً، وقدَّر صاحبنا حاجة المكتبة بثمانية من الأمناء.
ولكن من أين تحصل الجمعية على هذا العدد من الأمناء ذوي الخبرة؟ وكيف تتحمَّل رواتبهم بمواردها التي لا تكاد تكفي تغطية استهلاك المياه والكهرباء والصيانة وأجور عُمال النظافة والسكرتارية، والمصروفات النثرية؟ هنا لجأ صاحبنا إلى دار الكتب المصرية، بعد أن علم أن الدار تُعير بعض الأمناء إلى الجمعية الجغرافية ومكتبات بعض الأندية، فالتقى سمير غريب (رئيس دار الكتب) وطلب منه مدَّ الجمعية بثمانية أمناء، فاستجاب الرجل على الفور، وقدَّم للجمعية (على سبيل الإعارة) العدد المطلوب من الأمناء على أن تتحمَّل دار الكتب مرتَّباتهم وحوافزهم، وهن جميعًا من السيدات المقيمات بمدينة نصر، وأحدثهن خدمةً تزيد سنوات خبرتها عن عشر سنوات. فقدَّم سمير غريب بذلك للجمعية خدمةً جليلة تنم عن إدراكه لأهمية رسالتها، وأصبح ذلك أمرًا واقعًا التزم به خلفه صلاح فضل الذي تعاون مع الجمعية بلا تحفُّظ، وإن ظهرت بوادر التراجع (النسبي) لهذا التعاون في عهد رئاسة أحمد مرسي لدار الكتب، فعندما طلبت أمينتان من الأمناء العودة إلى دار الكتب، ماطل رئيس الهيئة في تزويد الجمعية بالبديل.
وعلى كل، بفضل هذا التعاون المثمر من جانب دار الكتب، تمَّ الفراغ من تصنيف وفهرسة المقتنيات العربية بالمكتبة على مدى العامَين، وبدأ العمل في فهرسة الكتب المطبوعة باللغات الأجنبية، وقامت الجمعية بتعيين خبيرَين بالفهرسة من العاملين السابقين بدار الكتب (المتقاعدين) بنظام المكافأة؛ لدعم فريق العمل بالخبرة المتميِّزة.
ولمَّا كان المبنى مزوَّدًا بحجرة مُعَدة لتأسيس مكتبة إلكترونية، وهو ما لم يتم توفيره في إطار الجانب الخاص بتأثيث المبنى، فقد ظلت الحجرة فارغة، وحاول صاحبنا استكمال المكتبة، فلجأ إلى وزارة الاتصالات ووزارة الشباب، دون جدوى. وأخيرًا قدَّم الدكتور فطين أحمد فريد الأستاذ المساعد بجامعة قناة السويس وعضو مجلس إدارة الجمعية (وكان ضابطًا سابقًا برتبة العميد)، قدَّم مساعدةً جليلة بدفع طلب الجمعية تأسيس مكتبة إلكترونية في قنوات وزارة الدفاع، فصدر قرار وزير الدفاع بمنح الجمعية التجهيزات اللازمة لإقامة المكتبة، وتمَّ ذلك بالفعل في ربيع عام ٢٠٠٤م، واستكمالًا لتحديث الخدمة، قامت الجمعية بإقامة شبكة للحواسب الآلية ربطت بين المكتبة الإلكترونية ومكتبة الجمعية بما تطلَّب ذلك من أجهزة ومعدات، وبذلك بدأ إعداد فهرس إلكتروني (رقمي) لمقتنيات المكتبة.
وبعد إقامة المكتبة الإلكترونية، توافرت للمتردِّدين على مكتبة الجمعية خدمة الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، وقام الدكتور صبري العدل (عضو الجمعية) بتصميم موقع للجمعية على الشبكة الدولية يضم المعلومات الأساسية عنها وعن نشاطها، والإعلان عن برنامجها العلمي والثقافي، وسوف يُضاف إليه الفهرس الرقمي لمقتنيات مكتبة الجمعية عند اكتماله.
أمَّا عن إعادة تنظيم النشاط الثقافي للجمعية فقد اضطلع به عاصم الدسوقي، ثم عُبادة كُحيلة. وكان لكلٍّ منهما فضل الارتقاء بمستوى الخدمات الثقافية التي تقدِّمها الجمعية بالإعداد الجيد للموسم الثقافي كل عام، وفتح منبر الجمعية أمام أصحاب الرؤى الجديدة من مختلِف المدارس والتوجُّهات، دون تمييز (سوى بين الغث والثمين). كما نجح كل منهما في الإعداد الجيد لندوات الجمعية؛ فنظَّم عاصم الدسوقي ندوة «المصريون والسلطة» وندوة «الدين والدولة في الوطن العربي»، ونظَّم عُبادة كُحيلة ندوة «التقاء الحضارات في عالم متغيِّر حوار أم صراع؟» وندوة «الثورة والتغيير في العالم العربي»، كما تعاون معه عاصم الدسوقي في تنظيم ندوة «تطوُّر الفكر العربي»، وكلها ندوات أعادت للجمعية حيويتها ونشاطها الذي افتقدته منذ ترك رئاستها أحمد عزت عبد الكريم. ووضعها هذا النشاط في موقع متميِّز على ساحة الدراسات الخاصة بالشرق الأوسط على المستوى العالمي، فأصبح نشاطها العلمي يحظى بالمتابعة والمشاركة من جانب متخصِّصين متميِّزين من أوروبا وأمريكا. كما أُدرجت مجلتها العلمية في الدليل الدولي للمجلات العلمية.
ولم يتوقَّف النشاط العلمي على الموسم الثقافي الذي تُلقى فيه محاضرتان شهريًّا (من أكتوبر–مايو)، والندوة السنوية التي تستمر عادةً على مدى ثلاثة أيام كاملة، بل هناك سمنار الباحثين الشبان في التاريخ العثماني الذي أنهى العام ٢٠٠٤م عشر سنوات من عمره، ونُشرت أربعة كتب تضم جانبًا من أعماله، ونُظم في العام ٢٠٠٤م ثلاثة سمنارات أخرى شهرية في التاريخ القديم (اليوناني–الروماني) والتاريخ الإسلامي والوسيط، ثم التاريخ المعاصر.
وتقدِّم هذه السمنارات بحوثًا متميِّزة يتم فيها التواصل بين التاريخ والعلوم الإنسانية الأخرى، وتُولي قضايا المنهج اهتمامًا خاصًّا. ويرجع الفضل في تنظيمها وإدارتها إلى ناصر أحمد إبراهيم ونللي حنا (التاريخ العثماني)، وأبو اليسر فرح (القديم)، وعلي السيد علي (الإسلامي والوسيط). وتعتزم الجمعية أن تعمل على نشر أعمال هذه السمنارات الثلاثة الأخيرة في كتب تُصدرها من خلال التعاون مع دور النشر المختلفة.
وهكذا تحوَّلت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية — بفضل مكرمة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي — إلى مركز ثقافي علمي متميِّز، ومنارة للعمل العلمي الذي لا يهدف سوى لخدمة تاريخ هذه الأمة، ومعهدًا للإعداد العلمي للكوادر العلمية. وما حدث — على هذا النحو — من تطوُّر شهدته الجمعية، ليس بعثًا لها، وإنما كان ميلادًا جديدًا؛ لأن نشاط الجمعية الآن — كمًّا وكيفًا — غير مسبوق في تاريخها منذ تأسيسها عام ١٩٤٥م.
ولكن ذلك لا يعني أن تأسيس المقر الجديد كان نهايةً للمتاعب، أو أن مُناخ العمل كان معتدلًا، ساعد مجلس الإدارة برئاسة صاحبنا على قيادة الجمعية دون التعرُّض للأنواء، فهناك متاعب لا حصر لها واجهتها الجمعية من إدارة الجمعيات بالشئون الاجتماعية. وعندما كانت الجمعية تعاني المصاعب المالية، ولا تقدِّم سوى نشاط شكلي محدود، حظيت برضا إدارة الجمعيات، فلم تكن أعمالها تتعرَّض للمضايقات من جانب موظفي تلك الإدارة التي تُعد نموذجًا فذًّا للفساد البيروقراطي في الإدارة المصرية. فعندما تلقَّت الجمعية أول تبرُّع من الشيخ سلطان القاسمي، بدأت سلسلة المتاعب مع الإدارة المذكورة؛ لأن قانون الجمعيات الأهلية يقضي بضرورة الحصول على إذن وزارة الشئون قبل التصرُّف في مليم واحد من التبرُّعات التي تتلقَّاها الجمعيات من الخارج. ويتطلَّب ذلك تقديم ملف كامل من المستندات يُلحَق بالطلب، وتأخَّرت الموافقة لِمَا يزيد على ستة أشهر، وعندما راجع أمين عام الجمعية الإدارة المعنية قالوا له صراحةً إنهم لا يمكنهم أن يقفوا موقف المتفرِّج من هذا التبرع دون أن ينالهم نصيب! وعندما تلقَّت الجمعية تبرُّع الأمير طلال بن عبد العزيز، ثم التبرُّع الثاني من الشيخ سلطان القاسمي، ازدادت المتاعب مع الإدارة، فعلَّقت الموافقة على مراجعة مستندات الجمعية وسجلاتها، وبعد ستة أشهر تمَّت المراجعة، فقال مفتشوهم إنهم اكتشفوا أن مجلس الإدارة باطل لأن عدد الأعضاء بالسجلات يزيد على ١٢٠٠ عضو، ولكن من وُجهت لهم الدعوة لحضور الجمعية العمومية التي انتخبت مجلس الإدارة كانوا ١٩٠ عضوًا هم أولئك الذين سدَّدوا الاشتراكات منذ أعوام؛ لذلك لا بد من إسقاط المجلس بالكامل ودعوة جميع الأعضاء المسدِّدين وغير المسدِّدين لانتخاب مجلس جديد، وأن على المجلس أن يصفِّي أولًا مشكلة العضوية، فيُسقط عضوية من لا يقبل سداد الاشتراكات المتأخِّرة. وهمس كبير المفتشين في أُذن المدير الإداري للجمعية بما يفيد أن من مصلحة الجمعية أن يتولَّى أحد موظفي إدارة الجمعيات (أي شخصه) تسهيل أعمال الجمعية بالإدارة لقاء مكافأة شهرية، وعندما سأله المدير الإداري عن كيفية تسوية مبالغ المكافأة حسابيًّا قال: «أي حاجة … مصاريف نثرية، أو اعملوا بند إكراميات … على العموم لو قبل رئيس مجلس الإدارة الاقتراح أنا أحل كل شيء.»
وهنا اتجه مجلس الإدارة إلى العمل في اتجاهَين؛ حل مشكلة العضوية بعد توجيه خطابات للأعضاء غير المسدِّدين لاشتراكاتهم وترك مهلة زمنية لهم للسداد (٣٠ يومًا) ثم إسقاط عضوية من لم يسددوا. وتكليف صاحبنا بالشكوى إلى هيئة الرقابة الإدارية بشأن ابتزاز إدارة الجمعيات، والسُّعار الذي أصاب موظفيها طلبًا لرشوة شهرية ثابتة لقاء أن «يمشي الحال».
وأُعيد انتخاب مجلس الإدارة بالكامل، واختار أعضاء المجلس (الذي دخلته بعض عناصر الشباب) صاحبنا رئيسًا للمجلس، وصدرت موافقات إدارة الجمعيات (بضغط من الرقابة الإدارية) على مدى عام بما في ذلك الموافقة على قَبول هبة سمو الشيخ (الدكتور سلطان القاسمي)، وهي أرض ومبنى المقر الجديد وأثاثه، ونُقلت تبعية الجمعية من إدارة غرب القاهرة التي تضم حيتان إدارة الجمعيات إلى إدارة شرق مدينة نصر التي تعد نموذجًا طيبًا غريبًا على وزارة الشئون الاجتماعية، ولكن ما تزال إدارة الجمعيات بوكالة الوزارة بمحافظة القاهرة تماطل في الموافقة على التبرُّعات التي تلقَّتها الجمعية أخيرًا، فلا تأتي الموافقة إلا بعد عام كامل من التقدُّم بالطلب. وقد يئس صاحبنا من اللجوء إلى المسئولين الكبار، فلم يُجده نفعًا الشكوى لوزيرة الشئون الاجتماعية، ولا إلى محافظ القاهرة، وكذلك هيئة الرقابة الإدارية؛ فهذه الشكاوى تنتهي دائمًا إلى المشكو منه، فيرد بإجابة تكفي المسئول مشقة التحقُّق من صحتها، فيزداد الموظفون الأوغاد توحُّشًا وفجورًا.
وبعدما أعيت صاحبنا الشكاوى، لجأ إلى بعض عتاة من أهل الخبرة ممن يتولَّون أمور الجمعيات الخيرية (التي تخضع للقانون نفسه) يسأل عن كيفية تعاملهم مع الشئون الاجتماعية، وكيف يتصرَّفون مع زبانيتها، فعلم أن كل جمعية من تلك الجمعيات تخصِّص مبلغًا شهريًّا تدفعه لمن يحدِّده رئيس إدارة الجمعيات، وأن المبالغ كلها تتجمَّع عند المدير ليُعاد توزيعها على موظفي الإدارة. وعندما سأل صاحبنا عن كيفية تسوية هذا المبلغ حسابيًّا، علم أن هذه الجمعيات تُجنِّب بعض ما تحصل عليه من تبرُّعاتِ أهل الخير في شهر رمضان لتغطية هذه «النفقات غير المنظورة»، فلا يُدرج هذا المبلغ في السجلات المالية للجمعية أصلًا. ثم تنبَّه مسئول الجمعية إلى أنه تحدَّث مع صاحبنا بما يتجاوز حدود الأمور، فسأله: «هو جمعيتكم بتدفع مبلغ بسيط عشان كده بيضايقوكم؟ أحسن ليكم تسألوهم عاوزين كام وتريحوهم.» ردَّ صاحبنا بأن الجمعية التاريخية لا تدفع شيئًا لمفتشي إدارة الجمعيات، ولا لمفتشي الجهاز المركزي للمحاسبات (وقد جاء في حديث الرجل أنهم أيضًا يحصلون على مبلغ سنوي عند التفتيش على سجلات الجمعية الخيرية)؛ فالجمعية التاريخية مواردها محدودة ومعلومة، وليس لديها «صندوق زكاة» أو «ملجأ أيتام» تجمع الأموال تحت غطائه ليتصرَّف فيها «العاملون عليها» دون ضمير أو وازع خلقي أو ديني. المهم أن صاحبنا كان يدفع زكاته لمثل هذه الجمعيات، فأصبح بعد هذا الحديث في حيرة من أمره، وبدأ يفهم السر وراء انتشار وزيادة عدد الجمعيات الخيرية في السنوات الأخيرة.
ولم يواجه صاحبنا متاعب التعامل مع إدارة الجمعيات بالشئون الاجتماعية والجهاز المركزي للمحاسبات وحدهما بعد هذا التطوُّر الذي شهدته الجمعية، بل واجه موجةً من شائعات أطلقها من وصفهم طه حسين في إهدائه لكتاب «المعذَّبون في الأرض»، وهم: «الذين لا يعملون ويضيرهم أن يعمل غيرهم.» كان القصد من تلك الشائعات التأثير على الناخبين لإبعاد صاحبنا، أو الحيلولة دون حصوله على أعلى الأصوات. واستخدم هؤلاء وضعهم في لجان ترقيات أعضاء هيئة التدريس، وما لهم من سلطة ونفوذ على طلبة الدراسات العليا، وتعاون معهم بعض أعضاء مجلس الإدارة الذين ساءهم عدم انقياد صاحبنا لرغباتهم الشخصية التي تتعارض مع مصلحة الجمعية. ورغم ذلك أُعيد انتخاب صاحبنا، ولم يستطع أحد من تلك الزمرة الفاسدة أن يتسرَّب إلى مجلس الإدارة، بفضل وعي أعضاء الجمعية ومعرفتهم بسِجل أولئك الأفراد الحافل بكل مظاهر الفساد، وليقينهم أن استمرار تلك المجموعة التي نقلت الجمعية من الجمود إلى الحركة، ومن هامش الحياة الثقافية إلى قلبها، من أمثال: عادل غنيم وعبد المنعم الجميعي وأيمن فؤاد سيد ونللي حنا وعُبادة كُحيلة وعاصم الدسوقي ومنى بدر، وغيرهم من الشباب الذين دخلوا المجلس من أمثال نجوى كيره، وأحمد زكريا الشلق، وأحمد الشربيني، ويحيى محمد محمود، ويقينهم أن هؤلاء هم الأقدر على استمرار مسيرة الجمعية على طريق التقدُّم والازدهار.
ولا يعني ذلك أن صاحبنا، وتلك النخبة النبيلة من الزملاء الذين يتعاونون معه، يؤمنون باحتكار إدارة أمور الجمعية، ولكنهم يعملون بدأب على تدريب الكوادر الشابة، وتشجيعها على التقدُّم لعضوية مجلس الإدارة، حتى يكتسبوا خبرة إدارة مثل تلك المؤسسة العلمية، وتنتقل إليهم مسئولية قيادتها وتوجيه نشاطها بما يخدم أهداف الجمعية، ويدعم رسالتها في خدمة تاريخ الأمة.
ومن المأمول أن يكون للشباب الأغلبية في عضوية المجلس قبل انتهاء دورته الأولى (٢٠٠٩م)، ليتحقَّق للجمعية إدارة ذات فكر متطوِّر، يواكب العصر، ويضع الجمعية على طريق النمو والازدهار. وعندما يحتفل أعضاء الجمعية باليوبيل المئوي لها عام ٢٠٤٥م، قد يذكرون تلك النخبة التي لعبت دورها بتجرُّد، وأمانة، وإنكار للذات، وفي مقدِّمتها الرجل العظيم الذي لولا رعايته الكريمة للجمعية، لَمَا كان هذا الميلاد الجديد «سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي»، يومها سيكون الجميع في رحاب من يغدق الجزاء على من أحسن عملًا، ولكن أرواحهم سوف تشعر بالطمأنينة عندما تظل ثمرة عملهم يانعة، تزداد شبابًا بمرور الزمن.